اعلم أن اللسان صغير حجمه، عظيم خطره وجرمه، به يصون الإنسان ماله ونفسه وعرضه في الدنيا، ويسعد في الآخرة به، ويهلك في الدنيا، ويسعد في الآخرة، وأن أصر على الكفر ينل منه في الدنيا، ويشقى في الآخرة. حفظه الله بالأسنان والشفتين لكيلا تعجل بإطلاقه، والتفكر فيما تقول، فإن كان خيراً قلته، وإن كان...
فمن نعم الله -عز وجل- التي لا تحصى: أن أحسن خلق الإنسان، وعدله وألهمه نور الإيمان، فزينه به، وجمله وعلمه البيان، فقدمه به وفضله، وأمده بلسان يعبر به عما حواه القلب وعقله.
فاللسان -أخي المسلم- حصانك إن صنته صانك، وإن زنته زانك، وإن خنته خانك، فتدبر أمرك.
واعلم أن اللسان صغير حجمه، عظيم خطره وجرمه، به يصون الإنسان ماله ونفسه وعرضه في الدنيا، ويسعد في الآخرة به، ويهلك في الدنيا، ويسعد في الآخرة، وأن أصر على الكفر ينل منه في الدنيا، ويشقى في الآخرة.
حفظه الله بالأسنان والشفتين، لكيلا تعجل بإطلاقه، والتفكر فيما تقول، فإن كان خيراً قلته، وإن كان شراً سكت عنه.
باللسان تقرأ القرآن، وتذكر الله -تعالى- وتسبحه وتهلله وتصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتدل على الخير، وتنهى عن الشر، وتصلح بين الناس، وتقول الحق والصدق، وتنشر العلم، وتدعو إلى الفضيلة، وتنفر من الرذيلة.
وباللسان يرتكب الكذب والغيبة والنميمة والخصومة، والحلف بغير الله، واللعن والسب والشتم والقذف، وغير ذلك.
فاعجب لهذا العضو وخطورته، يروى أن لقمان الحكيم أمره سيده أن يذبح شاة، ويأتيه بأطيب عضو فيها، فذبحها وأتاه باللسان، وقال له: "هذا أطيب عضو في الشاة".
وبعد مدة أمره سيده بذبح شاة أخرى، وأن يأتيه بأخبث عضو فيها، فذبحها وأتاه باللسان، وقال له: "هذا أخبث عضو فيها".
فاللسان سلاح ذو حدين، يستعمل في الخير، ويستعمل في الشر، وأعضاء الجسم كلها تخشى اللسان وآفاته، فقد روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أصبح ابن آدم أصبحت الأعضاء كلها تذكر اللسان، تقول: اتق الله فينا فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا".
أخي المسلم: إن الكلام من العمل وأنت محاسب عليه لا تظنن أن الأمر هزل، فأهل النار يتعجبون حينما يرون كل ما عملوه من صغير وكبير: قد أحصاه الله عليهم: (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا) [الكهف: 49].
فلا تعجب بعد قول الله -تعالى-: (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18].
لا تعجب بعد قول الله -تعالى-: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة: 7 - 8].
وقد أوضح لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عظمة أمر اللسان وخطورته، وأنه مكمل لسائر أعمال الخير من صلاة، وصيام، وزكاة، وحج، وقيام ليل، وجهاد، وأن سائر الأعمال قد ينقص فضلها وأجرها، بل قد تحبط وتمحى كلها باللسان، بين رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ذلك كله لمعاذ بن جبل حين سأله عما يدخل الجنة ويبعده عن النار.
أخي المسلم: هاك الحديث بتمامه فاسمعه بإمعان، حتى تدرك عظمة اللسان وخطورته؛ روى الترمذي عن معاذ -رضي الله عنه- قال: قال يارسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار؟ قال: "لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله -تعالى- عليه: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً" ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل، أي وسطه، ثم تلا: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) [السجدة: 16] حتى بلغ: (يَعْمَلُونَ) [السجدة: 17] ثم قال: الا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ -أي أعلاه- قلت: بلى يا رسول الله، قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه، وقال: كف عليك هذا، قلت: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: "ثكلتك أمك وهل يكب الناس في النار على وجههم إلا حصائد ألسنتهم".
فإن الإنسان يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيئات، ثم يحصد يوم القيامة ما زرع، فمن زرع الخير من قول أو عمل حصد الكرامة، ومن زرع الشر من قول أو عمل حصد الندامة.
إن حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا يدل على أن أكثر ما يدخل الناس به النار النطق بألسنتهم، فإن معصية النطق يدخل فيها الشرك، وقد علمتم أنه أعظم الذنوب عند الله -عز وجل-، ويدخل فيها القول على الله بغير علم، وهو قرين الشرك أيضاً، ويدخل فيها شهادة الزور والسحر والقذف والكذب والغيبة والنميمة، ولقد كان اللسان بهذه الخطورة والأهمية كان حفظه شعبة من شعب الإيمان.
فالواجب على كل مسلم ومسلمة أن يعملا على حفظ ألسنتهما من كل ما يشين، وأن يجتهدا في ألا يتكلما إلا بما يزين.
والذي يشين اللسان، هو كل ما حرمه الله عليك، فواجب عليك الانتهاء عنه قطعاً.
فاتقوا الله -أيها الناس- واحفظوا ألسنتكم، ولا تطلقوا عنانها فتهلككم، إذا أردتم الكلام في شيء فتذكروا قول ربكم: (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18].
وتذكروا قول نبيكم -صلى الله عليه وسلم-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت".
قال الله -تعالى-: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الإسراء: 36].
فلا تقل -يا عبد الله- رأيت وأنت لم تر شيئاً، ولا تقل سمعت وأنت لم تسمع ولا علمت وأنت لم تعلم، فإن ذلك عين الكذب الذي نهانا عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأمرنا بخلافه، فيما يرويه مسلم عن ابن مسعود قال: "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق، حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب، ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذاباً".
الكذب -عباد الله- هو أن تخبر بالشيء ما هو خلاف ما عليه الواقع، والكذاب جبان له وجهان، لا يجرؤ على الصدق، ولذلك فهو معدود من المنافقين، إذ المنافق يظهر خلاف ما يبطن، ولا ينفصل الكذاب عن النفاق حتى يصدق في الحديث، فإذا صدق زال عنه اسم النفاق، روى مسلم عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر".
الكذب ذنب كبير من تخلق به كان بعيداً عن الإيمان، فقد سأل أحد الصحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن يزني؟ قال: "قد يكون ذلك" قال: المؤمن يسرق؟ قال: "قد يكون ذلك" قال: المؤمن يكذب؟ قال: "لا، قال الله -تعالى-: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ) [النحل: 105].
إن بعض الناس يعتبرون الكذب أمراً هيناً فيجعلونه قسمين: كذبة بيضاء، وكذبة سوداء، الا فليعلموا أن الكذب حرام كله، حتى الكذب المزاح ليضحك به الناس، فقد روي عن أبي داود والترمذي، عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده -رضي الله عنهم- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب".
الكذب كله مذموم، وإنما يتساهل بعض الآباء فيكذبون على أبنائهم وبناتهم، ويعدونهم وعوداً كاذبة، والطفل يتعلم من أبويه أخلاقهما، فينشأ في حديثه على الكذب؛ لأنه تربى على ذلك، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يغفل عن التربية والتوجيه، فقد سمع امرأة تعد ولدها وعداً، فوجه إليها النصح والإرشاد، وبين لها أنها لولم تطعمه ما وعدت لكان كتب عليها كذبة، ويكثر الكذب في مجالس النساء خاصة، فإن كثيراً من النساء إذا جلسن إلى بعضهن تساهلن في أحاديثهن وكذب فيها افتخاراً، فتدعي إحداهن أمام صويحباتها أن زوجها إشترى لها واشترى وأعطاها، وسافر بها إلى كذا وكذا، وصرف عليها كذا وكذا، والحال كله كذب، أو تقول: اشترى لي الثوب بكذا وكذا، أضعاف قيمته.
فلتعلمي -أختي المسلمة- أنه لا يحل لك أن تعودي لسانك الذي أمرت بحفظه بالكذب، واسمعي ما قاله نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه مسلم عن أسماء، وكذا البيهقي عن عائشة -رضي الله عنهما- أن امرأة جاءت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله إن لي زوجاً ولي ضرة وإني أتشبع من زوجي؟ أقول: أعطاني كذا، وكساني كذا، وهو كذب، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المتشبع بمالم يعط كلابس ثوبي زور".
يرى الناس عليه ثوبين يظنون أنهما له وليسا له، فهو متشبع بما ليس له.
أخي المسلم: قد تحلف على شيء تظن صدقك فيه، ثم يظهر لك خلافه، كأن يقول لك ولدك: اعطني مبلغ كذا، فتجيبه: والله ما معي ما تطلب، وأنت معتقد صدق ما تقول، وإنه لا يوجد لديك المبلغ المطلوب، ثم تمد يدك الى محفظتك، فتجد أضعاف المبلغ، فهذا يمين لا مؤاخذة فيه؛ لأن الكذب فيه غير مقصود، ووقع خطأ ويسمى هذا اليمين: لغو، الذي قال الله فيه: (لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ) [المائدة: 89].
واليمين اللغو إن كان لا مؤاخذة فيها.
فعليك -أيها المسلم- أن تحفظ إيمانك، فلا تحلف بالله على كل شيء، فإن الأتقياء البررة ينزهون اسم الله فلا يحلفون به، ولو كانو صادقين.
أما الحلف بالله كاذباً قصداً فحرام.
وعليك -أخي المسلم وأختي المسلمة- أن تصونا ألسنتكما عنه، فقد حذر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من اقترافه.
وسمي اليمين الكاذبة غموساً؛ لأنها تغمس صاحبها في النار.
وهي من أكبر الكبائر، فقد أخرج البخاري وغيره عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الكبائر؛ الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس".
وفي رواية: أن إعرابياً جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله ما الكبائر؟ قال: "الإشراك بالله" قال: ثم أي؟ قال: "اليمين الغموس" قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: "الذي يقتطع مال إمرئ مسلم -أي يأخذه- بيمين وهو فيها كاذب".
واليمين الغموس فسحة الكذابين يسارعون إليها مستهينين بعذاب الله، وما دروا هؤلاء أنهم سيلقون الله وهو عليهم غضبان.
فقسمهم يشترون به حطاماً فانياً، وعرضاً زائلاً، ويظلمون بها غيرهم ويسلبونهم حقوقهم، فهم يقسمون ليبطلوا حقاً، أو يحقوا باطلاً، كما هو الشأن في شهادة الزور، فالنار مثواهم إلا أن يتوبوا، ويردوا الحقوق إلى أصحابها، روى البخاري ومسلم وأصحاب السنن، عن ابن مسعود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه لقي الله وهو عليه غضبان" قال عبد الله: ثم قرأ علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كتاب الله -عز وجل-: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [آل عمران: 77].
فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال إنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وجنبنا منكرات الأخلاق والأعمال، إنه لا يصرفها إلا أنت.
وسبحانك اللهم وبحمدك، وأشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي