مهما بلغ الإنسان من الفصاحة والبيان فإنه يظل مقصراً عن أداء ما يؤديه القرآن الكريم، وبالغاً ما بلغ النسيج القصصي لأنه منزل من الله، ومن هنا فإن قصة يوسف -عليه السلام- واحدة من القصص القرآنية ذات المدلولات العجيبة، والوقائع الفريدة، مليئة بالعظات والعبر.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- وتفهموا ما أنزل عليكم، وتعرفوا على أسراره ومعانيه تقوية لإيمانكم، ودفعاً لنشاطاتكم في الحياة، وإعانة لكم على تربيه الأولاد، والمساهمة في الدعوة إلى الله، يقول الله -جل وعلا-: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا القُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الغَافِلِينَ) [يوسف: 3].
مهما بلغ الإنسان من الفصاحة والبيان فإنه يظل مقصراً عن أداء ما يؤديه القرآن الكريم، وبالغاً ما بلغ النسيج القصصي لأنه منزل من الله، ومن هنا فإن قصة يوسف -عليه السلام- واحدة من القصص القرآنية ذات المدلولات العجيبة، والوقائع الفريدة، مليئة بالعظات والعبر.
ولذا سنقف مع وقائعها سرداً وتحليلاً واستنباطًا للدروس والعبر.
فنقول: القصة كما وردت من حيث الفحوى يمكن أن تقع في كل زمان ومكان، ويمكن أن يعيش أحداثها كثيرون من الناس، ولكنّ المرمى منها يختلف عن قصص الناس وحياتهم، فهي تظهر بطلها ذلك الإنسان الذي يظل على عقيدته مهما تكاثرت عليه المحن والابتلاءات، ويحافظ على أمر ربه الذي بعثه وسائر الأنبياء من أجل وحدة العقيدة وثباتها والدعوة إليها، وهي العقيدة التي تقوم على التوحيد الكامل لله، وعلى تقرير ربوبيته للبشر وحده، ودينونة البشر له وحده، كل ذلك مع التأكيد على الإيمان بالدار الآخرة، وعلى هذا الأساس عاش يوسف قصة المحن والابتلاءات، ما أن يخلص من واحدة حتى يقع في أشدٍّ منها، ولكنه ينتصر أخيراً، ويثبت على عقيدته التي كان عليها آباؤه من قبل يعقوب وإسحاق وإبراهيم -عليهم السلام- وتتصدر القصة بمخاطبة الله لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، ثم تبدأ رؤيا يوسف -عليه السلام- والتي قصَّها على أبيه، وحذّره أبوه يعقوب من أن يُطْلِع إخوته عليها، إذ كان يعقوب -عليه السلام- يحب يوسف ويوليه من رعايته واهتمامه ما جعل إخوته يكيدون له فيأتون طالبين منه أن يأخذوا أخاهم إلى الصيد حتى يلعب ويرتع، ولا يخفي الوالد حزنه وقلقه لذهابه، ويحاول الأب صرف الأبناء عن مطلبهم دون جدوى.
يأخذه إخوته ويتشاورون في قتله، لكن الله يهديهم على يد أحدهم أن يلقوه في البئر، ويتخلصوا منه ثم يعودون إلى أبيهم بعد أن لطخوا ثوب يوسف بالدم مدَّعين أن الذئب أكله.
يبقى يوسف في البئر حتى يأتي الفرج، قافلة قادمة في طريقها إلى مصر تعثر على يوسف حين سقت من البئر، تأخذ يوسف معها وتبيعه عبداً بدراهم قليلة.
يشتري هذا الغلامَ عزيزُ مصر بعد أن توسم فيه خيراً ورآه جميلاً، وبعد أن سلَّمه لامرأته أوصاها به خيرًا لعله ينفعها أو يتخذونه ولداً. وقد قيل: إنه لا يولد لهما.
يعيش يوسف في هذا البيت عدةَ سنوات، يصبح خلالها فتىً أوتي من العلم والحكمة ما جعله فريداً في شمائله وخصاله في تلك الأيام، لكنّ تلك المزايا والخصال جرَّت عليه من الويلات الكثير، فهو يعيش في طبقه غير طبقته؛ ما جعل امرأة العزيز تقع في هواه وتعمل على إغوائه، لكنَّه يثبت كالطود الشامخ، ويتذكَّرُ نعمَ اللهِ عليه في إخراجه من الجب ومجيئهِ إلى هذا البيت الآمن، فكيف يكفرُ بنعمةِ الله ويقابلُ إحسانَ العزيزِ إليه بالإساءةِ، لكنَّ شيطان المرأةِ أغراها، فتَلْحقُ بيوسفَ ويهربُ منها، ويريدُ البابَ ليخرجَ فإذا بسيِّدها -زوجها- أمامها، وهنا تأتي الحيلُ الشيطانيةُ كما تفعلُ النساء في هذه الحالةِ، فقد عمِدتْ فوراً زوجةُ العزيزِ إلى إلصاقِ التهمةِ بيوسفَ، وتطالبُ بإنزالِ العقوبةِ به، لكنَّ الله -جلّ وعلا- يحفظ عباده المؤمنين ويدافع عنهم، فلعل شخصًا نقي الضمير كان يرافق زوجها أو أن هذا الزوج -خوفًا من الفضيحة- استدعى أحد أقارب زوجته ليتدبر معه الأمر، أو لعل طفلا صغيراً كان في البيت، المهم أن هذا الشاهد أدلى بشهادته، فقال: إن كان قميص هذا الفتى قُدَّ من قُبُلٍ فهو المعتدي، وإن كان قُدَّ من دُبُرٍ فهي المعتدية، ويتفحصان القميص فيتبين كذب المرأة وصدق يوسف، وبعدها يشيع الخبر في البلدة، فيكثر اللغط حولها، وتنتشر الأقاويل حتى تصل إليها فتدبر مكيدة لهنّ، وتقيم لهنّ مأدبة، وتعطيهن سكاكين بعد أن أكلن الطعام ليستعملنها في تقشير الفاكهة، وتحضر امرأة العزيز يوسف، فلما رأينه قطعن أيديهن لأنه -عليه السلام- كالبدر الطالع ليلة تمامه يبهر العيون، ثم تعترف امرأة العزيز أمامهن: (هذا الذي لُمتنَّني فيه) [يوسف: 32]، نعم لقد راودته فاستعصم: (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَاً مِنَ الصَّاغِرِينَ) [يوسف: 32]، لكن يوسف يثبت على عقيدته: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الجَاهِلِينَ) [يوسف: 33].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما سمعتم فاستغفروا الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله الذي يحفظ عباده المؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيراً.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- واستمعوا إلى تمام قصة يوسف -عليه السلام-:
دخل يوسف السجن والتقى بالفتيين، وعبر لهما الرؤيا ثم خرجا، وبقي أحدهما عند الملك، ويرى الملك الرؤيا العجيبة، ويعجز الطلقاء عن تأويلها، ثم يتذكر خادم الملك الذي كان سجيناً مع يوسف تعبير يوسف للرؤيا، يذهب إليه فيعبرها يوسف، ويطمئن الملك لتعبير يوسف فيطلب منه الخروج من السجن، لكن يوسف يطلب رد اعتباره، فتعترف امرأة العزيز ثم يقربه الملك ويجعله وزيراً له ومستشاراً خاصاً، وطلب يوسف أن يكون أميناً على الخزائن، ثم يأتي إخوة يوسف ويطلب منهم إحضار أخيهم بنيامين، ويساومون أباهم على ذلك فيذعن على مضض، ثم يبقى أخاه عنده بعد أن وضع الصواع في رحله، ويعودون إلى أبيهم والأسى يعلوهم، ثم تتوالى وقائع القصة في عودتهم ليوسف وإشعارهم بما بدر منهم، وطلبه منهم أن يحضروا والديه، ويتحقق تأويل الرؤيا بالسجود.
وسيكون لنا وقفة أخرى في خطبة قادمة -إن شاء الله تعالى- حول الدروس والعبر المستفادة من هذه القصة.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
اللهم أدم علينا نعمة الأمن والإيمان، والسلامة والإسلام.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي