وقفات مع بعض ما عظم خبره في الكتاب والسنة

صالح المغامسي
عناصر الخطبة
  1. توضيح المراد بعبارة \"عظيم\" .
  2. عظمة العرش وفضله .
  3. عظمة وفضل السماوات والأرض .
  4. عظمة الملائكة وفضلهم .
  5. عظمة محمد -صلى الله عليه وسلم- وفضله .
  6. عظمة الأعمال الصالحة وفضلها .
  7. أعظم مخاوف المؤمن في الدنيا والآخرة وكيفية الوقاية منها .

اقتباس

عباد الله: فإن من العظيم ما هو أمر مخوف، والمعنى أن الإنسان يخافه، ومن ذلك أمران: أحدهما: يخافه المؤمن في الدنيا، والآخر: يكون يوم البعث والنشور. فأما أعظم المخاوف في الدنيا؛ خوف المؤمن الذي أكرمه الله -عز وجل- بالطاعة والصلاح، والصلاة والصيام، والصدقة، خوفه من أن...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له: (خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى)[الأعلى:2 - 5].

وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، بلغ عن الله رسالاته، ونصح به في برياته، نبي سلم الحجر عليه، ونبع الماء من بين أصبعيه، فصلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه.

اللهم وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اتبع أثره، واتبع منهجه، بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

عباد الله: فإن الوصية بتقوى الله -عز وجل- كانت وما زالت وستبقى وصية الله -عز وجل- للأولين والآخرين، لا يستكبر مؤمن أن يسمعها، قال الله -عز وجل- لصفوة رسله، وخير خلقه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ) [الأحزاب: 1].

وقال عز وجل يبين لعباده عظيم هذه التقوى وأثرها: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق:2 - 3].

ثم اعلموا -عباد الله- أن لفظ كلمة "عظيم" في اللغة إنما أصله ما كان عظيم الخلقة في عظامه، ثم استعير في كلام العرب، وجرى مجراه في كل ما عظم، سواء كان عينا، أو كان أمراً معنويا.

وهي مفردة ذكرت كثيرا في كتاب الله الكريم، وفي حديث رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وفي أحاديث الناس من العلماء وغيرهم، فهناك العظيم من المخلوقات، وهناك العظيم من الأنباء، وهناك العظيم من الفضل، وهناك العظيم من المخاوف، وهناك العظيم من غير ذلك.

وتأمل بعض هذه التي وصفت بأنها ذات عظيم، ربما أرشد إلى القرب من الله، والزلفى لديه، وجليل العلم بمقاصد الشرع المطهر، سواء كان ذلك في كتاب الله أو في سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-.

فأما من المخلوقات، فالعرش أعظم المخلوقات، وأجلها قدرا، يدل على ذلك أن نبينا -صلى الله عليه وسلم- لما علم أم المؤمنين جُوَيْرِيَةَ كيف تذكر الله؟ قال: قولي "سبحان الله، عدد خلقه، وزنة عرشه".

فقال صلى الله عليه وسلم "وزنة عرشه"؛ لأن عرش الرحمن أعظم المخلوقات قدرا، وأجلها طهرا.

والله -عز وجل- استوى عليه استواء يليق بجلاله وعظمته، وأضاف الله العرش لذاته العلية، إضافة تشريف.

وقد ألهم الهدهد، أن يقول لسليمان: (وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [النمل: 24 - 26].

والعرش سرير ذو قوائم، وحوله من الملائكة طائفتان: طائفة تحمل العرش، جاء في القرآن العظيم: (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) [الحاقة: 17].

وطائفة يطوفون حول العرش يعظمون ربهم، يذكرونه، يسبحون بحمده، قال ربنا -عز وجل-: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) وهؤلاء الطائفة الأولى: (وَمَنْ حَوْلَهُ) أي من يطوفون حول العرش، وهؤلاء هم الطائفة الثانية، وكلا الطائفتان تتفقان في أنهما يسبحان بحمد الله، قال الله -عز وجل-: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) [غافر:7].

فالعرش أعظم المخلوقات، وله يوم القيامة ظل، وهذا الظل يندرج تحته الأخيار من العباد، والمتقون من الأشهاد، قال عليه الصلاة والسلام: "سبعة يظلهم اللَّه في ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ إمام العادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في اللَّه اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف اللَّه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر اللَّه خالياً ففاضت عيناه".

ولا يعدم المؤمن إن وفق أن يكون واحد ممن أولئك السبعة.

-جعلني الله وإياكم ممن يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله-.

والمراد من هذا كله، بيان عظمة العرش، وأنه أعظم المخلوقات، ولهذا استحق أن يستوي رب العزة والجلال عليه.

من عظيم المخلوقات: السماوات والأرض، ربنا -عز وجل- يقول في كتابه العظيم: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [غافر:57].

وخلق السماوات والأرض، خلق الله -عز وجل- الأرض ابتداءً في يومين، ثم استوى جل وعلا إلى السماء فخلقها، وأكمل خلقها في يومين، ثم أتم جل وعلا خلق الأرض، أي دحاها في يومين، فأضحت أيام الخلق كلها ستة أيام، خلق فيهن سبع سماوات، وسبع أراضين، قال الله -عز وجل- في سورة فصلت: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [فصلت: 9- 12].

من هذه الآيات الأربع المتتابعات في سورة فصلت يتضح أمورا إذا جمعت هذه الآيات مع غيرهن من آيات الكتاب المبين التي تحدثت عن خلق السماوات والأرض، من ذلك أن الله جعل للسماء أبوابا، قال عز وجل: (وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَابًا) [النبأ: 19].

من هذه الأبواب تعرج الأعمال الصالحة إلى رب العرش جل جلاله: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر: 10].

والمؤمن يعلم أن تقواه، تفرض عليه أن يكون له عمل صالح في اليوم والليلة، يصعد إلى رب العزة، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- لما ذكر عظمة ربه، قال: "يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل".

هذه الأبواب منها أن المؤمن إذا قبضت روحه، وصعدت تفتح له أبواب السماء، وعلى الضد من ذلك -عياذا بالله- من كان روحه كافرة زاجرة فاسقة، ربنا -عز وجل- يقول: (لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء) [الأعراف: 40].

فأخبر الله -عز وجل- أن أبواب السماء توصد أمام أرواح الكفار.

مما تفتح له أبواب السماء: "دعوة المظلوم" فقد روى الإمام أحمد بسند صحيح في المسند: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم تحمل في الغمام، وتفتح لها أبواب السماء، فيقول رب العزة والجلال: لأنصرك ولو بعد حين".

ولهذا كان المسلمون الصالحون منهم -جعلني الله وإياكم من أهل هذا الطريق- يبتعدون كل البعد عن ظلم الناس، يبتعدون عن الظلم في بيعهم في شرائهم، مع جيرانهم، مع أهليهم، مع من جعلهم الله -عز وجل- تحت أيديهم، كل ذلك يخافون من دعوة ترفع، فتفتح لها أبواب السماء، ثم ينصرها الرحمن -جل جلاله- ولو بعد حين .

كما أن الأرض منها خلقنا، ربنا -عز وجل- يقول: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) [طه: 55].

ولذلك جاء في الخبر الصحيح: أن الرجل أو المرأة الصغير أو الكبير الصالح أو الكافر إذا وضع في قبره، فإن القبر يضمه، قال بعض أهل العلم: لماذا يضمه؟ قال: لأننا أهل هذه الأرض خلقنا الله -عز وجل- من تراب، فإذا وضع أحد بني آدم في قبره، ضمته الأرض، فإن كان تقيا صالحا عرف عبادة ربه، كانت ضمته ضمة رحمة، وإن كان -عياذا بالله- على الضد من ذلك، لم يعرف لما خلقه الله، فإن ضمة الأرض تكون عليه ضمة غضب، قال عليه الصلاة والسلام لما دفن سعد بن معاذ، وسعد هو سعد في صلاحه وتقواه ودعوته وصحبته، قال: "إن للقبر ضمة لو نجا منها أحد لنجا منها هذا العبد الصالح".

والله -عز وجل- يقول في الآيات المباركات من سورة فصلت: (اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا) أي السماء والأرض: (أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [فصلت: 11] أي مذعنين لربنا.

يقول بعض أهل العلم: إن الموضع الذي تكلم من السماء هو موضع البيت المعمور فيها، والموضع الذي تكلم من الأرض هو موضع الكعبة، فلذلك جعل الله الكعبة في الموضع الذي تكلم من الأرض جعله بيتا يطاف، وجعل المقدم إليه، والطواف حوله سببا في تكفير الخطايا: "من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه".

هذا من عظيم المخلوقات.

كذلك -أيها المؤمنون- هناك عظيم الأنباء، والنبأ هو الخبر ذو الشأن، الحدث الجلل، والله -عز وجل- قال في كتابه العظيم: (عَمَّ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) [النبأ:1 - 2].

وقال جل وعلا في سورة ص: (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) [ص: 67 - 68].

وأهل العلم من المفسرين اختلفوا في المراد بالنبأ العظيم، لكن فيما يظهر -والعلم عند الله- أن الأرجح أن يقال: إن المراد بالنبأ العظيم البعث والنشور، وأهوال اليوم الآخر، وهذا كائن لا محالة، والذي أنكره كفار قريش: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [التغابن: 7].

فالمراد من النبأ العظيم، ما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وما أخبر القرآن عنه من البعث والنشور، وقيام الأشهاد، وحشر العباد بين يدي ربهم -جل وعلا-، وهذا كما يعلم كل مؤمن كائن لا محالة في أن الناس يبعثون بعد الموت.

إسرافيل -عليه السلام- ملك مبجل، عظيم القدر، جليل المكانة، بيده قرن قد التقمه، وقد أحنى جبهته، وأصغى أذنه، ينتظر أن يأذن الله أن ينفخ في الصور، فينفخ، فإذا نفخ صعق (مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ) [الزمر: 68].

ثم يمكث الناس، يمكث الخلق أربعين، ثم يكون أول من يبعث إسرافيل نفسه، فيأمره الله أن ينفخ نفخة ثانية في الصور نفسه، فينفخ، قال رب العزة، والله أصدق القائلين: (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى) أي في الصور نفسه: (فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ) [الزمر: 68].

يخرج العباد الجن والإنس والوحوش والدواب، وسائر من خلق الله، يخرجون من قبورهم يتقدمهم إسرافيل إلى أرض المحشر، يقول ربنا: (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا) [طه: 108].

ثم يكون العرض يكون الحساب حتى ينتهي الأمر بالناس إلى الجنة أو إلى النار، فلهذا سمى الله -عز وجل- هذا الأمر نبأ عظيم، فهذا من أعظم الأنباء.

كذلك -أيها المؤمنون- هناك العظيم من الفضل، وأعظم الفضل ما خص الله به نبينا ورسولنا محمد بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه-، الله -عز وجل- قال في حقه عليه الصلاة والسلام: (وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) [النساء: 113].

فضل على جسده، وفضل على روحه، وفضل له في الدنيا، وفضل له في الآخرة، صلوات الله وسلامه عليه.

ومن ذلكم الفضل الذي أتاه الله -عز وجل- نبينا -صلى الله عليه وسلم-: أن الله عصمه أن يصل إليه أحد بسوء: (وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة: 67].

وهو في الغار، اجتهد مشركي قريش، الاجتهاد كله، أن يصلوا إليه، فقال صلى الله عليه وسلم كما خلد القرآن ذلك: (إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا) [التوبة: 40].

ولما قُبضت روحه، وانتقلت إلى المحل الأسنى، والرفيق الأعلى، غُسل صلى الله عليه وسلم، لكن شيء من عورته لم ينكشف، وإنما لم يجرد صلى الله عليه وسلم من ثيابه، وكل ذلك من فضل الله على هذا النبي الخاتم -صلى الله عليه-.

وأعظم فضل الله عليه: أن الله أتم به الرسالات، وختم به النبوات، قال الله: (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) [الأحزاب:40].

فلا نبي بعده صلوات الله وسلامه عليه.

وقد جاء في الآثار: أنه قيل له: يا رسول الله إن الله أتى إبراهيم الخلد، وإن الله كلم موسى تكليما، وإن عيسى روح الله وكلمته، فما أتاك الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "كل بنو آدم يوم القيامة -آدم وإبراهيم وغيرهما- تحت رايتي، وهذا هو لواء الحمد".

ثم قال عليه الصلاة والسلام: "وأنا أول من يقرع باب الجنة".

وهذا من فضل الله عليه صلوات الله وسلامه عليه: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) [الإسراء:79].

كما أن من فضل الله -جل وعلا- عليه ما كان له من رحلة الإسراء والمعراج، والله خلد ذلك في القرآن، قال ربنا: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [الإسراء:1].

فعرج به صلى الله عليه وسلم من المسجد الأقصى إلى السماء السابعة، وكان قبل ذلك قد أسري به من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى.

جبت السماوات أو ما فوقهن بهم *** على منورة درية اللجم

ركوبة لك من عز ومن شرف  *** لا في الجياد ولا في الأينق الرسم

حتى بلغت سماء لا يطار لها  *** على جناح ولا يسعى على قدم

وقيل كل نبي عند رتبته  *** ويا محمد هذا العرش فاستلم

مشيئة الخالق الباري وصنعته  *** وقدرة الله فوق الشك والتهم

وقد أكرمنا الله جميعا -ولله الحمد والمن والفضل- أن جعلنا من أمة هذا النبي الكريم، محمد بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه-.

وهو عليه الصلاة والسلام جعل الحوض موعدا بيننا وبينه، فكل من آمن به وصدقه، وقضى حياته على سنته، وعظم أمره ونهيه، وأجل الله -عز وجل- الذي أمرنا نبينا بإجلاله، يلقاه على الحوض -سقاني الله وإياكم من حوض نبيه صلوات الله وسلامه عليه-.

أيها المؤمنون: ومن العظيم ما يكون عظيم الأثر، ومن الأعمال التي يعظم أثرها الصدقة، والإنفاق في سبيل الله، النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لمعاذ: "أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلاَةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ".

كما أن نبينا -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن صدقة يذهب بها الله -عز وجل- حر القبور، والقبر دار لا بد من سكناها، فما يذهب حرها يذهب وهجها، يذهب ظلمتها، أن يكون الإنسان كثير الصدقة، وأنت إذا تدبرت القرآن علمت أن الميت إذا دنا من قبره، لا يتمنى شيء يصنعه قبل أن يموت من مثل أن يتصدق.

الله -عز وجل- قال: (كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ) [القيامة:26 - 30].

ثم قال جل ذكره: (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى) [القيامة:31].

وقال في آية أخرى يتكلم على رغبة من يموت على غير طاعة الله أن يقول: (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ) [المنافقون: 10].

وكلما وافق الصدقة والإنفاق فقيرا: (يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) [البلد: 15 - 16].

كانت أعظم أثرا، وأجل نفعا، فإن وضعت في السبيل الذي يدعى فيه إلى الله -عز وجل- كان خيرا، فكون المرء يضع صدقته، أو بعض نفقته في الدعوة إلى الله، يكتب له الأجر، ويعظم عند الله -عز وجل- في المنزلة، ويجد بركتها في حياتها وبعد مماته؛ لأن الدعوة إلى الله -عز وجل- أنبل السبل، وأقوم الطرق، والله يقول: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ) [النساء:125].

جعلنا الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى، وسلاما على عباده الذين اصطفى.

أما بعد:

عباد الله: فإن من العظيم ما هو أمر مخوف، والمعنى أن الإنسان يخافه، ومن ذلك أمران:

أحدهما: يخافه المؤمن في الدنيا، والآخر: يكون يوم البعث والنشور.

فأما أعظم المخاوف في الدنيا: خوف المؤمن الذي أكرمه الله -عز وجل- بالطاعة والصلاح، والصلاة والصيام، والصدقة، خوفه من أن يموت على خاتمة سيئة، أو أن يسلب منه هذا الدين الذي زينه وجمله الله -عز وجل- فيه.

روى الإمام مالك في الموطأ من حديث أبي عبد الله الصنابحي أنه قال: "دخلت المدينة في خلافة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه وأرضاه- فصليت وراءه صلاة المغرب، فسمعته يقرأ في الركعتين الأولين بأم القرآن، وسورة من المفصل، قال: فلما قام إلى الركعة الثالثة قرأ بأم القرآن، فدنوت منه حتى إن ثوبي يكاد يلامس ثوبه، فسمعته يقرأ بقول الله -عز وجل: (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران:8].

قال العلماء: "إن الذي دفع الصديق -رضي الله عنه وأرضاه-؛ لئن يقرأ هذا أن الناس كثيرا في زمنه ارتدوا عن الدين، فخاف على نفسه الفتنة، خاف على نفسه أن يسلب نعمة الإسلام، وهو المبشر بالجنة؛ لأن المؤمن يبقى بين الخوف والرجاء.

ولهذا روى الإمام الترمذي في سننه من حديث شهر بن حوشب، قال: سألت أم المؤمنين أم سلمة -رضي الله عنها وأرضاه- ما كان أكثر دعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عندك؟ أي في بيتك، قالت: كان أكثر دعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" قالت أم سلمة: فقلت يا رسول الله ما أكثر دعائك "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك؟" فقال عليه الصلاة والسلام: "يا أم سلمة إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه".

فاللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبنا على دينك.

هذا -أيها المؤمن- ما يخافه المؤمن في دينه في دنياه، قال الإمام ابن رجب -رحمه الله-: "إنما يكون سوء الخاتمة من دسيسة لدى العبد لا يطلع عليها الناس".

فتقربوا إلى الله، بكثرة الاستغفار، وكثرة ذكره، وصلاح السرائر، وأن يكون لكم حظ من قيام الليل في ظلمات الليل، فإن ذلك مما تخلص به السرائر إلى الله.

وأما يكون يوم القيامة، فقد خلده القرآن في سورة التحريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التحريم:8].

هذه الأمة المؤمن والمنافق منها يعطى نورا يوم القيامة، ثم يمضون بنورهم على الصراط، فما أن يصعد المنافقون الصراط إلا ويطفأ النور، فيبقى المؤمنون الذين على الصراط يخافون أن يلحقهم مثل ما لحق المنافقين، فيناجون ربهم ينادونه: (رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التحريم: 8].

فيكون الأمر بالنسبة لهم رجاء وتضرع إلى رب العزة والجلال، فيكرمهم الله، يتم عليهم النور، حتى يصلون بذلكم النور إلى جنات النعيم.

وذلكم النور يكون على قدر عمل العبد الصالح في الدنيا، جاء في الآثار: "إن من المؤمنين من نوره بين يديه من المدينة إلى عدن، ومنهم من يكون نوره في أسفل إبهام قدمه، لا يكاد يتجاوز ما حوله".

وقال العلماء: "إن النور يكون بين يدي المؤمن حتى يعلم أن ذلك كرامة له من الله، وإنما يكون ذلكم النور بتقواك، بعملك الصالح، بخوفك من ربك، ببرك لوالديك، بإحسانك لجيرانك، بقيامك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بكثرة ذكرك لله، فإن الله يقول: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) [العنكبوت: 45].

كل عمل صالح عبدت الله به، أخلصت به نيتك، ووفقت فيه هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ينقلب نورا يوم القيامة، وقد قال الله -عز وجل- في سورة الحديد: (نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [الحديد: 12].

قال العلماء: "إنما ذكر الله الأيمان، وهي جمع يمين؛ لأن اليمن بها تقام نفائس الأعمال، فالصحابة -رضي الله عنهم وأرضاهم- بأيمانهم، بايعوا النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن جاء بعدهم من الصالحين أمثالكم -وفقكم الله وثبتكم الله على الهدى- بأيمانكم تضعوها على شمالكم، وأنتم تسعون بين يدي ربكم، وبأيمانكم تذبحون أضحيتكم، وبأيمانكم تتصدقون وتعطون الفقراء والمساكين، وبأيمانكم تلمسون الحجر، إذا تيسر ذلك، وبأيمانكم تضعونها على رؤوس اليتامى، ترققون بها قلوبكم، وتقربون بذلك إلى ربكم، وبأيمانكم تصافحون المسلمين، فتزول البغضاء والعداوة والشحناء، وغير ذلك من نفائس الأعمال التي يأتيها المؤمن بيمينه، فيكرم الله ذلك تلك اليمين يوم القيامة، فيعطى العبد الصالح التقي المؤمن بها كتابه، ثم يعطى بها نوره، قال الله -عز وجل-: (نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم).

هذا، واعلموا أنكم في يوم الجمعة سيد الأيام، فأكثروا فيه من الصلاة والسلام على سيد الأنام: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي