إِنَّهُ الحَسَدُ وَالغِيرَةُ وَضَعفُ اليَقِينِ وَقِلَّةُ التَّوَكُّلِ، مَاتَ آباؤُنا وَقَبلَهُم قَضَى أَجدَادُنا، وَفَنِيَت أَجيَالٌ وَتَلتهَا أَجيَالٌ، وَمَا نَالَ أَحَدٌ مِنهُم فَوقَ مَا قُدِّرَ لَهُ، وَسَنمُوتُ كَمَا مَاتُوا وَنُنسَى كَمَا نُسُوا، وَلَن يَزِيدَ في رِزقِ أَحَدٍ مِنَّا حِرصُهُ وَلا جَشَعُهُ وَلا طَمَعُهُ، وَلا حَسَدُهُ لأَخيهِ أَو جَارِهِ أَو قَرِيبِهِ، أَو أَن يَتَحَلَّى بِالأَثَرَةِ فَلا يَرَى ..
أَمَّا بَعدُ: فَإنَّ ممَّا لا يحتَاجُ إلى استِدلالٍ أَو بُرهانٍ مَا حَبَا اللهُ أَهلَ هذِهِ البِلادِ المُبَارَكَةِ مِنَ الخَيرَاتِ وَالنِّعَمِ، وَمَا اختَصَّهُم بِهِ مِنَ العَطَايَا وَالمِنَنِ، حَيثُ أَطعَمَهُم مِن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِن خَوفٍ، وَوَسَّعَ عَلَيهِم بَعدَ ضِيقٍ وَأَغنَاهُم بَعدَ فَقرٍ، فَلَهُ -سُبحانَه- الحَمدُ وَالشُّكرُ، وَنَسأَلُهُ المَزيدَ مِن فَضلِهِ وَإنعَامِهِ.
وَلَكِنَّ ممَّا يحُزُّ في نَفسِ الغَيُورِ على هذِهِ الآلاءِ وتِلكَ النِّعَمِ غَفلَةَ فِئَامٍ مِنَ النَّاسِ عَن قِيمتِها وَعَظِيمِ شَأنِهَا، وَتَفريطَهُم فِيهَا وَعَدَمَ تَقييدِها بِشُكرِ الوَاهِبِ سُبحانَه؛ إِذْ إِنَّ مِنَ المُتَقَرِّرِ أَنَّ النِّعَمَ إِذَا شُكِرَت قَرَّت، وَإذَا كُفِرَت فَرَّت، (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرتُم لأَزِيدَنَّكُم وَلَئِن كَفَرتُم إِنَّ عَذَابي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7].
وَإنَّ مِن مَظَاهِرِ كُفرِ النِّعمَةِ التي لُحِظَ أَنها تَزدَادُ بِازدِيَادِ النِّعَمِ وَتَكثُرُ بِوَفرَتِها مَا يَصدُرُ مِن بَعضِ النَّاسِ مِن تَصَرُّفَاتٍ رَعنَاءَ مَصدَرُها أَفكَارٌ حمقَاءُ تُنبِئُ عن قُصُورٍ في الفَهمِ وخَلَلٍ في التَّفكِيرِ والتَّصَوُّرِ، حَيث يُغرِقُونَ في حُبِّ ذَوَاتِهِم وَالانكِفَاءِ عَلَيهَا، وَيَرَونَ أَنَّهُم أَحَقُّ مِن غَيرِهِم في التَّمتُّعِ بما حَولَهم مِنَ النِّعَمِ دُونَ مُنازِعٍ وَلا مُشَارِكٍ، نَاسِينَ أَو مُتَنَاسِينَ أَنَّ فَضلَ اللهِ وَاسِعٌ وَخَيرَهُ عَمِيمٌ، وَأَنَّ خَزَائِنَهُ مَلأى وَيَدَهُ سَحَّاءُ بِالعَطَاءِ لَيلاً وَنهارًا، لا يَنقُصُ مِن مُلكِهِ شَيء وَلَو أَعطَى كُلَّ إِنسَانٍ مَا يُرِيدُ، وَأَنَّهُ لا يَنقُصُ رِزق أَحَدٍ أَن يُشَارِكَهُ فِيهِ آخَرُ، وَأَنَّهُ لا مُعطِيَ لما مَنَعَ اللهُ ولا مَانِعَ لما أَعطَى.
يُقَالُ هَذَا الكلامُ -أَيُّها الإِخوَةُ- لما يَرَاهُ الرَّقِيبُ مِنِ استِمرَارِ قَضَايَا التَّنَازُعِ وَالشَّكَاوَى في المحاكِمِ وَمخَافِرِ الشُّرطَةِ، والتي لا مَنشَأَ لها إِلاَّ الحَسَدُ وَضِيقُ الأُفُقِ وَتَمَكُّنُ الأَثَرَةِ مِنَ القُلُوبِ، فَجَارٌ يَشكُو جَارَهُ عَلى أَمتَارٍ قَلِيلَةٍ اقتَطَعَهَا مِن أَرضٍ لَيسَت لهما جميعًا، وَآخَرُ يَتَبَرَّمُ مِن صَاحِبِ مَزرَعَةٍ حَفَرَ بِئرًا بِجَانِبِ بِئرِهِ بِحُجَّةِ أَنَّهُ امتَصَّ الماءَ عنه، وَتَاجِرٌ يَتَسَخَّطُ مِن قِلَّةِ كَسبِهِ؛ لأَنَّ فُلانًا افتَتَحَ محلاًّ يُزَاوِلُ فِيهِ نَشَاطَهُ وَيَبِيعُ كَمِثلِ سِلعَتِهِ، وَصَاحِبُ إِبِلٍ أَو غَنَمٍ يَشكُو أَنَّ فُلانًا ضَايَقَهُ أَو استَأثَرَ بِالكَلأِ دُونَهُ، فَيَسعَى لِلتَّضيِيقِ عَلَيهِ، وَيَتَمَحَّلُ الحِيَلَ؛ لِزَرعِ المَلَلِ في نَفسِهِ.
إِلى آخِرِ مَا هُنَالِكَ مِن شَكَاوَى يَصِلُ بَعضُها إِلى المَؤسَّسَاتِ الرَّسمِيَّةِ والمحاكِمِ الشَّرعِيَّةِ، وَيَظَلُّ أَكثرُها حَبِيسَ المجالِسِ رَهِينَ الزَّوَايَا، تَلُوكُهُ الأَلسِنَةُ وَتَتَحَرَّكُ بِهِ الشِّفَاهُ، وَيجعَلُهُ المُتَسَامِرُونَ مَادَّةً لِحَدِيثِهِم وَيَأخُذُونَ فِيهِ وَيُعطُونَ، وَيُسِرُّ بِهِ أُنَاسٌ لآخَرِينَ وَيَتَآمَرُونَ، وَيَعمَلُ الشَّيطَانُ عَمَلَهُ وِيجِدُ فُرصَتَهُ في التَّحرِيشِ بَينَ الناسِ وَإِيقَاعِ العَدَاوَةِ بَينَهُم وَالنَّفثِ في نَارِ البَغضَاءِ وَإِشعالِ وَقُودِ الحَسَدِ، وَصَدَقَ الشاعِرُ إِذْ قَالَ:
لَعَمْرُكَ مَا ضَاقَت بِلادٌ بِأَهلِهَا *** وَلَكِنَّ أَخلاقَ الرِّجَالِ تَضِيقُ
نَعَمْ -أَيُّها الإِخوَةُ- مَا ضَاقَت بِلادٌ بِمَنْ حَلَّ فِيهَا، وَلا نَفِدَ رِزقُ اللهِ لِكَثرَةِ مُشَارِكٍ، لَكِنَّهَا أَخلاقُ الرِّجَالِ وَصُدُورُهُم، لَكِنَّهَا قُلُوبُ الرِّجَالِ وَأَفئِدَتُهُم، لَكِنَّهُ الحُمقُ وَالطَّيشُ وَضِيقُ العَطَنِ، لَكِنَّهُ النَّزَقُ وَالخِفَّةُ وَضَعفُ التَّحمُّلِ.
إِنَّهُ الحَسَدُ وَالغِيرَةُ وَضَعفُ اليَقِينِ وَقِلَّةُ التَّوَكُّلِ، مَاتَ آباؤُنا وَقَبلَهُم قَضَى أَجدَادُنا، وَفَنِيَت أَجيَالٌ وَتَلتهَا أَجيَالٌ، وَمَا نَالَ أَحَدٌ مِنهُم فَوقَ مَا قُدِّرَ لَهُ، وَسَنمُوتُ كَمَا مَاتُوا وَنُنسَى كَمَا نُسُوا، وَلَن يَزِيدَ في رِزقِ أَحَدٍ مِنَّا حِرصُهُ وَلا جَشَعُهُ وَلا طَمَعُهُ، وَلا حَسَدُهُ لأَخيهِ أَو جَارِهِ أَو قَرِيبِهِ، أَو أَن يَتَحَلَّى بِالأَثَرَةِ فَلا يَرَى إِلاَّ نَفسَهُ.
كَمَا أَنَّهُ لَن يَنقُصَ ممَّا قُسِمَ لَهُ أَن يُشَارِكَهُ الآخَرُونَ في رِزقٍ مُشَاعٍ، لَكِنَّهَا قَنَاعَاتٌ شَيطَانِيَّةٌ وَإِرجَافَاتٌ إِبلِيسِيَّةٌ، يَزرَعُها الشَّيطَانُ في قُلُوبِ مَن ضَعُفَ بِاللهِ إِيمَانُهُم، وَيَبُثُّهَا في صُدُورِ مَن قَلَّت بِاللهِ ثِقَتُهُم، وَيُزَعزِعُ بها عَقِيدَةَ مَن عُدِمَ عَلَيهِ تَوَكُّلُهُم، وَيُجلِبُ بها عَلَى مَن ضَمُرَ عَلَى رَبِّهِم اعتِمَادُهُم، فَلَم يَرَوا مِنَ الأَسبَابِ إِلاَّ مَا ظَهَرَ لأَعيُنِهِم، ولم يَقنَعُوا مِن الأَرزَاقِ إِلاَّ بما حَسَبَتهُ عُقُولُهُم.
أيها المسلمون: مَا أَجملَ أَن يَتَحَلَّى المسلمونَ بِخُلُقِ الإِيثَارِ وَسَمَاحَةِ النُّفُوسِ، فَيَطلُبُوا الرِّزقَ مِن وَاهِبِهِ وَيَسأَلُوهُ مِن فَضلِهِ العَمِيمِ، ولا يَشتَغِلُوا بِمُدَافَعَةِ أَحَدٍ أَو حَسَدِهِ أَو التَّضيِيقِ عَلَيهِ فِيمَا أَعطَاهُ اللهُ. وَمَا أَقبَحَ أَن يَكُونُوا لِبَعضِهِم حَاسِدِينَ، وَمِن رَحمَةِ اللهِ يَائِسِينَ مُبلِسِينَ، وَفِيمَا يُوغِرُ صُدُورَهُم مُشتَغِلِينَ.
أَمَا لهم في صَحَابَةِ رَسُولِ اللهِ أُسوَةٌ وَقُدوَةٌ؟! أَينَ هُم مِنَ الأَنصَارِ الذِينَ فَرِحُوا بِمَقدِمِ إِخوَانِهِم المُهَاجِرِينَ، فَقَاسمُوهُم الضَّيعَاتِ وَالدُّورَ، وَآثَرُوهُم بِالأَموَالِ وَالدُّثُورِ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا في امتِدَاحِ اللهِ لهم حَيثُ قَالَ: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبلِهِم يُحِبُّونَ مَن هَاجَرَ إِلَيهِم وَلا يَجِدُونَ في صُدُورِهِم حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِم وَلَو كَانَ بِهِم خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ) [الحشر:9]؟!
كَيفَ يَتَّصِفُ المسلمونَ الذِينَ أَكرَمَهُمُ اللهُ بِالإِسلامِ وَامتنَّ عَلَيهِمِ بِالإِيمانِ وَجَعَلَهُم إِخوَةً مُتَحَابِّينَ وَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِهِم؟! كَيفَ يَتَّصِفُونَ بِأَخلاقِ الكَفَرَةِ وَالطُّغَاةِ في عَالمِ اليَومِ الذي تَقومُ فِيهِ حُرُوبٌ عَلى المَصَالحِ الدُّنيَوِيَّةِ ثم لا تَقعُدُ، وَيُقتَلُ فِيهِ الأَبرِيَاءُ وَالنِّسَاءُ وَالضُّعَفَاءُ مِن أَجلِ الاستِئثَارِ بِالثَّرَوَاتِ وَنَهبِ الخَيرَاتِ وَحَسَدًا لِلنَّاسِ على ما آتَاهُم اللهُ مِن فَضلِهِ؟! أَقُولُ: كَيفَ يَتَّصِفُ المُسلِمُونَ بِأَخلاقِ مَن لا يَرجُونَ جَنَّةً وِلا يخافُونَ نَارًا؟! كَيفَ يَسمَحُونَ لِلحَسَدِ أَن يملأَ قُلُوبَهُم وَيُضَيِّقَ صُدُورَهُم؟!
أَيَظُنُّونَ أَنهم على مَنعِ رِزقِ اللهِ لِغَيرِهِم قَادِرُونَ، أَم مِن ضِيقِ الأَرزَاقِ لِكَثرَةِ مَن يُشَارِكُهُم هُم يخافُونَ؟! أَم هَل يَظُنُّونَ أَنَّ حِرصَهُم سَيَزِيدُهُم عَمَّا قَدَّرَ اللهُ لهم وَهُم في بُطُونِ أُمَّهَاتِهِم؟! أَمَا عَلِمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ، وَأَنَّ خَزَائِنَهُ مَلأى لا تَنقُصُ وَلا تَغِيضُ؟! أَفي شَكٍّ هُم مِن أَنَّ الرِّزقَ مُقَدَّرٌ محدُودٌ؟! أَيخَافُونَ أَن يمُوتُوا وَمَا استَكمَلُوا ما لهم مِنهُ؟! يَقُولُ -سُبحَانَهُ- في الحدِيثِ القُدسِيِّ: "يَا عِبَادِي، لَو أَنَّ أَوَّلَكُم وَآخِرَكُم وَإِنسَكُم وَجِنَّكُم قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُوني فَأَعطَيتُ كُلَّ إِنسَانٍ مَسأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ ممَّا عِندِي إِلاَّ كَمَا يَنقُصُ المِخيَطُ إِذَا أُدخِلَ البَحرَ".
وقال -عليه الصلاةُ والسلامُ-: "إِنَّ يمينَ اللهِ مَلأَى لا يَغِيضُها نَفَقَةٌ، سَحَّاءَ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيتُم مَا أَنفَقَ مُنذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ؟! فَإِنَّهُ لم يَنقُصْ مَا في يمينِهِ"، وقال -عليه الصلاةُ والسلامُ-: "إِنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ في رُوعِي أَنَّ نَفسًا لَن تموتَ حتى تَستَكمِلَ أَجَلَهَا وَتَستَوعِبَ رِزقَهَا، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجمِلُوا في الطَّلَبِ، وَلا يحمِلَنَّ أَحَدَكُمُ استِبطَاءُ الرِّزقِ أَنْ يَطلُبَهُ بِمَعصِيَةِ اللهِ، فَإِنَّ اللهَ تعالى لا يُنَالُ مَا عِندَهُ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ"، وقال -عليه السلامُ-: "إِنَّ الرِّزقَ لَيَطلُبُ العَبدَ كَمَا يَطلُبُهُ أَجلُهُ"، وعن ابنِ عُمَرَ رضي اللهُ عنهُما أَنَّ النبيَّ رَأَى تمرَةً عَائِرَةً فَأَخَذَهَا فَنَاوَلَهَا سَائِلاً، فَقَال: "أَمَا إِنَّكَ لَو لم تَأتِهَا لأَتَتْكَ".
نَعَمْ -أَيُّها الإِخوَةُ- رِزقُ اللهِ وَاسِعٌ، وَعَطَاؤُهُ غَيرُ محدُودٍ، وَلَن تموتَ نَفسٌ حتى تَستَكمِلَ رِزقَهَا وَأَجَلَهَا، فَعَلامَ التَّسَخُّطُ؟! وَإِلى متى التَّحَاسُدُ وَالتَّبَاغُضُ؟! أَمَا آنَ لِلقُلُوبِ أَن تَرضَى بِمَا قَسَمَ لها عِلاَّمُ الغُيُوبِ؟! أَمَا آنَ لِلنُّفُوسِ أَن تَقنَعَ بما آتَاهَا الكَرِيمُ المَنَّانُ؟! أَمَا آنَ لِلصُّدُورِ أَن تمتَلِئَ يَقِينًا وَتَوَكُّلاً عَلَى اللهِ؟! أَلا يحسُنُ بِكُلِّ امرِئٍ أَن يَسعَى في طَلَبِ رِزقِهِ وَتَدبِيرِ شُؤُونِ مَعِيشَتِهِ بَعِيدًا عَنِ الاشتِغَالِ بِالتَّضيِيقِ عَلَى الآخَرِينَ وَتَنغِيصِ مَعَايِشِهِم؟!
إِنَّ الحَيَاةَ لأَغلَى مِن أَنْ تُضَاعَ في شَكوَى الآخَرِينَ وَالتَّضيِيقِ عَلَيهِم، وَإِنَّ الدّنيا لأَقَلُّ مَكَانَةً وَأَحقَرُ شَأنًا مِن أَنْ يجعَلَهَا مُؤمِنٌ لَهُ هَدَفًا وَيَتَّخِذَهَا غَرَضًا، فَلا يُقِيمُهُ وَيُغضِبُهُ إِلاَّ بُعدُها وَانفِلاتُها مِن يَدِهِ، وَلا يُقعِدُهُ وَيُرضِيهِ إِلاَّ قُربُها مِنهُ وَإِمسَاكُهُ بِزِمَامِهَا.
إِنَّهُ لا أَفسَدَ لِدِينِ المَرءِ وَتَقوَاهُ وَلا أَشَدَّ تَنغِيصًا لِحَيَاتِهِ وَتَكدِيرًا لِعَيشِهِ مِن حِرصِهِ عَلَى الدُّنيا وَجَشَعِهِ في طَلَبِ المَالِ وَعَدَمِ رِضَاهُ بِمَا في يَدِهِ وَاشتِغَالِهِ بِالنَّظَرِ إلى مَا عِندَ الآخَرِينَ، قال: "مَا ذِئبَانِ جَائِعَانِ أُرسِلا في غَنَمٍ بِأَفسَدَ لها مِن حِرصِ المَرءِ عَلَى المَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ"، وقال -عليه الصلاةُ والسلامُ-: "صَلاحُ أَوَّلِ هَذِهِ الأُمَّةِ بِالزُّهدِ وَاليَقِينِ، وَيَهلَكُ آخِرُها بِالبُخلِ وَالأَمَلِ".
فُزْ بِرَاحَاتِ قَلبِكَ الغِرِّ يَا مَن *** زَادَ مِن قُوتِ مَا يَرُومُ انزِعَاجُهْ
وَاطرَحِ الهَمَّ عَن فُؤَادِكَ وَاربَحْ *** صَفوَ عَيشٍ إِنْ طِبتَ طَابَ نِتَاجُهْ
لا تَقُلْ قَلَّ دُونَ غَيرِيَ رِزقِي *** كُلُّ رِزقٍ مُقَدَّرٌ إِخرَاجُهْ
قِسمَةُ اللهِ لا زِيَادَةَ فِيهَا *** لا وَلا نَقصَ عَذبُهُ وَأُجَاجُهْ
وَالفَتى غَيرُ رِزقِهِ لم يَنلْهُ *** وَلَوِ احتَالَ وَاستَطَالَ لِجَاجُهْ
كَمْ شُجَاعٍ أَرَادَ رِزقَ سِوَاهُ *** يَحتَوِيهِ فَقُطِّعَتْ أَودَاجُهْ
وَلَكَمْ ضَمَّ رِزقَ غَسَّانَ حِصنٌ *** فَغَزَوهُ وَهُدِّمَتْ أَبرَاجُهْ
صَاحِ لَو كَانَ فِيكَ رِزقُكَ مَا لَمْ *** يَفتَحِ اللهُ عَاقَكَ استِخرَاجُهْ
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلكِ تُؤتي المُلكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ المُلكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الخَيرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيلَ في النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ في اللَّيلِ وَتُخرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَتُخرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَتَرزُقُ مَن تَشَاء بِغَيرِ حِسَابٍ) [آل عمران: 26- 27].
الخطبة الثانية
أَمَّا بَعدُ: فاتقوا اللهَ تعالى وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوا أَمرَهُ وَنهيَهُ ولا تَعصُوهُ، (وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا * وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ * وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيءٍ قَدْرًا) [الطلاق:3-5].
ثم اعلَمُوا أَنَّهُ يجِبُ على المَرءِ أَن يَرضَى بِمَا قَسَمَهُ اللهُ لَهُ وَيَقنَعَ بِمَا أُوتيَ، وَأَن يَتَمَنَّى لإِخوَانِهِ وَيُحِبَّ لهم مِنَ الخَيرِ مَا يُحِبُّهُ لِنَفسِهِ، لا أَن يَكُونَ حَاسِدًا ضَائِقَ الصَّدرِ بِرِزقٍ لَيسَ في يَدِهِ زِيَادَتُهُ وَلا النَّقصُ مِنهُ، قال: "وَالذِي نَفسِي بِيَدِهِ، لا يُؤمِنُ عَبدٌ حتى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفسِهِ مِنَ الخَيرِ".
لَقَد أَرَادَ اللهُ بِحِكمَتِهِ وَعَدلِهِ أَن يجعَلَ أَرزَاقَ الناسِ مُتَفَاوِتَةً وَعَطَايَاهُ لهم مختَلِفَةً، فَيُوَسِّعَ على بَعضِهِم وَيُضَيِّقَ على آخَرِينَ، وَقَدَرُهُ في ذَلِكَ جَارٍ وَأَمرُهُ نَافِذٌ، وَلا أَحَدَ يَستَطِيعُ بِحِيلَةٍ أَو قُوَّةٍ أَن يُغَيِّرَ ممَّا قَضَى اللهُ شَيئًا، قال -سُبحانَهُ-: (وَاللهُ فَضَّلَ بَعضَكُم عَلى بَعضٍ في الرِّزقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزقِهِم عَلَى مَا مَلَكَت أَيمَانُهُم فَهُم فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعمَةِ اللهِ يَجحَدُونَ) [النحل:71]، وقال -تعالى-: (أَوَلم يَرَوا أَنَّ اللهَ يَبسُطُ الرِّزقَ لمن يَشَاءُ وَيَقدِرُ إِنَّ في ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَومٍ يُؤمِنُونَ) [الروم:37]، وقال -جل وعلا-: (مَا يَفتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَحمَةٍ فَلا مُمسِكَ لَهَا وَمَا يُمسِكْ فَلا مُرسِلَ لَهُ مِن بَعدِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) [فاطر:2].
أَمَّا الحَسَدُ فَهُوَ فَضلاً عَن كَونِهِ وُقُوعًا فِيمَا نُهِيَ عَنهُ، فَهُوَ مُفسِدٌ لِحَيَاةِ صَاحِبِهِ، مُقلِقٌ لِرَاحَتِهِ، مُذهِبٌ لِنَعِيمِ قَلبِهِ وصَفَائِهِ، مُزِيلٌ لِسَلامَةِ صَدرِهِ وَنَقَائِهِ، وَلَو لم يَكُنْ إِلاَّ هَذَا لَكَفَى بِهِ زَاجِرًا عَنهُ وَرَادِعًا، كَيفَ وَهُوَ وُقُوعٌ فِيما نَهَى عَنهُ حَيثُ قَالَ -عليه الصلاة والسلام-: "لا تَقَاطَعُوا، وَلا تَدَابَرُوا، وَلا تَبَاغَضُوا، وَلا تَحَاسَدُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخوَانًا"؟!
إِنَّ الكَبَائِرَ لِلطَّاعَاتِ مُفسِدَةٌ *** وَإِنَّ أَفسَدَهَا لِلطَّاعَةِ الْحَسَدُ
لا تُضْمِرَنَّ عَلَى ذِي نِعمَةٍ حَسَدًا *** إِنَّ الْحَسُودَ مِنَ الرَّحْمَنِ مُبتَعِدُ
وَاقْنَعْ بِرِزقِكَ فَالأَرزَاقُ قَد قُسِمَتْ *** سِيَّانِ في الرِّزقِ بَطَّالٌ وَمُقتَصِدُ
فَإِنْ حَسَدْتَّ امرَأً فِيمَا يُخَصُّ لَهُ *** فَاذهَبْ فَمَا لَكَ إِلاَّ الإِثمُ وَالكَمَدُ
لَقَد جَعَلَ الحَسَدُ وَحُبُّ الأَثَرَةِ بَعضَ النَّاسِ بَغِيضًا مُبَغَّضًا، غَيرَ مَألُوفٍ وَلا محبُوبٍ، ممَّا حَرَمَهُ كَمَالَ الإِيمَانِ وَلَذَّتَهُ، قَالَ -عليه الصلاة والسلام-: "أَكمَلُ المُؤمِنِينَ إِيمَانًا أَحَاسِنُهُم أَخلاقًا المُوَطَّؤُونَ أَكنَافًا الذِينَ يَألَفُونَ وَيُؤلَفُونَ، وَلا خَيرَ فِيمَن لا يَألَفُ وَلا يُؤلَفُ".
فَاتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا -عِبَادَ اللهِ- إِخوَانًا، وَأَحِبُّوا لإِخوَانِكُم مَا تُحِبُّونَ لأَنفُسِكُم، وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذكُرُوا نِعمَتَ اللهِ عَلَيكُم إِذْ كُنتُم أَعدَاءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِ إِخوَانًا.
إِنَّنَا نَشتَكِي قِلَّةَ الأَمطَارِ وَتَأَخُّرَ الغَيثِ وَغَورَ الآبارِ، وَمِنَّا مَن لا يَجِدُ في رَاتِبِهِ بَرَكَةً وَلا سَدَادًا، وَآخَرُونَ يَشتَكُونَ الهَمَّ وَالغَمَّ وَالأَمرَاضَ النَّفسِيَّةَ وَالحَزَنَ، فَإِذَا مَا تَأَمَّلنَا في وَاقِعِنَا فَإِذَا التَّنَافُسُ عَلَى الدُّنيا وَالتَّحَاسُدُ على حُطَامِها أَشَدُّ مَا يَكُونُ بَينَنَا.
وَهَذَا مَا خَشِيَهُ عَلَينَا النَّاصِحُ الحَبِيبُ صَلَواتُ رَبي وَسَلامُهُ عَلَيهِ، فَإِنَّهُ لمَّا جَاءَهُ أَبُو عُبَيدَةَ بِمَالٍ مِنَ البَحرَينِ وَصَلَّى مَعَهُ أُنَاسٌ مِنَ الأَنصَارِ صَلاةَ الفَجَرِ وَتَعَرَّضُوا لَهُ تَبَسَّمَ حِينَ رَآهُم ثم قَالَ: "أَظُنُّكُم سَمِعْتُمَ أَنَّ أَبَا عُبَيدَةَ قَدِمَ بِشَيءٍ؟"، قَالُوا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: "فَأَبشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُم، فَوَاللهِ مَا الفَقرَ أَخشَى عَلَيكُم، وَلكني أَخشَى أَن تُبسَطَ عَلَيكُمُ الدُّنيا كَمَا بُسِطَت عَلَى مَن كَانَ قَبلَكُم، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهلِكَكُم كَمَا أَهلَكَتهُم".
وَصَدَقَ -عليه الصلاةُ والسلامُ-؛ فَإِنَّهُ لمَّا كَانَتِ الأَرزَاقُ في أَيدِي النَّاسِ قَلِيلَةً وَالأَحوَالُ مَيسُورَةً كَانُوا كَالإِخوَةِ وَإِنْ تَبَاعَدَت أَرحَامُهُم، فَلَمَّا وَسَّعَ اللهُ عَلَيهِم وَأَغنَاهُم تَنَافَسُوا وَتَحَاسَدُوا وَاستَنكَرَ بَعضُهُم بعضًا، وَصَدَقَ اللهُ إِذ يَقُولُ: (كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطغَى * أَن رَّآهُ استَغنَى) [العلق:7- 8].
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ، وَعُودُوا إِلى حِمَاهُ، وَاقنَعُوا وَعَلى اللهِ فَتَوَكَّلُوا، وَغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِكُم، وَطَهِّرُوهَا مِن الشُّحِّ وَالأَثَرَةِ وَحُبِّ الذَّاتِ، (إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم) [الرعد:11].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي