صور من توفيق الله للعبد

خالد بن سعد الخشلان
عناصر الخطبة
  1. انقضاء ثلث رمضان .
  2. أهمية اغتنام الأزمان الفاضلة في الطاعات .
  3. تأملات في إقبال أقوام على الطاعة وإدبار آخرين .
  4. التوفيق للطاعة نعمة تستحق الشكر .
  5. الحذر من تضييع مواسم الطاعات. .

اقتباس

ترى الواحد منهم يحزن إن فاتته الطاعة، يبكي على مفارقة أزمنة الشرف والفضل ومواسم المرابحة والمتاجرة، ترى الواحد منهم ملازمًا لمصحفه تاليًا كلام ربه، ينتقل من ختمة إلى ختمة، قد مسه الجوع، وأضناه التعب، ويبست شفتاه، وهو مع ذلك ملازم لمصلاه، عاكف على كتاب ربه تراه في الليل ناصبًا قدميه؛ يناجي ربه يصلي مع المصلين، ويقوم مع القائمين على الرغم من بدنه الضعيف وجسده الشاحب المتهالك من الأمراض أو الأوجاع أو من الكبر. فيا الله! ما أعظم هذه النفوس الصابرة المحتسبة التي نشأت على الطاعة، وحب العبادة، عاملها الله برحمته وفضله وإحسانه، وختم لها بخير ما ختم به لعباده وأوليائه الصالحين.

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

 وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفيه وخليله وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى ومصابيح الدجى ومن تبعهم واكتفى وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله اتقوه في جميع أحوالكم فلا يراكم ربكم حيث نهاكم ولا يفتقدكم حيث أمركم، ألا وإن من تقوى الله -عز وجل- اغتنام مواسم العمر وأزمنة الفضل والشرف؛ فإنها والله سريعة التقضِّي قريبة الانقضاء.

ها أنتم يا عباد الله تختتمون هذه الليلة الآتية العشر الأول من شهر رمضان، وبانتهائها يكون ثلث الشهر من الليالي قد انتهى، فيا لله ما أسرع انقضاء الأيام وتصرُّم الأعمار وكما انقضت العشر الأول من الشهر سريعًا سينقضي باقيه كذلك، بل سينقضي العمر ويحين موعد الأجل المحتوم الذي لا يملك أحد تأخيره ولا تقديمه (فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف: 34].

فرحم الله امرأً اعتبر بسرعة مرور الأيام والشهور والأعوام، ودعاه ذلك إلى المسارعة إلى الخيرات والمسابقة إلى الطاعات، والإكثار من الأعمال الصالحات والقربات النافعات الباقيات، وربكم -عز وجل- في كتابه الكريم يحثكم على ذلك بقوله -سبحانه وتعالى- (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) [الحج: 197].

أيها الإخوة المسلمون: ما مضى من الشهر فرصة كافٍ ليقوم كل إنسان نفسه ليعرف قدر أرباحه، وقدر خسائره في هذا الشهر المبارك، ليعرف أوجه الخير والصلاح والبر والتقوى في تعامله مع  هذا الموسم العظيم، ليعرف أوجه الخلل والنقص والتفريط والغبن والخسارة في تعامله مع هذا الشهر وغيره من مواسم الفضل والشرف؛ فيحمد الله -عز وجل- على التوفيق، ويسأله الثبات والتوفيق للزيادة في الخير والبر، ويبادر بتلافي التقصير وتدارك الخلل والنقص ما دام في الشهر بقية قبل أن تطوى صحائف هذا الشهر فيبوء المفرط بالخيبة والخسران.

جعلني الله وإياكم ممن عرفوا لهذا الشهر قدره، وأدركوا شرفه ومنزلته، فجدُّوا واجتهدوا، وسارعوا وسابقوا في كل طاعة، ونافسوا في كل قربة يرجون من وراء ذلك ثواب الله ورضاه ومغفرته ورحمته.

أيها الإخوة في الله: يعيش فئام من الناس في نعم عظيمة، ومنن جسيمة حُرمها غيرهم، وهذه النعم تستوجب مزيد من شكر المنعم -سبحانه وتعالى-؛ فهي كلها محض فضل من الله -عز وجل- وكرم وإحسان منه -سبحانه وتعالى-.

أيها الإخوة المسلمون: أيها الإخوة الصائمون: التوفيق للطاعة وملازمة العبادة والتوفيق للهداية هو –والله- من أجلّ نعم الله على العبد، فهو سبحانه الذي هدى القلوب وزكَّى النفوس، وجعلها تحب الطاعة وتألفها وتشتاق للعبادة وتلازمها لولا عون الله سبحانه، لولا توفيقه وتأييده ما استطاع العبد فعل شيء من ذلك (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ) [الحجرات:17].

إنك يا من وُفِّقت للطاعة والعبادة ترى بأم عينيك فئامًا من الناس حُرموا هذا الخير، حُرموا هذا البر، نفوسهم عن الطاعة معرضة حتى في أزمنة الشرف والفضل، قلوبهم عن الخير منصرفة حتى في الأزمنة المباركة؛ أزمنة مضاعفة الأعمال أزمنة التسابق إلى الأعمال الصالحة، خطاهم إلى الطاعة متعثرة، خطاهم إلى الطاعة ثقيلة، وأنت تنعم بذلك البر والطاعة والعبادة أليس هذا من أعظم التوفيق لك؟ أليس هذا من أعظم المنن من المولى -سبحانه وتعالى- لك، فاحمد الله -سبحانه وتعالى- على ذلك، وسل الله الثبات وحسن الختام.

أيها الإخوة الصائمون: المداومة على الطاعة والاستمرار عليها؛ صلاة وصوم، وذكر وقراءة قرآن، وغير ذلك من صور الطاعة والعبادة لون آخر من ألوان التوفيق الذي وفَّق الله إليه مَن شاء من عباده.

وأنت أيها الأخ الصائم ترى بأم عينيك فئامًا من الناس حُرموا نعمة المداومة على الطاعة ومواصلة فعل الخير والاستمرار على العبادة.

ها هي مواسم الرحمات، مواسم المغفرة، مواسم مضاعفة الأجور، مواسم العتق من النار التي رتَّبها الله -عز وجل- على القيام بأعمال يسيرة والاستمرار عليها.

يَمُن الله بها على العباد فترى فئامًا من الناس يقبلون على الطاعة أول الشهر، ثم ما هي إلا ليالي معدودة وأيام يسيرة، وإذا بالضعف والخور يسري إلى النفوس فتتلاشى تلك الحماسة للخير التي وُجدت أول الشهر، ويحل محلها الكسل والتثاقل عن الطاعة والعبادة، عندها أيها الموفَّق تدرك عظيم نعمة الله عليك؛ بحرصك على العبادة، ومداومتك عليها، واستمرارك في فعل الخير، وهي –والله- محض فضل من الله عليك وتوفيقه لك.

 ومن علم الله في قلبه الحرص على الهداية والرغبة في الطاعة ثبَّته الله عليها، ومنَّ عليه بالمداومة على العبادة وملازمتها (وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ) [التوبة:46].

فيا من وفَّقه الله للمداومة على فعل الخير والبر وملازمة الطاعة والعبادة، احمد الله حمدًا كثيرًا على ذلك، واسأل ربك الثبات والإعانة على ملازمة الخير والاستقامة على الطاعة، ويا من حرم ذلك أقبل على ربك حقًّا واعترف بتقصيرك وتفريطك صدقًا، واسأل ربك بتضرع وإلحاح أن يأخذ بيدك وناصيتك إلى البر والتقوى؛ فإن من صدق في ذلك مع الله صدق في سؤال الهداية مع الله أكرمه ربه بالهداية والتوفيق للطاعة وملازمتها (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69].

وفي الحديث القدسي: "يا عبادي كلكم ضالّ إلا من هديته فاستهدوني أهدكم"، استهدوا الله بطلب الهداية والتوفيق للخير، استهدوا الله بالثبات على الطاعة وملازمة الاستقامة وستجدون ربًّا كريمًا سميعًا مجيبًا.

أيها الإخوة في الله: الصبر على الطاعة والتلذذ بها على الرغم مما قد يصاحب القيام بها من مشقة بدنية لبعض الناس هو الآخر لون من ألوان توفيق الله للعبد، وأنت -أيها الأخ المبارك- ترى كذلك بأم عينيك رجالاً ونساء قد وهنت عظامهم، وهزلت أجسادهم، واشتعلت رؤوسهم شيبًا، وصار الضعف باديًا على جوارحهم، وتثاقلت خطاهم واحدودبت ظهورهم، ومع ذلك ترى منهم على الصبر على العبادة، والتلذذ بالطاعة، والحرص عليها ما لا يخطر على بال.

ترى الواحد منهم يحزن إن فاتته الطاعة، يبكي على مفارقة أزمنة الشرف والفضل ومواسم المرابحة والمتاجرة، ترى الواحد منهم ملازمًا لمصحفه تاليًا كلام ربه، ينتقل من ختمة إلى ختمة، قد مسه الجوع، وأضناه التعب، ويبست شفتاه، وهو مع ذلك ملازم لمصلاه، عاكف على كتاب ربه تراه في الليل ناصبًا قدميه؛ يناجي ربه يصلي مع المصلين، ويقوم مع القائمين على الرغم من بدنه الضعيف وجسده الشاحب المتهالك من الأمراض أو الأوجاع أو من الكبر.

فيا الله! ما أعظم هذه النفوس الصابرة المحتسبة التي نشأت على الطاعة، وحب العبادة، عاملها الله برحمته وفضله وإحسانه، وختم لها بخير ما ختم به لعباده وأوليائه الصالحين.

وفي الوقت ذاته ترى بأم عينيك من إخوانك وأبنائك وجيرانك ترى بأم عينيك فئامًا من الناس يعيشون فترة نشاطهم وعنفوان عمرهم؛ قوةً في البدن واكتمالاً وسلامة في الجوارح وصحةً وعافية ورغدَ عيش، وأمنًا، ومع ذلك ترى عندهم تململاً من الطاعة، وتثاقلاً في المشي إليها، وكسلاً وخمولاً، عندها تدرك أن القوة قوة الروح، وأن الشباب شباب الروح، وأن العجز والكسل ليس عجز الجوارح وكسلها، ولكنه عجز الروح وكسل النفس عياذًا بالله.

ومن ثَم تدرك -أيها الموفَّق- عظيم فضل الله عليك بأن حبَّب إليك الطاعة، ورغَّبك فيها، وجعلها أنسك ولذة قلبك؛ فله سبحانه وحده الشكر والفضل، ولكن الله حبَّب إليكم الإيمان، وزيَّنه في قلوبكم، وكرَّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان.

فالحمد لله المانّ بالنعم الموفق للطاعة، والمعين عليها، والمثيب عليها لربنا الحمد حمدًا يليق بجلاله وكماله وإحسانه وثوابه رزقنا الله جميعًا، شكر نعمته وملازمة طاعته والثبات على دينه وختم لنا جميعا بخاتمة السعادة.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلما تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

 أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد رسول الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذَّ عنهم شذَّ في النار.

عباد الله: اغتنموا أيام شهركم هذا ولياليه لكل ما يقربكم لمولاكم، فوالله -أيها الإخوة في الله- ما هي إلا أيام معدودة، ثم يودعكم هذا الشهر الكريم.

إن من الغبن العظيم -يا عباد الله- أن يمن الله علينا بإدراك هذا الشهر، ثم نفوّت هذه الفرصة العظيمة، ولا نجعل منها فرصة لتجديد التوبة وتقوية الإيمان وزيادة الحسنات.

لا نجعل من هذه الفرصة -وقد منَّ الله عز وجل بها علينا- فرصة لتكفير السيئات ومحو الخطيئات بعمل الصالحات والقربات النافعات، وكأننا على ثقة وأمان أن الشهر سيتكرر علينا أعوامًا وأعوامًا، والمنية تخترم ما بين فترة وأخرى أصحابًا لنا وإخوانًا.

لنجتهد -أيها الإخوة المسلمون- فعما قريب تحين ساعة الفراق، فيندم المفرِّط على تفريطه والغافل على غفلته، ولات ساعة مندم.

جعلني الله وإياكم من الموفَّقين لاغتنام أيام الشهر ولياليه، وأعاننا على فعل ما يحب ربنا ويرضاه، إن ربي على كل شيء قدير.

هذا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبدالله؛ فقد أمركم ربكم بهذا في كتابه، فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].

وقال عليه الصلاة والسلام: "من صل عليَّ صلاة صلَّى الله عليه بها عشرًا".. اللهم صلّ وسلم وبارك... 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي