يوم عرفة .. فضائل وأحكام

سعود بن ابراهيم الشريم

عناصر الخطبة

  1. فضل يوم عرفة
  2. أهمية التأمل في حجة الوداع ما فيها من العبر
  3. المشهد المهيب للحجاج في يوم عرفة
  4. ما يشرع للحاج في يوم عرفة والعيد

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونتوبُ إليه، ونعوذُ بالله من شُرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)﴾[الأحزاب:70-71].

أما بعد: فأُوصِيكم -أيها الناس- ونفسِي بتقوى الله -سبحانه-، وخشيتِه في الغيب والشهادة، والغضب والرِّضا؛ فبتقوى الله تنجلِي الهُموم، وتُفرَجُ الكُروبُ، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾[الطلاق:4].

أيها المسلمون: إن من حكمة الله ورحمته بعباده: أن جعلَ لهم مواسِمَ يتزوَّدون فيها من التقوى والإنابة، والقُرب منه -سبحانه-؛ فما تخرجُ الأمةُ من موسِم عبادةٍ إلا وهي تستقبلُ موسِمًا آخر؛ لتترادَفَ صِلتُهم بالله، ينالُون من نفَحَاتها، ويغنَمون من بركاتها، ويجعلُونَها سُلَّمًا إلى رحمةِ الله ورِضوانِه.

ولقد ملأَ ربُّنا -جلَّ شأنُه- العشرَ من ذي الحجَّة بفضائل من الطاعات والبركات، يشتركُ فيها الكبيرُ والصغيرُ، والضعيفُ والقويُّ، والذكرُ والأُنثى: صومٌ .. وذكرٌ .. وتكبيرٌ .. وصدقةٌ .. وحجٌّ إلى بيته الحرام. خصَّ فيها جمعَ عرفة حين يُباهِي بهم ملائكتَه، فيُشهِدُهم أنه قد غفرَ لهم.

ومن كرمِه وإحسانِه: أنه لم يقصُر المنفعةَ في هذا اليوم على الحاجِّ فحسب؛ بل وسِعَت كلَّ من لم يُكتَب له قصدُ بيت الله الحرام أن يصوم يوم عرفة مُحتسِبًا ذلك عند الله؛ فإن فيه كفَّارةَ عامَين: عامًا مضَى وعامًا يُستقبَل. فقد قال -صلوات الله وسلامُه عليه-: “صيامُ يوم عرفة أحتسِبُ على الله أن يُكفِّر السنةَ التي قبلَه والسنةَ التي بعدَه“(رواه مسلم).

ومن كان يوم عرفة هو اليوم الثامن في بلدِه لاختِلاف مطالِعِ الأهلَّة فإنه يصومُ هذا اليوم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أطلقَ فقال: “يوم عرفة”، ولم يخصَّه بالتاسع، على الصحيح من قولَي أهل العلم.

أيها المسلمون: إن شيئًا قليلاً من التأمُّل في حجَّة النبي -صلى الله عليه وسلم- يجعلُ كلَّ ذي لُبٍّ وبصيرةٍ يُدرِكُ البركةَ الكُبرى في شعيرة حجِّ بيت الله الحرام، ويلمسُ حسًّا ومعنًى ما في حجَّة الوداع التي حجَّها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- من عِبَر وعِظاتٍ، وفقهٍ، وحِكَمٍ في السياسة الشرعية، والاقتِصاد، والاجتماع، والأُسرة.

وقبل ذلك كلِّه عقيدةُ التوحيد التي لا يصحُّ الإيمانُ إلا بها؛ فإن الله -جلَّ شأنُه- لم يأمُر الخليلَ ببناء البيت إلا لإقامة التوحيد، ولم يشرَع الحجَّ إليه إلا لإقامة التوحيد، ﴿حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾[الحج:31].

أيها المسلمون: انظرُوا إلى المشهَد الرَّهيب، والجمع الجليل على صَعيد عرفات، يجأرون فيه بلُغاتٍ مُختلفة إلى ربٍّ واحدٍ .. مُختلفةً ألوانُهم ولُغاتُهم ولباسُهم واحد، ونُسُكُهم واحد، لا فضلَ لأحدٍ على أحدٍ في وقوفٍ أو رميٍ أو مَبيتٍ أو طوافٍ أو سعيٍ؛ إذ لا وساطةَ في القُرب إلى الله، ولا مُحاباةَ لأحدٍ فيما شرعَه الله، كلُّهم يُلبِّي تلبيةً واحدةً: لبيكَ اللهم لبيك، لبيكَ لا شريكَ لك لبيكَ، إن الحمدَ والنعمةَ لك والمُلك، لا شريكَ لك.

﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾[البقرة:197].

باركَ الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفِروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِه وامتِنانه.

وبعد: فاتقوا الله -عباد الله-، ثم اعلموا -حُجَّاج بيت الله- أنه يُشرعُ للحاجِّ أن يتفرَّغ للدعاء عشيَّة عرفة، يسألُ الله فيه من خيرَي الدنيا والآخرة، ولا يدعُو فيها بإثمٍ أو قطيعةِ رحِم.

فإذا غربَت الشمسُ من يوم عرفة دفعَ الحاجُّ منها إلى المُزدلِفة بسكينةٍ ووقار، خاشعًا مُتذللاً لله -سبحانه-، فإذا وصلَ المُزدلِفة صلَّى بها المغربَ والعشاءَ بأذانٍ وإقامتَين، وجلسَ بها، فإذا صلَّى الفجرَ دعا الله -جل وعلا- حتى يُسفِر، ثم يتوجَّهُ إلى مِنى وهو يُلبِّي، حتى يرمِي جمرةَ العقبة.

فإذا رماها بسبعِ حصَيَاتٍ يُكبِّرُ مع كل حصاة، حصل له التحلُّل الأول، فإذا فرغَ من الرميِ نحرَ هديَه -إن كان عليه الهديُ-، ثم يحلِقُ رأسَه أو يُقصِّرُه -والحلقُ أفضل-؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا بالرحمةِ للمُحلِّقين ثلاثًا، وللمُقصِّرين مرةً واحدةً.

هذا ما ينبغي للحاجِّ فعلُه هذا اليوم وصباح يوم العيد. تقبَّل الله من الحُجَّاج حجَّهم، ومن الصائمِين صومَهم.

الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

هذا، وصلُّوا -رحمكم الله- على خير البريَّة، وأزكى البشريَّة: محمد بن عبد الله صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمرَكم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسِه، وثنَّى بملائكَته المُسبِّحةِ بقُدسِه، وأيَّه بكم -أيها المُؤمنون-، فقال -جل وعلا-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾[الأحزاب:56].

اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، صاحبِ الوجه الأنور، والجَبين الأزهر، وارضَ اللهم عن خلفائِه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وكرمِك وإحسانِك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسُنَّةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.

اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكرُوبِين، واقضِ الدَّيْنَ عن المَدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين، وسلِّم الحُجَّاج والمُسافِرين برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم تقبَّل من الحُجَّاج حجَّهم، اللهم تقبَّل من الحُجَّاج حجَّهم.

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، واجعل ولايتَنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.

اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلِح له بِطانتَه يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم اجعل مواسِم الخيرات لنا مربحًا ومغنَمًا، وأوقات البركات والنفَحات لنا إلى رحمتك طريقًا وسُلَّمًا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾[البقرة:201].

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ * وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ)[الصافات:180-182].


تم تحميل المحتوى من موقع