ينبغي علينا أن نحتفي ببداية العام الدراسي كما نحتفي بنهايته؛ لنهيأ نفسيات أبنائنا وبناتنا للدراسة. نعم عندما نقيم لهم الحفلات عند نهاية العام الدراسي يحس أنهم خرجوا من سجن أو كأنهم ألقوا عبئًا عظيمًا عليهم، ولو وضعنا ذلك الشعور وقمنا بتلك الأمور في بداية العام الدراسة لأشعرناهم بأنهم قادمون على زمن عظيم، وعلى زمن مهم ينبغي لهم أن ينطلقوا فيه بنفسيات منشرحة، وينبغي لهم أن يدخلوه بقلوب مفعمة بحب طلب العلم والدراسة، لكننا أهملنا هذا الجانب، فأصبح أبناؤنا عندما تأتي الدراسة يسمعون منا نحن التأفف قبلهم، ونقول: الله ما أثقل هذا العام، سيبدأ العام من غدًا.. الله يعين....
الحمد لله الذي جعل العلم منبر الأنبياء وسفينة الأتقياء، ومنهجًا ومسلكًا يسلكه الأولياء، ومطمعًا وكنزًا يتنافس فيه الأسوياء.
وأشهد أن لا إله إلا الله؛ عالم أسرار من في الأرض والسماء، بيده مقاليد الكون وتصريف شؤون الخلق الأموات منهم والأحياء، أحمده سبحانه على جزيل المنن والعطاء.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسوله؛ شفيع الخلق في يوم الجمع واللقاء، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
عباد الله: قبل أيام بدأ العام الدراسي الجديد فما الذي أعددناه؟ وما الذي قررناه تجاه الارتقاء بعقول أبنائنا وبناتنا، الأمم من حولنا تتسابق في إعداد الأجيال، وتبذل الغالي والنفيس للارتقاء بعقول الناشئة والتجديد بكل جيل يواكب وقته ويناسب عصره، مع أنهم ينطلقون في أسس تعليمهم من منظور دنيوي بحت، ومع ذلك نراهم يحققون كثيرًا مما يؤملون ويجنون ثمار ما يزرعون.
أما نحن المسلمين الذين امتن الله علينا بشريعة هي سبب عزنا ورقينا وتقدمنا؛ فقد اكتفينا بتبادل التُّهَم، وإلقاء اللوم على بعضنا حتى وصل بنا الأمر إلى اتهام الدين بأنه سبب تخلفنا، وأنه قيَّدنا عن مواكبة أهل زماننا، وهذا –وربي- فهمٌ خاطئٌ للدين وحكمٌ جائر على الدين؛ لأن دين الإسلام جاء بالعلم الذي يُسعد صاحبه في الدنيا والآخرة، وجاء بالعلم الذي يعمُّ نفعه على المسلم وعلى غير المسلم.
عباد الله: لو تأملنا في أول كلمة أنزلها الله في كتابه لوجدناها قول الله –تعالى-: (اقْرَأْ)، هذه الكلمة التي تحمل في طياتها أعظم وسائل التعلم وهي القراءة، جاءت في أول كلمة من كتاب ربنا (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق: 1- 5]. فهذه الآيات وغيرها كثير في كتاب الله تبرِّئ ديننا مما نسب إليه بعض الجهلة من المنتمين إليه والدائنين به.
عباد الله: لقد رغَّب الإسلام في طلب العلم، وحث أتباعه على التزود منه، فما أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يطلب الزيادة من شيء إلا من العلم؛ فقال سبحانه (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا)، ورفع سبحانه من شأن العالم فقال جل من قائل: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [الزمر:9].
بل استشهد سبحانه بأهل العلم على وحدانيته فقال سبحانه: (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران: 18]، هذا من القرآن.
وأما السنة فيكفي من ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من سلك طريقًا يلتمس به علما سهَّل الله له طريقًا إلى الجنة" (رواه مسلم).
عباد الله: لقد اعتاد كثير من الناس في هذا الزمن على تدريس أبنائهم تدريسًا قائمًا على غرس المعارف فيهم، دون أن يبيِّن لهم الفائدة مما يدرسونه، ودون أن يبيِّن لهم فضل ما يتعلمونه، ولذلك خرج لنا جيل، بل أجيال يكرهون الدراسة ويبغضون القراءة، ويشفقون من البحث والرجوع إلى أمهات الكتاب في سائر العلوم الشرعية منها والنظرية.
وكان ينبغي علينا أن نجلس مع أبنائنا الجلسات تلو الجلسات، نغرس في أنفسهم فضل العلم والمعلم، ثم نبيِّن لهم أهمية ما يتعلمونه، وأنه نافع لهم في الدنيا ونافعٌ لهم في الآخرة.
ونذكِّرهم بأن الإسلام لا يرضى لأتباعه إلا أن يكونوا في مقدمة الأمم، ونبين لهم أنهم طلبة علم حتى في الصفوف الأولية ينبغي أن نقيم لهم الحفلات مع بداية العام الدراسي كما نقيمها في نهايته، ونبارك للصغار الذين التحقوا بالدراسة أنهم أصبحوا طلبة علم.
ونذكر لهم أن نبينا -صلى الله عليه وسلم- أخبرنا أن الملائكة تضع أجنحتها رضًا لطالب العلم، وأنه أخبرنا أن العالم يستغفر لهم من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في لجج البحار.
ونبيِّن لهم أنه قال: "وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب".
عباد الله: على كل أب وأم أن يغرسوا في أبنائهم ذكورًا وإناثًا أهمية النية الحسنة، ويشرحوا لهم حديث عمر -رضي الله عنه- في الصحيحين، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"، حتى يكون الأبناء محتسبين الأجر من الله على ما يجدونه من المشاقّ في سبيل طلب العلم.
وعليهم أيضًا الاهتمام بالجانب النفسي، وزرع حب المدرسة والجامعة في نفوسهم، كما يجب على الآباء والأمهات تبيين أهمية الكتاب المدرسي في حياة الطالب والطالبة، وكما قلنا سابقا: ينبغي علينا أن نحتفي ببداية العام الدراسي كما نحتفي بنهايته؛ لنهيأ نفسيات أبنائنا وبناتنا للدراسة.
نعم عندما نقيم لهم الحفلات عند نهاية العام الدراسي يحس أنهم خرجوا من سجن أو كأنهم ألقوا عبئًا عظيمًا عليهم، ولو وضعنا ذلك الشعور وقمنا بتلك الأمور في بداية العام الدراسة لأشعرناهم بأنهم قادمون على زمن عظيم، وعلى زمن مهم ينبغي لهم أن ينطلقوا فيه بنفسيات منشرحة، وينبغي لهم أن يدخلوه بقلوب مفعمة بحب طلب العلم والدراسة، لكننا أهملنا هذا الجانب، فأصبح أبناؤنا عندما تأتي الدراسة يسمعون منا نحن التأفف قبلهم، ونقول: الله ما أثقل هذا العام، سيبدأ العام من غدًا.. الله يعين، كما يقال عند كثير من الناس.
من غد تبدأ الدراسة!! فوضعنا حاجزًا نفسيًّا في قلوب أبنائنا وبناتنا، فأصبحوا ينظرون إلى طلب العلم وإلى الدراسة وكأنها كابوس يلازمهم طوال العام.
ونسينا أن نزرع في نفسيتهم أن ينهلوا من خير ما وُجد على ظهر المعمورة، وأن يرتقوا بعقولهم الصغيرة، ليصبحوا كبارًا في يوم من الأيام؛ ليصبحوا قادة في يوم من الأيام، ليصبحوا من أهل المكانة المتميزة في المجتمعات، فيجب علينا أن نغيِّر هذه النظرة، وأن نزرع في نفسيتهم حب الدراسة، وأن نحتفي نحن بالدراسة، وأن نبيِّن لهم أننا في عام سعيد وقادمون على موسم سعيد.
أسأل الله -جل وعلا- أن يهدي أبناءنا وبناتنا إلى ما يحب ويرضى، وأن يرزقني وإياكم العمل بتقواه، أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على نعمه المتتالية، وله الشكر على فضائله المتواليات، وأشهد أن لا إله إلا الله مكون الكائنات ومدور الليالي والأيام، وفاطر الأرض والسماوات.
وأشهد أن نبينا محمد عبدُ الله ورسوله، إمام أهل العلم والطاعات، صلى الله عليه وعلى آله وسائر الأصحاب ما تعاقبت الدقائق والساعات، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد عباد الله: فلقد فسدت كثير من نياتنا تجاه تعليم أبنائنا، فحصرنا فوائد الدراسة على الأمور الدنيوية، وركزنا على العلوم النظرية، فعاقبنا الله بأبناء وبنات لم يرعوا لنا حرمة، ولم يروا لنا فضلاً بسبب فساد نياتنا.
وقلت نياتنا للتعميم؛ لأن الصالحين أمثالكم -ولا نزكيكم على الله- يتهمون أنفسهم، نعم ينبغي لكلٍّ منا أن يتهم نفسه، فينبغي لنا أن نحسن النوايا بأن نحتسب على الله الأجر في تعليم أبنائنا وبناتنا، وأن نقدم العلم الواجب على المستحب.
والعلم الواجب هو ما لا تصح العبادة إلا به؛ كحفظ الفاتحة والتحيات، وسائر ما يحتاجه المصلي في صلاته من الطهارة إلى نهاية الصلاة، وكذلك كل ما يتعلق بالعبادات الواجبة، فهذا العلم ينبغي أن يُقدَّم على غيره من العلوم، وينبغي على الأبوين أن يهتما بهذا الجانب حتى يكون الابن والابنة سائرين في الاتجاه الصحيح.
كذلك ينبغي علينا أن نغرس في نفوس الناشئة حب الله وحب رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وتعظيم دين الإسلام حتى يجد لذة ومعنى للحياة، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان؛ أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار" (متفق على صحته).
كما ينبغي علينا أن نغرس في الناشئة حب الخير للناس كافة مؤمنهم وكافرهم، مع تبيين أهمية الانتماء للمسلمين، والاعتزاز بالانتماء إليهم مسترشدين بذلك بقول الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107]؛ ليتبين لهم أن ديننا دين الرحمة، وأن نبينا نبي الرحمة للعالمين وليس للمسلمين فقط؛ للعالمين كافة، وليس بالمسلمين خاصة؛ لأن الله -جل وعلا- قال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ).
لو تعاملنا مع العالم بهذه الروح، وبينا لهم هذه العقيدة لدخلوا في دين الله أفواجًا كما فعل أسلافنا بمن عاصرهم.
كما ينبغي علينا أيها المؤمنون أن نغرس في نفوس أبنائنا وبناتنا حب المنافسة ودخول الميدان لخوض غمار الإبداع والاختراع، ونبين لهم أن ذلك من العُدَّة التي أمر الله بها.
نعم العالم لا يعترف إلا بالقوة، مهما كانوا مسالمين، القوة هي التي ينظر إليه العالم، ولذلك قوة الإيمان تغلب سائر القوى، لكن العالم يحتاج إلى قوة محسوسة لتدعم الجانب الإيماني، فينبغي علينا أن نحث أبناءنا على أن يخوضوا غمار المنافسة، وأن يدخلوا مجال الإبداع والاختراع حتى ينشأ لنا نشء -بإذن الله- نسعد بهم في الدنيا قبل الآخرة.
كذلك ينبغي على المسلم أن يغرس في أبنائه حب أوطانهم، وحب علمائهم، وطاعتهم لولاة أمرهم، ويبين لهم أن ما وصلوا إليه اليوم من امن وأمان ووحدة للصف واجتماع للكلمة إنما هو بفضل الله، ثم بالانتماء للوطن، والاقتداء بالعلماء، وطاعة ولاة الأمور.
هذه القيم وغيرها كثير ينبغي أن نستشعر أهميتها مع بداية كل عام دراسي؛ حتى نجني الثمار اليانعة، ونحصل العلوم النافعة، ونصل إلى المكانة اللائقة بنا بين الأمم.
أسأل الله -جل وعلا- أن يرينا وإياكم الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا وإياكم الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه..
صلوا وسلموا على ما أمركم بالصلاة عليه (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أجمعين، وعن سائر الصحابة أجمعين وعن التابعين وتابع التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي