البيت الحرام تاريخ ومناسك

محمد أحمد العامري
عناصر الخطبة
  1. ثقة هاجر بالله وتوكلها عليه .
  2. تسليم وانقياد إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- لأمر الله .
  3. بناء إبراهيم وإسماعيل للبيت الحرام .
  4. فضل عشر ذي الحجة وبعض العبادات المشروعة فيها .

اقتباس

سنتعرف على إبراهيم الخليل الأب النبي، وزوجته هاجر الأم، وعلى ابن لهما، هو إسماعيل -عليه الصلاة والسلام-. أسرة من الأسر، لكن خلد الله ذكرها، إلى الآن وإلى أن تقوم القيامة، ليست أسرة ملكية، فيسمى الأب ملكاً، والأم ملكة، والابن أميراً، ليست أسرة تمتلك المال، ولا تمتلك العقار، إنما أسرة أحبها الله؛ لأنها...

الخطبة الأولى:

(تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا) [الفرقان: 61].

أحمده -تعالى- وأستعينه وأستهديه، وأعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) [آل عمران: 102-103].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد: 7].

(وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2-3].

اللهم إنا نسألك أن تؤلف على الخير قلوبنا، وأن تلمَّ شعثنا, وأن ترفع رايتنا، وأن تنصرنا على عدوك وعدونا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

أما بعد:

الحج قصة عظيمة، وركن عظيم، إذا ما ذكر الحج؛ ذكر إبراهيم الخليل -عليه الصلاة والسلام-، وإذا ذكر الحج؛ ذكر إسماعيل -عليه الصلاة والسلام-.

إذا ما ذكر الحج؛ ذكرت أسرة عظيمة، سنكون وإياكم في ضيافة هذه الأسرة، وسنقف مع فردٍ فردٍ من أفرادها، فنتعرف عليهم.

سنتعرف على إبراهيم الخليل الأب النبي، خليل الرحمن، وزوجته هاجر الأم، وعلى ابن لهما، هو إسماعيل -عليه الصلاة والسلام-.

أسرة من الأسر، لكن خلد الله ذكرها، إلى الآن وإلى أن تقوم القيامة.

ليست أسرة ملكية، فيسمى الأب ملكاً، والأم ملكة، والابن أميراً، ليست أسرة تمتلك المال، ولا تمتلك العقار، إنما أسرة أحبها الله؛ لأنها أحبت الله.

إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- تزوج بامرأة اسمها: سارة, ثم زوجته الثانية اسمها: هاجر.

وكان إبراهيم لا عقب له، أي لا ذرية له.

فإلى كل من ابتلي بالعقم، وعدم الذرية: لقد كان إبراهيم -في أول عمره حتى كبر وشاب رأسه- لا ذرية له، أخذ إبراهيم زوجته هاجر وابنه إسماعيل الرضيع، ثم شق بهم الصحراء من فلسطين، حتى وصل إلى واد قفر لا زرع فيه ولا ماء ولا قوم, ليس فيه إلا الرمال والشمس الحارة، والرياح التي تحمل ذرات الرمل، فوضع إسماعيل وأمه هاجر بجواره في ذلك الوادي الذي تتحرك فيه الرياح بين جباله، وأكوام الرمل فيه، فتصدر أصواتاً تخلص إلى القلوب، فتنزعها من مواطنها خوفاً ووحشة بأشد الرجال، فكيف بامرأة ضعيفة، وطفلها الرضيع؟

ثم تركهم وولى، فلحقت به هاجر، قالت: يا إبراهيم لمن تتركنا؟!

فلم يجبها وقلبه يعتصر حزنا وألما لابنه، وفلذة كبده الذي جاءه على حين كبر في السن، وانتظار للذرية: (الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ) [إبراهيم: 39].

وزوجته، أنت رحيم القلب، لم نعهد منك قسوة، ولم نعرف منك ظلماً، ولم نعرف منك جوراً، فكيف تتركنا في هذا الصحراء لا أنيس ولا جليس، ولا طعام ولا شراب، إلا جراب من طعام، وقليل من ماء؟ لمن تتركنا بين هذه السباع والهوام؟ ماذا جنيناه وفعلناه أنا وطفلي هذا حتى تلقي بنا بين يدي وحوش هذا الوادي؟

قالت: يا إبراهيم من أمرك بهذا؟

قال: الله.

قالت: "إذا لا يضيعنا!".

أول موقف مع هذه الأسرة: التسليم بقضاء الله، والانقياد لأمر الله، إبراهيم عندما أخذ زوجته وابنه، ووضعهما في الصحراء، إنما هو طاعة لله؛ وليس فقط انقياد، بل عن حب وتسليم للحكيم الخبير العليم؛ لأن الله أمره بهذا.

وما أن وضعهم وولى، رفع يديه إلى من أمره بذلك، فقال: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) [إبراهيم: 37].

ولما علمت الأم بأن هذا أمر الله رضت بذلك، وسلمت وعادت منشرحة الصدر، مسلمة للأمر، منتظرة للقضاء والقدر.

انظر إلى استسلام الأب، وطاعة الزوجة، وكان هذا هو دور الأب والأم في قصة التوحيد، فهل لذلك الطفل الصغير من دور في القصة قصة الحج، اشتدت حرارة الشمس، ولفيح الصحراء، والأتربة والرياح أخذت ترسم لهم مستقبلاً مجهولاً، أتى الليل، وتلاه النهار، ثم أتى النهار وتلاه الليل، أسرة وحيدة، وطفل رضيع، أم ضعيفة، لا أنيس لها، انتهى الطعام، ونفذ الماء، وأخذ الطفل يبكي؛ لأنه لا يجد ما يشرب من حليب أمه، وأخذ العطش بالأم مأخذه، فأخذت تمشي في الصحراء موقنة أن الذي أتى بها إلى هذا المكان لن يتركها، وأن الذي جاء بها إلى هذا المكان –وإن ماتت- يعلم بحالها، وحال رضيعها، ولن يضيعها.

هذا تسليم، وانقياد لأمر الله، فأخذت تمشي يمنة ويسرة في كل اتجاه، صعدت على جبل صغير اسمه: الصفاء، لعلَّ بئراً تجدها, أو ماءً تلمحه, أو قافلة تمشي, أو إنسانا يتحرك, فلم تجد شيئاً، ثم ولت إلى جبل آخر صغير اسمه: المروة، فأخذت تجري ما بين الصفاء والمروة، سبع مرات، فالحاج يسعى سبع مرات في المسعى، تذكراً لهذه الأسرة العظيمة، واستجابة لأمر الله.

لم تجد شيئاً، وإذا بها تسمع بكاء الصبي ودموعه على خديه تجري، والجوع قد بلغ منه مبلغا، وهو يضرب برجليه على الأرض من شدة الجوع، فجلست بجوار ابنها منتظرة لأمر الله، مستسلمة لقضائه, هل يتركهم الله؟! هل يضيع الله من كان معه؟ هل يضيع الله -جل وعلا- من أطاعه، وانقاد لأمره؟

انظر إلى أضعف خلق الله ذلك الطفل، أمر الله الأرض -بضربة قدم من رجل إسماعيل الجنين الضعيف أن يخرج ماء لا ينضب إلى يوم القيامة، يحكي قصة الاستسلام للواحد القهار، ويكتب في قلوب وأجساد هذه الأمه، لكل من شرب منه التوحيد والإيمان، ومحبة الرحمن الرحيم، أن تخرج ماءها، فأخرج الله ماء زمزم من تحت قدمي إسماعيل -عليه الصلاة والسلام-، فشربت الأم، وشرب الرضيع، وارتويا، فكانت زمزم كما قال عليه الصلاة والسلام: "ماء زمزم لما شرب له" [رواه أحمد وابن ماجة من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-، وصححه الألباني في صحيح الجامع].

هذه بركة من بركات تلك الأسرة، من طفل صغير، بركات تبقى إلى يوم القيامة، ماء زمزم أعجوبة معجزة، أشهدتم في التاريخ بئراً لم ينضب ماؤها من قبل آلاف السنين؟

هذه بئر يشرب منها الملايين كل عام, بل في موسم الحج يشرب منها ما يزيد على ثلاثة ملايين شخص، لم تنضب، ولم تنته، أليست تلك معجزة؟ أليس ذلك من آيات الله التي تزيدنا إيماناً؟!

الموقف الثاني مع هذه الأسرة: كبر إسماعيل وعلم إبراهيم بما حل بأسرته؛ لأنه قبل أن يسافر، وقبل أن يولي، بعد أن تركهما، رفع يديه إلى السماء، وقال: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) [إبراهيم: 37].

فلما وصلته الأخبار: أن القبائل، وأولها قبيلة من اليمن اسمها: جرهم، قد جاؤوا إلى ذلك المكان، فوجدوا إسماعيل وأمه، ووجدوا بئراً يشربون منها، فاستوطنوا مكة، وجلسوا في ذلك الوادي.

كبر إسماعيل، وتعلق به قلب أبيه إبراهيم، فكبر على حبه، ونشأ على طاعته، وانظر إلى ابتلاء الله -عز وجل-  لإبراهيم، بلاءً بسبب هذا الحب، حب إبراهيم لابنه.

انظر ما ذا قال الله -عزوجل-: (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الصافات: 99]؟

(رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات: 100 - 102].

انظر إلى هذا النبي، وانظر إلى قلبه، فهو أرق وأرحم القلوب, فهو قلب نبي من الأنبياء، وقلب والد يحب ابنه، ويحب ذريته، طعن في السن، ولا أمل له إلا في إسماعيل -عليه الصلاة والسلام-، ثم يأمره الله أن يذبح ابنه، وبكره.

صراع نفسي بين حب الولد، وبين طاعة الله، لكن الكلام مع إبراهيم، لن يؤثر الدنيا، ولا أولادها، ولا أموالها، على طاعة الله -جل وعلا-، لذلك: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) [النحل: 120].

أمة في الإيمان، أمة في التوحيد، أمة في محبة الله، كيف الله وهو خليل الرحمن؟ لكن كيف يبدأ؟ وماذا يفعل؟

أخذ ابنه معه وصعد به إلى المسعى، فقال: يا بني! -انظر إلى هذا الأدب وهذه التربية، واسمع إلى هذا الخطاب!: (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى) -ورؤيا الأنبياء وحي- (إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى) [الصافات: 102].

انظر إلى أدب المتكلم الأب، والسامع الابن، الأب يقول لابنه: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) أمرني الله أن أذبحك: (فَانظُرْ مَاذَا تَرَى

انظر إلى المنافسة على طاعة الله -جل وعلا-!.

ماذا وجد إبراهيم؟

وجد ابنه إسماعيل أسرع استجابة لأمر الله: (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) [الصافات: 102].

(افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) طاعة لله.

أتعرفون ما معنى: (افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ

معناه: أن يضع إسماعيل وجهه على الأرض، ثم يهوي إبراهيم بالسكين، فيفصل ما بين جسده ورأسه!.

(افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا) [الصافات: 102- 103].

فلما سلما لأمر الله، طاعة لله، وانقياداً لأمر الله.

وعجباً أي عجب! يأمر الله إبراهيم أن يضع أسرته في الصحراء، فاستجاب, ويأمر الله إبراهيم أن يذبح ابنه، فاستجاب، ويأمرنا الله بخمس صلوات في اليوم والليلة، وبعضنا لا يستجيب! ويأمر الله الأبناء بطاعة آبائهم فيما ليس عليهم فيه مشقة، ولا تكليف، ولا يستجيبون.

ويأمر الله الآباء بتربية أبنائهم فيما فيه صلاحهم وفلاحهم، وبرا بهم فلا يطيعون.

(فَلَمَّا أَسْلَمَا) وهذا هو حقيقة الاستسلام لأمر الله، الاستسلام والانقياد والطاعة: (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) [الصافات: 103].

وضع وجهه على الأرض، حتى لا ينظر إبراهيم إلى ابنه، ونفسه تتقهقر، والدمع يسيل على وجهه، وضع وجهه على التراب، وأخذت الملائكة تبكي من هذا المنظر العجيب! وهذه الطاعة المخلصة، حتى قيل في الإسرائيليات: ان اسماعيل قال: يابت ارفع ثوبك حتى لا يصيبك شي من دمي، فتراه امي، فتبكي لذلك، وقال: يابت لا تنظر إلي وأنت تذبحني، حتى لا تأخذك الرحمة بي، فتبكي.

علم الله طاعة إبراهيم، وانقياد إسماعيل: (وَفَدَيْنَاهُ) [الصافات: 107].

فداه الله بذبح عظيم، هو العيد الذي تحتفلون به، هو الهدي والأضحية التي يذبحها المسلمون, فهي سنة نبينا إبراهيم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

أتعرفون بماذا نحتفل؟ وما هو سبب عيدنا؟

إنه طاعة أبينا إسماعيل لأبيه إبراهيم، ومكافأة الله لهما، بأن كان إبراهيم أمة, ويبعث يوم القيامة أمة، وفدى الله إسماعيل بذبح عظيم، وأصبح ذلك عيدا لنا.

اللهم أصلح بيوتنا، اللهم أصلح زوجاتنا، اللهم أصلح أولادنا.

اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، وتجاوز عن خطايانا.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاماً على عباده الذين اصطفى.

أما بعد:

الموقف الثالث مع هذه الأسرة العظيمة: كبر إسماعيل، وبلغ أشده، وجاءه أبوه إبراهيم، قال: يا بني إني أمرت ببناء بيت الله، مرة ثانية بعد بناء آدم لها، فهل أنت معين لي؟ قال: نعم.

فشرع إبراهيم وإسماعيل في بناء أول بيت وضع للناس في الأرض، وأول بيت عبد فيه الإنسان ربه الكعبة المشرفة، وبدآ في بناء الكعبة.

لكن انظر إلى العجب! فكل منكم يعرف الكعبة، ويرى عظمتها، كانت الكعبة في بناء إبراهيم أكبر مما هي عليه الآن، والذي بناها إبراهيم وابنه إسماعيل.

والسؤال: كيف استطاع اثنان بقص الحجارة، ونقلها، وحفرها على قواعد آدم -عليه الصلاة والسلام-؟ كيف استطاع اثنان أن يبنيا هذه الكعبة العظيمة؟

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة: 127] جهد جبار! عندما أراد مشركو مكة أن يعيدوا بناء الكعبة، قالوا: سنبنيها على قواعد إبراهيم، فعجزوا، ولم يستطيعوا أن يصلوا إليها، ثم هم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يعيد بناءها على قواعد إبراهيم، فهي لم تبن على قواعد إبراهيم، كانت غائرة في الأرض، متينة متماسكة.

بناها اثنان: إبراهيم وإسماعيل -عليهما الصلاة والسلام-.

ثم يقول ابراهيم: ربنا لا ترد عملنا علينا، ربنا تقبله منا، ولا تحرمنا منه، على فضلهما، وإيمان يملأ قلوبهم، وتاريخ مجيد بالتوحيد والانقياد والعبودية، يخافا ألا يتقبل منهما.

أيها المؤمنون: كانت سفينة نوح ملاذاً للناس، ومثوبة لهم، ولا يعرف كيف بناها نوح، ولا كم المدة التي استغرقها في عملية البناء، وكذلك البيت العتيق لا يعرف كم هي المدة، ولا كيفية البناء.

فمن أراد النجاة، فليول وجهه شطر المسجد الحرام, وليعبد رب ذلك البيت, وليكن دعاؤه لله.

هي أحجار لا تضر -والله- ولا تنفع، وقف عمر أمام الحجر الأسود، وقال: "والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك" [واه البخاري ومسلم].

الكعبة حجارة، لكن أمرنا الله أن نصلي صوبها، ونطوف حولها، لا لأنها تضر وتنفع، لكن لأن الله أمر بذلك.

وهما يبنيان يقولان: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة: 127-128].

فكانت مناسك الحج: الكعبة، والسعي، وشرب ماء زمزم، كل ذلك له قصة وارتباط مع نبي الله إبراهيم وابنه إسماعيل -عليهما الصلاة والسلام-.

أيها المؤمنون: إني معرج بعد ذلك أن أذكر لكم فضائل هذه الأيام التي مضى منها ثلاثة أيام، ولم يبق إلا القليل، فهنيئاً لمن أقبل فيها على الصيام، وهنيئاً لمن نوى فيها أن يختم القرآن، وهنيئاً لمن فطر صائما، ولمن تصدق على مسكين، ولمن زار مريضاً، ولمن دعاء للأموات، وهنيئاً لمن أحيا ليله، ولمن أقبل على صلاته، هي أيام يسيرة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عنها: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام" [رواه البخاري، وأبو داود، واللفظ له].

أتعرفون أيام تجتمع فيها العبادات مثل هذه الأيام؟

يجتمع فيها التوحيد: شهادة أن لا إله إلا الله، وفيها الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج.

لا توجد أيام تجتمع فيها هذه العبادات، مثل هذه الأيام.

فلماذا يضيعها المساكين، والمذنبون، والمرضى؟!

أيها المريض: أقبل على ربك، واسأله الشفاء.

أيها الفقير: أقبل على الغني واسأله الغنى.

أيها المظلوم: أقبل على القوي، واسأله النصرة.

أيها العقيم: أقبل  على  الكريم، واسأله الذرية.

يا أيها الوالد، يا من يشتكي عقوق أولاده: أرجُ من ربك في هذه الأيام ذرية صالحة طائعة.

أيها المؤمنون: فلنقبل على ربنا أن يرفع عنا الذل والمهانة التي يعيشها المسلمون في كل مكان.

اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى، وبصفاتك العلى، أن تحفظنا وتحفظ إخواننا في كل مكان.

اللهم احفظ إخواننا في كل مكان.

اللهم احفظ إخواننا المنكوبين.

اللهم آمنهم في أوطانهم، اللهم احفظ عليهم عوراتهم وأجسادهم، اللهم من أراد بهم سوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره.

اللهم انصر عبادك المجاهدين في فلسطين، اللهم انصر عبادك المجاهدين في فلسطين، اللهم انصرهم في العراق، اللهم انصرهم في الأفغان، اللهم انصرهم في الشيشان، اللهم انصرهم في كل مكان، اللهم وأبرم لعبادك المسلمين في فلسطين أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك.

اللهم عليك بالعملاء في فلسطين، اللهم دمرهم تدميراً، اللهم دمرهم ودمر من والاهم، ومن وقف معهم، يا رب العالمين، يا قوي يا جبار يا عزيز يا منتقم.

اللهم وأعنا في هذه الأيام المباركة على الطاعات، وعلى الصلوات، وعلى الصدقات، وعلى قيام الليل، وصيام النهار، برحمتك يا أرحم الرحمين.

عباد الله: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90].

فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي