من وصلك وصلته

عمر بن عبد الله المقبل
عناصر الخطبة
  1. حثّ الإسلام على كل ما يجمع ويؤلِّف بين المسلمين .
  2. فضائل صلة الرحم .
  3. عقوبات قطع الرحم .
  4. مفاهيم خاطئة في الصلة .
  5. من وسائل صلة الرحم .
  6. بعض الصور والأعمال المقترحة لصلة الرحم في عصرنا الحاضر .
  7. صور سيئة من قطع الأرحام .
  8. دعوة للتصافي والتلاقي والتقارب. .

اقتباس

من المحزن أن بعض الناس رضي أن يُدخلَ السرور على الشيطان! فيقطع رحِمَه، أو يُسهم في توهينها، وبثّ الوحشة بين الأقارب.. صورٌ مأساوية، تبدأ بعقوق الوالدين، أو بظلم بعض الآباء والأمهات لأولادهم، وتستمر المأساة وتتجدد صورها في القطيعة بين الإخوان والأخوات!.. ومن المؤسف في هذا الباب: أن بعض الناس يضخّم الأخطاء، ويَعدّ الزلات، ويُغلق أبواب الصِّلة، ويكثر العتاب، وربما أرسل الكلمة بعد الكلمة التي تجرح المشاعر، وأشدّ من هذا على بعض النفوس: ملاقاة الأقارب بوجهٍ عابس، أو كاتم للبشاشة، وفتح ملفات العتاب في كل مناسبة..!

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله ....،

أما بعد: فأوصيكم ونفسي - أيها الناس بتقوى الله - فهي جسر النجاة المنصوب على بحر الفتن.

أيها الإخوة: كلمّا قلّب المسلمُ نظره في أدلة الشرع؛ وجد اتفاقاً مدهشاً فيها على الحثّ على كل ما يجمع ويؤلِّف بين المسلمين، وينهى عن كل ما يسبّب التفرّق والتشتت بينهم، ومَن قرأ تاريخَ الجاهلية أدرك بوضوحٍ كيف فعل الإسلام في أهله فعْله في الحث على الصلة وعلى الترابط والاجتماع!

ومن أعظم تلك القيم والعبادات التي حثّ عليها الشرع المطهّر: صلة الرحم، التي عظّم الشرعُ شأنها، فرتّب على فعلها الأجور العظيمة، وعلى قطعها العقوبات الغليظة، التي تضطرب لها قلوب أهل الإيمان..!

 فمن الذي لا يعظّمها ويَصلها وهو يسمع آيات الله تتلى عليه في مثل قوله عز وجل: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ...) [النساء: 36]؟! أو يسمع قوله تَعَالَى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ، إنَّ اللهَ كَانَ عَليْكُم رَقِيباً)[النساء: 1]، أو يسمع قول الله عز وجل مبيناً صفة أهل الجنّة: (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) [الرعد: 21].

وكيف لا يضطرب قلبُه أو يخاف من التقصير في هذه العبادة وهو يسمع قولَه -صلى الله عليه وسلم-: "وَمَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ والْيوم الآخِر فَلْيصلْ رَحِمَهُ"(البخاري ح6138)، فإن المؤمن حينما يسمع هذا الحديث يخاف إذا قطع رحمه أو قصر في صلتها أن يكون ناقصُ الإيمان بالله واليوم والآخر.

من الذي يفرّط في صلة رحمه، وهو يسمع قوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق عليه: "مَنْ أَحبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ في رِزقِهِ، ويُنْسأَ لَهُ في أَثرِهِ، فَلْيصِلْ رحِمهُ"؟(البخاري ح:2067، ومسلم ح:2557) ومعْنى: "ينسأَ لَهُ في أَثَرِه": أَيْ: يؤخر له في أَجلهِ وعُمُرِهِ.

أوْ يسمع قوله -صلى الله عليه وسلم-: "الرَّحمُ مَعَلَّقَةٌ بِالعَرْشِ تَقُولُ: مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّه، وَمَن قَطَعَني قَطَعَهُ اللَّه" متفقٌ عليه؟(البخاري ح:5987، ومسلم ح:2555) واللفظ له).

 وفي الحديث الآخر: "قالت الرَّحِم: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلكِ، وأقطع من قطعكِ؟ قالت: بلى يا رب، قال: فذاك لكِ"(البخاري ح:5987، ومسلم ح:2554).

وفي مقابل هذا أيها الأفاضل.. من الذي يجرؤ على قطع رحِمه، وهو يسمع قوله تعالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) ما جزاؤهم يا رب؟ (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)[محمد:23،24]؟ كيف يقطع الإنسان رَحِمه وهو يسمع قولَه تَعَالَى في شأن أهل النار وصفتهم: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)[الرعد:25]؟!

أيها المسلمون.. في خضم هذه النصوص - وما تركتُه أكثر – قد تبرز مفاهيم خاطئة لمعنى الصلة بين الأقارب والأرحام، منها:

1- أن بعض الناس لا يصل إلا من وصله، وهذا خطأ، فإن الصلة لها تعلّق بحق لله كما لها تعلق بحق الأقارب، فإذا فرّط القريب في صلتك فلا تفرّط في صلته ولو أن تؤدي أدنى درجات الصلة؛ فإن لله حقا في هذه العبادة.

جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم - فقَالَ: يَا رَسُول اللَّه! إِنَّ لِي قَرابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُوني، وَأُحسِنُ إِلَيْهِمِ وَيُسيئُونَ إِليَّ، وأَحْلُمُ عنهُمْ وَيجْهلُونَ علَيَّ!

بالله عليكم تأمّلوا في هذه الصفات! كم يتعلق بها كثير من الناس في قطع أقاربه! أو مواجهتهم بالعبوس! أو غير ذلك من صور القطيعة! تأملوها جيدا: "إِنَّ لِي قَرابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُوني، وَأُحسِنُ إِلَيْهِمِ وَيُسيئُونَ إِليَّ، وأَحْلُمُ عنهُمْ وَيجْهلُونَ علَيَّ! فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: "لَئِنْ كُنْت كَمَا قُلْتَ، فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ المَلَّ، وَلاَ يَزَالُ" انظر إلى ثمرة الصبر على الصلة: "ولا يزال معكَ مِنَ اللَّهِ ظهِيرٌ عَلَيْهِمْ" أي: مُعين "مَا دمْتَ عَلَى ذَلكَ"(مسلم ح: 2558).

"والمَلُّ": هو الرَّماد الحارُّ، والمعنى: كأَنَّمَا تُطْعِمُهُمْ الرَّماد الحارَّ وهو تشبِيهٌ لِما يلْحَقُهمْ مِنَ الإِثم بِما يَلْحقُ آكِلَ الرَّمادِ مِنَ الألم، ولا شيء على المُحْسِنِ إِلَيْهِمْ، لَكِنْ يَنَالهُمْ إِثْمٌ عَظَيمٌ بَتَقْصيِرهِم في حَقِه، وإِدخَالِهِمُ الأَذَى عَلَيْهِ.

وقد روى البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عمهما: أن النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَيْسَ الْواصِلُ بِالمُكافئ، وَلكِنَّ الواصِلَ الَّذي إِذا قَطَعتْ رَحِمُهُ وصلَهَا"(البخاري ح:5991).

2- ومن المفاهيم الخاطئة في باب صلة الرحم: قصرُها على المسلم: ففي الصحيحين أن أَسْمَاءَ بنت أَبي بكْرٍ -رضي الله عنه-ما قَالَتْ: قَدِمتْ عليَّ أُمّي وهِي مُشركة، فَاسْتَفتَيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: إن أمي قَدِمتْ وَهِى راغبةٌ - يعني تطمع في شيء عندي -، أَفأَصِلُ أُمِّي؟ قَالَ:"نَعمْ صِلي أُمَّك"(البخاري ح:2620، ومسلم ح:1003).

وفي الصحيحين عن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جهارا غير سر، يقول: «ألا إن آل أبي - يعني فلانا -" لم يسمّهم مراعاة لمشاعرهم "ليسوا لي بأولياء" أناس من قرابته، أعداء له في الدين، لكن ماذا قال عليه الصلاة والسلام؟ قال: "إنما وليي الله وصالح المؤمنين»(مسلم ح:215).

 زاد البخاري: «ولكن لهم رحم أَبلُّها ببلاها»(البخاري ح:5990) أي: سأصلها، فشبَّهَ قَطِيعَتَهَا بالحرارةِ تُطْفَأُ بالماءِ، وحرارة القطيعة تُبَرَّدُ بالصِّلةِ.

فإذا كان هذا - يا عباد الله - نظرُ الشرع العظيم في صلة الأقارب غير المسلمين؛ فماذا يقول من قطع صلته بأقاربه المسلمين؟! أو قطع صلته بأعظم من أُمر الإنسان بوصلهم وهم الوالدان؟!

أيها المسلمون: إن الموفّق من الناس، من يبحث عن كل وسيلة ممكنة لصلة رحمه، وإعانتهم على ذلك ما استطاع إليه سبيلا، ومن وسائل صلة الرحم:

1- من كان له فضل مال، أو أراد أن يوصي، أو يوقف شيئاً من ماله؛ فليتحرّ قرابتَه - الأقرب فالأقرب -: ففي الصحيحين، عن أنس -رضي الله عنه- قال: كَانَ أَبُو طَلْحَة أَكْثَر الأَنصار بِالمَدينَةِ مَالاً مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحبُّ أَمْوَالِهِ بِيرْحَاءَ، وكَانتْ مُسْتقْبِلَة المَسْجِدِ، وكَان رسولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- يدْخُلُهَا، وَيَشْرَب مِنْ ماءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، فَلمَّا نَزَلتْ هذِهِ الآيةُ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)[آل عمران: 92].

قَامَ أَبُو طَلْحة إِلَى رسولِ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رسولَ اللَّه! إِنَّ اللَّه تَبَارَك وتَعَالَى يقول: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) وَإِنَّ أَحب مَالِي إِليَّ بِيَرْحَاءَ، وإِنَّهَا صَدقَةٌ للَّهِ تَعَالَى، أَرجُو بِرَّهَا وذُخْرهَا عِنْد اللَّه تَعَالَى، فَضَعْهَا يَا رَسُول اللَّه حيثُ أَراكَ اللَّه؛ فقال رسولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "بَخٍ، ذلِكَ مالٌ رابحٌ، ذلِكَ مالٌ رابحٌ، وقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلتَ، وإِنَّي أَرى أَنْ تَجْعَلَهَا في الأَقْربِين" فَقَالَ أَبُو طَلْحة: أَفعلُ يَا رَسُول اللَّه، فَقَسَمهَا أَبُو طَلْحة في أَقارِبِهِ وبَنِي عمِّهِ(البخاري ح:1461، ومسلم ح:998).

وفي الصحيحين عن أُمِّ المُؤْمِنِينَ ميمُونَةَ بنْتِ الحارِثِ -رضي الله عنه-ا، أَنَّهَا أَعتَقَتْ وَليدَةً وَلَم تَستَأْذِنِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فلَمَّا كانَ يومَها الَّذي يدورُ عَلَيْهَا فِيه، قَالَتْ: أشَعَرْتَ يَا رَسُول اللَّه أنِّي أَعْتَقْتُ ولِيدتي؟ قَالَ: "أَوَ فَعلْتِ؟" قَالَتْ: نَعمْ قَالَ: "أَما إِنَّكِ لَوْ أَعْطَيتِهَا أَخوالَكِ كَانَ أَعظَمَ لأجرِكِ"(البخاري ح:2592، ومسلم ح:999).

ومن الصور الممكن تحقيقُها اليوم: أن تسعى العوائل ذوات العدد إلى إنشاء أوقاف خيرية – ولو كانت صغيرة، ولو كانت غلّتها في البداية قليلة - يشترك في إنشائها الصغارُ والكبار، والموسِرُ وغير الموسر، ليعود نفعها وأثرها على الصغير والكبير والمحتاج منهم، ويستمر ذلك ما شاء الله أن يستمر؛ فإن هذا من أعظم القربات وأجلّها عند الله تعالى.

ومن صور الصِّلة الممكن تحقيقُها في مثل عصرنا لزيادة التقارب بين الأرحام: ترتيب الاجتماعات العائلية - الشهرية أو الفصلية، أو السنوية، حسب المتاح والممكن - وإني في هذا المقام أهيب بأحبتي الشباب أن تكون لهم مبادرة في ذلك إذا لم يكن لعوائلهم اجتماع مرتّب، فتكون لهم المبادرة في عقد هذه الاجتماعات، ليكسبوا أجرها، فهي والله من خير ما يُتقرّب به إلى الله تعالى.

أعرفُ أحد الشباب، كان من الحريصين جدًا على صلة أقاربه، ومن الحريصين كذلك على مثل هذا النوع من الاجتماعات، وله بصمة مشهودة في ذلك، توفي رحمه الله وهو في ريعان شبابه، فلما مات؛ كان من أكثر ما ذكره به أقاربُه: أنه كان حريصاً على صلة الرحم، فلله ما أعظمها من منقبة! وما أجلّها من سيرة! أن يموت شاب في مثل هذا العصر وأكثر ما يُمدح به هو صلته لأقاربه، رحمه الله رحمةً واسعة، وأسأل الله جل وعلا أن يعيننا وإياكم على صلة أرحامنا.

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة....

الخطبة الثانية:

الحمد لله...، أما بعد:

فمع هذه النصوص العظيمة التي وردت في هذا الموضوع؛ إلا أن من المحزن أن بعض الناس رضي أن يُدخلَ السرور على الشيطان! فيقطع رحِمَه، أو يُسهم في توهينها، وبثّ الوحشة بين الأقارب.. صورٌ مأساوية، تبدأ بعقوق الوالدين، أو بظلم بعض الآباء والأمهات لأولادهم، بتفضيل بعضهم على بعض، أو بغير ذلك من الصور، وتستمر المأساة وتتجدد صورها في القطيعة بين الإخوان والأخوات! والمقطوع به –من خلال اطلاعٍ وسبر لكثير من هذه الصور- أن أكثر هذه القطيعة على أمورٍ تافهة لا تستحق، قطيعة على أمورٍ من أمور هذه الدنيا الحقيرة التي لا تساوي - كلها بأموالها وبهارجها - عند الله تعالى جناح بعوضة!

ومن المؤسف في هذا الباب: أن بعض الناس يضخّم الأخطاء، ويَعدّ الزلات، ويُغلق أبواب الصِّلة، ويكثر العتاب، وربما أرسل الكلمة بعد الكلمة التي تجرح المشاعر، وأشدّ من هذا على بعض النفوس: ملاقاة الأقارب بوجهٍ عابس، أو كاتم للبشاشة، وفتح ملفات العتاب في كل مناسبة..!

يا أخي..! والله الذي لا إله غيره - إن كان في القلب حياة ومعرفة بحقيقة هذه الدنيا الزائلة - لتنسَينّ كل ذلك في أول ليلة في القبر، وسيندم الطرَفُ الذي يصطنع العثرات أو يضخّمها إذا بلغه موتُ قريبِه، وسيقول حينها بعد فوات القول: ليتني لم أصنع ذلك! ليتني تنازلت عن حقي! ليتني كنتُ باشًّا! ليتني كنت صاحب المواقف الأجمل..! يا ليتني ويا ليتني! لكن هذا جاء بعد فوات الأوان! يالها من دنيا حقيرة خسيسة لا تستحق أن يحزن الإنسانُ لأجلها؛ فضلاً عن أن يقطع رحمه!

وأقول بعد هذا: أليس لكم - أيها المتقاطعون - في رسول الله أسوة حسنة؟ أين أنتم من قوله عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة - وأقاربه الذين أخرجوه منها قبل ثمان سنوات كلهم في قبضته - ومع هذا يقول لهم، ويسألهم سؤال المقرر لهذه الحقيقة: ما تظنون أني فاعل بكم؟ فيقولون: أخ كريم وابن أخ كريم! قالوا هذا لعلمهم عظم تقديره -صلى الله عليه وسلم- لشأن الرحم، ولعلمهم بحاله عليه الصلاة والسلام مع أقاربه وإن اختلفوا في دينه.

فلم يزد على أن قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"!

أليس لكم - أيها المتقاطعون - في نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام أسوة حسنة - وهو الذي لقي من إخوته ما لقي - ومع هذا لم يقابلهم إلا بالعفو والدعاء لهم، فلما قال له إخوته: (تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[يوسف: 91، 92].

إنها النفوس الكبيرة يا عباد الله! ولما أظهر الله مكانتَه على إخوته، وخرّوا له سجداً لم يزد على أن حرص على إغلاق الملفات السابقة كلها، ولم يُشِر ببنت كلمة إلى أي شيء من ذلك التاريخ! اسمع بقلبك قبل أن تسمع بأذنك: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي)[يوسف: 100] لم يَنسب هذا إليهم، بل نسبه إلى الشيطان وصدق! وكان بإمكانه -عليه الصلاة والسلام- أن يقول: من بعد ما فعل بي إخوتي ما فعلوا! ألقوني في الجب! وجعلوني أباع في سوق النخاسة كما يباع العبيد! تعرضتُ لفتنة الشهوة! وتعرضتُ للسجن بعد ذلك! وتعرضت لألم الفراق معكم يا والديّ! كلا .. كلا! لم يقل شيئا من هذا!

الله أكبر! إنها القلوب الكبيرة.. ولا يقولنّ قائل: إن هؤلاء أنبياء! فنقول: والله لولا أن التأسي بهم ممكنٌ لما ذكرها اللهُ لنا، وقد قال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)[الأنعام: 90].

أيها الأحبة! كم أتمنى من كل متقاطِعين أو مقصِّرَين يسمعون هذا الكلام، من إخوة أو أخوات أو والد وولد – وحق الوالدين أعظم – أن يبادروا مباشرة لامتثال أمر الله تعالى وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام بصلة الرحم وتعظيم شأنها!

أتمنى أن تُغلق ملفات القطيعة، وأن يسعى أحدُنا ليكون صاحب المبادرة لردم هذه الهوة؛ فيذهب إلى أخيه، أو يتصل به، أو يتصل بأخته، ويقول: أما آن أن نُرغم أنف الشيطان؟!   

اللهم اجعلنا ممن وصل ما تحب وصْلَه، وأعذنا من قطيعة ما تحب وصْله، وارزقنا قلوباً تصفح، ونفوساً لأقاربها تنشرح، وتسعى لكل برٍّ وجميل، اللهم املأ قلوبنا صفحا وعفوا عن من أخطأ علينا.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي