حب الدنيا وأثره السيئ على الفرد والأمة

أحمد بن محمد العتيق
عناصر الخطبة
  1. ضرورة التفكر في سبب وجودنا وهوان دنيانا ومصيرنا بعد الموت .
  2. المفاسد الخطيرة على الفرد والأمة نتيجة الغفلة عن هذه الأمور .

اقتباس

ولقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ, فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ, وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ, وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ؛ وَمَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ, جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ, وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ, وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا رَاغِمَة".

الخطبة الأولى:

إن الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ من شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له.

وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ ورسولُهُ، صلى اللهُ عليه وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ تسلِيماً كَثِيراً.

أمّا بعد: أيها الناس، اتقوا الله -تعالى- وحاسبوا أنفسكم, وابذلوا أسباب حياةِ قلوبكم, ولينظر كُلُّ واحد منكم ما قَدَّم لآخرته, ولْيُقارِن بين ذلك وبين ما يعطيه لدنياه؛ فإن مَنْ آثر الدنيا فلا بد أن يكون ذلك على حساب الآخرة، وَمَن آثرَ الآخرة فلا بد أن يكون ذلك على حساب الدنيا.

فينبغي لك -أيها المسلم- أن تتذكر أموراً ثلاثة: الحكمة من خلقك ووجودك في هذه الحياة، وهوان الدنيا وزوالها، ومصير الناس بعد الموت؛ فإن غابت هذه الأمور الثلاثة عن قلبك, فاعلم أنك على خطر, وأنك من الغافلين, وإن كنت مؤمنا بها.

والغفلة عن هذه الأمور الثلاثة مفاسدها خطيرة على الفرد والأمة:

أولها: أن الله وصف الغافلين بأشد الأوصاف فقال: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [الأعراف:179]. فالغفلة قد تفضي بصاحبها إلى أن يكون كهؤلاء والعياذ بالله!.

الثاني: ترك الإخلاص؛ فإن الانغماس في الدنيا عَدُوٌّ لَدُودٌ للنية والسيطرة عليها، وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أولَ مَن تُسَجَّر بهم النار ثلاثة: رجل تَعَلَّمَ لِيُقالَ عالم وقرأ القرآن ليقالَ قارئ، ورجل قاتَل في أرض المعركة حتى قُتِل ليقال جريء، ورجل أنفق في أبواب الخير ليقال جواد.

الثالث: تضييع جانب الأخوة الإيمانية, التي هي الرابط الأعظم بين المؤمنين, فإن التعلق بالدنيا والتنافس عليها, سببٌ للتحاسد والبغضاء والقطيعة, كما قال -عليه الصلاة والسلام-: "مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ".

والهلاك الوارد في الحديث عام, وأخطره سفك الدماء، والاقتتال بين المسلمين، وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنّ تسلط الكفار على المسلمين له أسباب, منها الفرقة والاختلاف وأن يسفك بعضهم دم بعض.

وقد ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث ثوبان -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال فيما يرويه عن ربه -عز وجل- أن الله -تعالى- قال: "وَأَنْ لا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكَ بَعْضًا، وَحَتَّى يَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا". أي: إذا وصلوا إلى هذه الحالة, سلّطتُ عليهم عدوَّهم من الكفار.

الرابع: تَشَتُّتُ قلبِ العبد, والخوفُ على المستقبل, والشعورُ بملاحقة الفقر له حتى ولو كان من أغنى الناس، وهذه حال كل من تعلق بالدنيا حتى صارت شغلَه الشاغل، فإن الوحشة لا تفارق قلبَه, والهمَّ يُلازمه مُلازَمَةَ الغريم لغريمه, ويشعر بأن مستقبله مُظلِم, وحياتَه يَغلب عليها التشاؤمُ لا التفاؤُل.

ولقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ, فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ, وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ, وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ؛ وَمَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ, جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ, وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ, وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا رَاغِمَة".

الخامس: تقديم التنازلات من أجل الدنيا خوفا من فوات الفرص أو نقصان متاع الدنيا, كمن يبيع أمانته من أجل الرشوة, أو عقله من أجل الخمر والمخدرات, أو العرض والشرف من أجل كسب المال, بل وأخطر من ذلك أن يبيع دينه كله من أجل الدنيا, كما قال -تعالى-: (وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) [النحل:106-107].

باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم؛ وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم؛ أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَأسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين, وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين, وَلا عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين. وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشهدُ أَنَّ مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ, صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً.

أما بعد: عباد الله، السادس من مفاسد حب الدنيا على الفرد والأمة: تداعي أمَمِ الكفر وتسلُّطها على المسلمين, فإن التعلق بالدنيا والانشغال بها عن القرآن والسنة والإقبال على الله والدعوة إليه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإعداد القوة الإيمانية والمادية من أجل نصرة دين الله، إن ذلك من أعظم أسباب هوان المسلمين على أعدائهم, ومن أعظم أسباب ذلتهم.

ولقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا"، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: "لا، بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ". فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: "حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ".

اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم انصر بنا دينك, وأعلِ بنا كلمتك, واجعلنا هداةً مهتدين غير ضالين ولا مُضلين.

اللهم آتنا في الدنيا حسنة واجعلنا في الآخرة من الصالحين، اللهم أصلحْ لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر.

اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابك وسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، واجعلهم يداً واحدةً على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا رب العالمين.

اللهم أعذهم من شر الفتنة والفرقة والاختلاف يا حي يا قيوم، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم ارحم المستضعفين من المؤمنين، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين في كل مكان.

اللهم ارفع البلاء عن إخواننا في سوريّا، اللهم ارفع البلاء عنهم، اللهم ارفع البلاء عنهم، اللهم ارفع الظلم والطغيان عنهم، اللهم اكشف كربتهم، اللهم اجعل لهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية، اللهم اكسهم وأطعمهم، اللهم ارحم موتاهم، واشف مرضاهم، وفك أسراهم، وردهم إلى وطنهم رداً جميلاً يا أرحم الراحمين.

اللهم اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم، وارحمهم، وعافهم، واعف عنهم، ووسع مدخلهم، وأكرم نُزُلَهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقّهم من الذنوب والخطايا كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس، وارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه؛ برحمتك يا أرحم الراحمين.

(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت:145] .


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي