فالعاقل من اغتنم تلك المراحل فقطعها بالأعمال الصالحة حتى يطوي مراحل عمره كلها فيحمد سعيه ويبتهج بما أعده ليوم فاقته وحاجته، فإذا طلع عليه صبح الآخرة وانقشع عنه ظلام الدنيا حمد سراه، وانجاب عنه كراه. وأما الأشقياء فإنهم قطعوا تلك المراحل بما يسخط الله فهم يسيرون إلى النار وكلما قطعوا من هذه الدنيا مرحلة قربوا إلى النار مصحوبين بالشياطين الموكلة بهم يسوقونهم إليها
الحمد لله رب العالمين، خلق كل شيء فقدره تقديراً، خلق هذا الإنسان وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً. وسخر له ما في السموات وما في الأرض، وأمده بالعقل والتفكير، وبين له طريق الخير وطريق الشر، (إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً).
أحمده على فضله وإحسانه، واسأله أن يمدنا بتوفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله تعالى واعلموا أنكم في هذه الدنيا لستم بدار إقامة، وإنما مررتم وأنتم في طريقكم إلى الآخرة لتتزودوا منها بالأعمال. فالعبد من حين استقرت قدمه في هذه الدنيا فهو مسافر إلى ربه ومدة سفره هي عمره، وقد جعلت الأيام والليالي مراحل لسفره. فكل يوم يقطع مرحلة من المراحل ولا يزال يطويها مرحلة مرحلة حتى ينتهي السفر.
فالعاقل من اغتنم تلك المراحل فقطعها بالأعمال الصالحة حتى يطوي مراحل عمره كلها فيحمد سعيه ويبتهج بما أعده ليوم فاقته وحاجته، فإذا طلع عليه صبح الآخرة وانقشع عنه ظلام الدنيا حمد سراه، وانجاب عنه كراه. وأما الأشقياء فإنهم قطعوا تلك المراحل بما يسخط الله فهم يسيرون إلى النار وكلما قطعوا من هذه الدنيا مرحلة قربوا إلى النار مصحوبين بالشياطين الموكلة بهم يسوقونهم إليها –كما قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً) أي: تزعجهم إلى المعاصي والكفر إزعاجاً وتسوقهم سوقاً.
والله سبحانه خلق الآخرة للناس دارين: داراً للعاملين بطاعته وهي الجنة وقد جعل فيها كل شيء مرضي وملأها من كل محبوب، وجعل الخير بحذافيره فيها، وخلق داراً للعاملين بمعاصيه وهي النار، وأودعها كل شيء مكروه وجعل الشر بحذافيره فيها، فهاتان الداران هما دار القرار قال تعالى: (وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ).
وخلق سبحانه وتعالى دار الدنيا وجعلها محل تزود واستعداد للدار الآخرة، فأوجد سبحانه في هذه الدار من آثار رحمته من الثمار والفواكه والطيبات والملابس الفاخرة ما هو نفحة من نفحات الدار الآخرة التي جعل كل ذلك فيها على وجه الكمال، فإذا رآه المؤمنون ذكرهم بما هناك من السرور والعيش الهنيء فشمروا إليه وقالوا: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة وعما قليل يصلون إلى هذه الملذات في دار لا تفنى ونعيم لا يزول.
كان بعض السلف إذا رأى ما يعجبه في هذه الدنيا وهو لا يستطيع الحصول عليه قال: موعدك الجنة، واجتهد في الطاعة والعبادة.
وأوجد سبحانه وتعالى في هذه الدار من آثار غضبه ونقمته من العقوبات والآلام والمحن والمكروهات ما يستدل بجنسه على ما في النار من العذاب والنكال، ومن أمثلة ذلك ما يأتي في الصيف من شدة الحر وما يأتي في الشتاء من شدة البرد فإنهما من آثار تنفس جنهم حيث أذن الله بنفس في الصيف ونفس في الشتاء وفي ذلك أعظم عبرة، ومن أمثلة ذلك نار الدنيا فإنها تذكر بحرها وإحراقها وآلامها بنار الآخرة وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى ونبه عليه بقوله: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَأَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَنَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ) فأخبر سبحانه أنه جعل نار الدنيا لفائدتين عظيمتين:
الأولى: أنه يذكر بها عباده نار الآخرة حتى يخافوا منها ويجتنبوا الأعمال الموصلة إليها.
الثانية: أنها تنفع المقوين-وهم المسافرون، سموا بالمقوين لأنه ينزلون بالقوى وهي الأرض الخالية.
قال الإمام ابن القيم: وخص المقوين بالذكر وإن كانت منفعتها عامة للمسافرين والمقيمين، تنبيهاً لعباده على أنهم كلهم مسافرون، وأنهم في هذه الدار على جناح سفر ليسوا مقيمين ولا مستوطنين، وأنهم في هذه الدار على جناح سفر ليسوا مقيمين ولا مستوطنين، والمقصود أنه سبحانه أشهد في هذه الدار ما أعد لأوليائه وأعدائه في دار القرار، وأخرج إلى هذه الدار من آثار رحمته وعقوبته ما هو عبرة ودلالة على ما هناك من خير وشر، ود جعل سبحانه هذه الدنيا دار اختلاط وامتزاج يختلط فيها الأخيار بالأشرار والمؤمنون بالفجار ابتلاء وامتحاناً ليحصل بذلك الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) (لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ).
وجعل الدار الآخرة دار تمايز وافتراق، قال تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ).
كثير من الناس تعلقت همته في الحياة الدنيا ونسي الآخرة، فأتعب نفسه واستهلك وقته في جمع الدنيا وملاحقتها وفي النهاية يتركها لغيره ويمضي للدار الآخرة على غير استعداد ويسافر بغير زاد (خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) وقليل من الناس نظر في العواقب وعرف قيمة الدنيا وقيمة الآخرة فجعل الدنيا مطية للآخرة تزود منها بالأعمال الصالحة فأتاه الموت وهو على استعداد وانتقل للآخرة بأحسن الزاد، فاستفاد من دنياه وآخرته، وقد قال الله تعالى في الفريقين: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً).
فاتقوا الله عباد الله فإن كثيراً من الناس اليوم لما بسطت عليهم الدنيا اغتروا بها وانساقوا معها ونسوا الآخرة فأضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وصار همهم إعطاء أنفسهم ما تشتهي فانحطوا عن درجة الآدميين العقلاء إلى درجة البهائم، بل هم أضل سبيلاً من البهائم لأن البهائم لم تعص ربها وهؤلاء عصوا ربهم وظموا أنفسهم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي