كيف يطيب للإنسان عيش وإخوانه يموتون جوعًا في مشارق الأرض ومغاربها؟! وهذه بلاد الشام تئن تحت وطأة الظلم والبلاء، فلقد اجتمع عليهم الظلم والقهر، والقتل والتشريد، والفقر والجوع، والبرد والمرض، بعد أن كانت بلدة تصدر الخيرات لسائر البلاد، فلا حول ولا قوة إلا بالله.. إذا أويت لفراشك الوثير الدافئ فتذكر من يرتعد من الجوع والبرد والعري، وإذا رأيت أبناءك وهم نيام في غرفة تشع بالدفء وعليهم الأغطية الدافئة وعندهم وسائل التدفئة المتنوعة؛ فتذكر أطفال الشام يموتون تحت البرد والعري والجوع...
الحمد لله...
أما بعد فيا أيها الناس: فاتقوا الله -جل وعلا- واشكروه على ما أولاكم من نعمه التي لا تحصى، واستعملوها في طاعته، فالنعم إذا شُكرت قرَّت، وإذا كُفرت فرَّت، يقول جل في علاه: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ) [الشورى: 27]، ويقول: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى) [العلق: 6-7]، فالله -جل في علاه- يمنع الرزق عن الخلق رحمة بهم، حتى لا يبغوا في الأرض؛ لأن الإنسان بطبعه إذا أحس أنه استغنى طغى وتجبر على ربه.
عباد الله: هذه حال الإنسان في حياته إلا من رحم الله، ووالله إنه ليبلغني ويبلغكم ما يتفطر له القلب، ويقشعر له البدن خوفًا من العقوبة مما يراه من المفاخرة والمباهاة بمعصية الله تعالى، فأحدهم يغسل يدي ضيوفه بالسمن، والآخر بدهن العود، وثالث بنثر المال على الأرض، والآخر بذبح الأباعر والغنم والدجاج ويضعهن على صحن يُحمل بالرافعات، كل ذلك فخرًا وخيلاء ومباهاة.
ولو دعي أحدكم للإنفاق في سبيل الله لبخل بماله، أفلا يتقون الله ويخافون عقابه، أفلا يرون ما حل بالديار من حولنا، فقر وجوع وتشرد، وحروب وقتل وإعاقات؟
عباد الله: الإسراف والتبذير خُلقان ذميمان سقط فيهما من فُتن بالدنيا وشهواتها، وكثير منا يقع فيهما وهو لا يعلم، لجهله بمعنى الإسراف والتبذير، وقد عرفهما أهل العلم
فالإسراف: هو صرف الشيء فيما لا ينبغي زائدًا على ما ينبغي.
وقال الراغب: "السرف: تجاوز الحد في كلِّ فعل يفعله الإنسان، وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر".
وقال الجرجاني: "الإسراف: هو إنفاق المال الكثير في الغرض الخسيس. وقيل تجاوز الحدِّ في النفقة، وقيل: أن يأكل الرجل ما لا يحلُّ له، أو يأكل مما يحل له فوق الاعتدال، ومقدار الحاجة. وقيل: الإسراف تجاوز في الكمية، فهو جهل بمقادير الحقوق".
قال الشافعي: "التبذير إنفاق المال في غير حقِّه".
وقال بعض العلماء: الإسراف في المباحات، والتبذير إنفاق المال في المعاصي.
فالإسراف يكون بالقول والفعل، وهو فيما أباح الله لنا، في المأكل والمشرف والملبس الحلال، بالإنفاق فيه زائدًا على الحاجة، فالمرأة التي تشتري شنطة بالألوف، أو نعلا بالألوف هي من المسرفين بلا شك.
وأما من يدخن، ويشرب المسكر، ويشتري المجلات الساقطة، ويركب القنوات الهابطة فهو من المبذرين، وليس هذا حصرًا على ما ذُكر، ولكنه مثال يتضح به المقال.
قال سفيان الثوري -رضي الله عنه-: "ما أنفقت في غير طاعة الله فهو سرف، وإن كان قليلاً"، وكذا قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "من أنفق درهماً في غير حقه فهو سرف".
فالإسلام يرى: أن مال كل فرد هو مال الأمة، وهو في الأصل مال الله أعطاه للإنسان وديعة لينفقه على نفسه وعلى مجتمعه في سبيل الخير، وهذا ما صرح به القرآن: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) [النور:33]، (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) [الحديد:7]، فإسراف الغني في إنفاق المال وتبذيره بغير الطرق المشروعة هو اعتداء على مجموع الأمة؛ لأن المال عصب الحياة، ومصدر قوة الأمة.
معاشر المؤمنين: لقد منَّ الله علينا بالأمن والأمان ورغد العيش، وفتح الله علينا من خزائنه، ما يبكي كبار السن الذين عايشوا الفقر والجوع قبل قرابة نصف قرن فقط، فليس الجوع عنا ببعيد.
واليوم نرى من يكفر هذه النعم فصرفها فيما لا يحل، ولقد أخبر المولى -جل وعلا- كيف بدَّل حال من كفر بنعم الله: فقال جل شأنه: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل: 112]، فها هيا نعم الله علينا تتهافت من كل بلد تملأ أسواقنا ولله الحمد، لا تنقطع طول السنة، أفلا نخشى حرمانها عندما نكفرها بالإسراف فيها وتبذيرها.
أخرج أبو داود والترمذي والنسائي في سننهم من حديث أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- قال: "يا أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها في غير محلها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) [المائدة: 105]، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه".
فلا يسلم من رأى المنكر وسكت، ولا يكفى القول: "ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا"، ونحن نستطيع الإنكار باللسان أو اليد.
فلقد لعن الله بني إسرائيل؛ لعدم نهيهم عن المنكر فقال: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة: 78- 79]، قيل كانوا يرونهم على المنكر فيقولون: يا فلان اتق الله ودع ما أنت فيه، ثم لا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وجليسه من الغد.
وقال سبحانه: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)[الإسراء: 16]. قال العلاَّمة الشنقيطي في "أضواء البيان" (3/ 159) ما مُختصره: (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) بطاعة الله وتوحيده، وتصديق رُسله وأتْباعهم فيما جاؤوا به، (فَفَسَقُوا)؛ أي: خرَجوا عن طاعة أمر ربِّهم، وعَصَوه وكذَّبوا رُسله، (فَحَقَّ عَلَيْهَا القول)؛ أي: وجَب عليها الوعيد، (فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)؛ أي: أهْلَكناها إهلاكًا مستأصلاً، وأكَّد فِعل التدمير بمصدره ؛ للمبالغة في شِدَّة الهلاك الواقع بهم".ا.هـ.
اللهم أعذنا من غضبك وأليم عقابك يا رب العالمين، أقول قولي هذا....
أما بعد فيا أيها الناس: لقد نهى الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- فقال: (وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا) ولقد ذم الله المبذرين فقال سبحانه: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) [الإسراء: 26- 27].
قال الطبري في تفسيره ما مختصره:
"وأمَّا قوله: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ)، فإنه يعني: إنَّ المفرِّقين أموالَهم في معاصي الله المنفقيها في غير طاعته - أولياءُ الشياطين، وكذلك تقول العرب لكلِّ ملازم سُنة قومٍ وتابعٍ أثَرهم: هو أخوهم.
(وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا)، يقول: وكان الشيطان لنعمة ربِّه - التي أنعمَها عليه - جحودًا، لا يَشكره عليه، ولكنه يَكفرها بتَرْكه طاعةَ الله، وركوبه معصيتَه، فكذلك إخوانه من بني آدم، المبذِّرون أموالَهم في معاصي الله، لا يشكرون الله على نِعمه عليهم، ولكنهم يخالفون أمره ويعصونه". ا.هـ.
وأخبر سبحانه أنه لا يحب المسرفين فقال: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: 31].
معاشر المسلمين: كيف يطيب للإنسان عيش وإخوانه يموتون جوعًا في مشارق الأرض ومغاربها؟! وهذه بلاد الشام تئن تحت وطأة الظلم والبلاء، فلقد اجتمع عليهم الظلم والقهر، والقتل والتشريد، والفقر والجوع، والبرد والمرض، بعد أن كانت بلدة تصدر الخيرات لسائر البلاد، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
الكل سمع عن بلدة مضايا وما حولها ممن حاصرهم النظام الظالم لمدة أربعة أشهر وتزيد، حتى مات الناس فيها جوعًا وبردًا، وهذا عمر بن الخطاب لما أصاب الناس جوع وجدب، حلف أن لا يذوق غير الزيت والملح حتى يشبع المسلمون، والسلطان نور الدين محمود لما حاصر الفرنج بلدة دمياط حلَف أن لا يغتسل لجنابة ولا يضحك حتى يفك الحصار عنهم، هؤلاء هم من يعيش همَّ المسلمين، ويعرفون معنى الأخوة في الدين.
فمن يبذر ماله ويسرف فيه هل انقطعت في قلبه مشاعر الأخوة أم هي معدومة؟!
عباد الله: إذا أويت لفراشك الوثير الدافئ فتذكر من يرتعد من الجوع والبرد والعري، وإذا رأيت أبناءك وهم نيام في غرفة تشع بالدفء وعليهم الأغطية الدافئة وعندهم وسائل التدفئة المتنوعة؛ فتذكر أطفال الشام يموتون تحت البرد والعري والجوع، إذا لم تفض عينك بالدمع وأنت تتذكرها ففي إخوتك لهم غشٌّ.
عباد الله: المواساةَ المواساة لإخوانك في بلاد الشام وغيرها، أنفقوا حتى يبارك لكم الله فيما رزقكم، وألحوا في الدعاء أن يرفع الله البلاء عن إخوانكم، فلقد عظم الخطب وطال ليل الظلم، ونحن بالله واثقون ولحكمه راضون، غير أنا نخشى العقوبة في تقصيرنا في حق إخواننا المستضعفين.
أيها الناس: خذوا على يد السفيه، وأطروه على الحق أطرًا، واستعملوا نعم الله في طاعته ومحابه، لتدوم النعم، ولنسلم عند حدوث النقم، عافانا الله وإياكم.
اللهم إنا نعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، ونعوذ بك من غلبة الدين قهر الرجال.
اللهم اغفر للمسلمين...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي