تمام العبودية لله -تعالى- بكمال السمع والطاعة مع كمال المحبة والرضا

عناصر الخطبة

  1. مفهوم العبادة
  2. حقيقة عبودية الإنسان لله
  3. المعاملات بين الإباحة والتحريم وبعض صور ذلك
  4. خطر أكل الحرام
اقتباس

العبد عبدٌ لله -تعالى- حقيقة، إذا سمع لربه وأطاع، مع محبة ورضا، فهو يفعل ما في استطاعته وقدرته من الواجبات والمستحبات، ويجتنب المحرمات والمكروهات، فإذا قال الله لعبده كلْ أكل، وإن قال له: لا تأكل لا يأكل، فهو حريص على…

الخطبة الأولى:

إنَّ الحمدَ لله، نحمَدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له.

وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمَّداً عبدُه ورسولُه.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء: 1].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً(71)﴾ [الأحزاب: 70 – 71].

أما بعد:

فإن خيرَ الكلامِ كلامُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمَّدٍ -صلى الله عليه وآله وسلم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار.

العبادة، هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة.

فالعبد عبدٌ لله -تعالى- حقيقة إذا سمع لربه وأطاع، مع محبة ورضا، فهو يفعل ما في استطاعته وقدرته من الواجبات والمستحبات، ويجتنب المحرمات والمكروهات، فإذا قال الله لعبده كلْ أكل، وإن قال له لا تأكل لا يأكل، فهو حريص على طاعة ربه وطاعة رسوله برضا ومحبة، حريص على ألاّ تبطل له عبادة، وألاّ تفسد له طاعة، فالأكلُ والشربُ والجماع من سنن العادات، يشترك فيها المسلمُ وغير المسلم، حتى الحيوان يأكلُ ويشربُ وينزو ويسفِد، بينما العبد المؤمن يفعل ذلك ناويا وقاصدا وجه الله، فإذا منعه امتنع، وإن أذن له فعل، فهو لا يأكل ولا يشرب في أثناء صلاته وصيامه، حتى لا يبطلَهما.

وامتثل أمر الله -سبحانه- في قوله: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 188].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 29].

فبالتجارة تحلُّ الأموال، ويحلُّ تدولها، وكذا بما أباحه الإسلام من هبة أو عطية، أو ما كان عن عفو أو مسامحة أو هدية، فمن عبد الله حقَّ العبادة لم يأكل أموالَ المسلمين بالرشوة أو السرقة، أو الغشِّ أو الخداع، ويساعد المحتاجين فلا يستغلّهم بالربا لقوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا﴾ [آل عمران: 130].

فالربا أخطاره عظيمة، وعواقبة جسيمة، أعلن الله الحرب على آكليه، وغضب على متعاطيه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ(279)﴾ [البقرة: 278 – 279].

والربا حرامٌ كثيره وقليله، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ غَسِيلِ الْمَلَائِكَةِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "دِرْهَمُ رِبًا يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ وَهُوَ يَعْلَمُ؛ أَشَدُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ زِنْيَةً" [رَوَاهُ أَحْمَدُ والدراقطني].

وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَزَادَ: وَقَالَ: "مَنْ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنَ السُّحت فَالنَّار أولى بِهِ" [مشكاة المصابيح: 2825، والصحيحة: 1033].

وعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الرِّبَا اثْنَانِ وَسَبْعُونَ بَابًا، أَدْنَاهَا مِثْلُ إِتْيَانِ الرَّجُلِ أُمَّهُ، وَأَرْبَى الرِّبَا اسْتِطَالَةُ الرَّجُلِ فِي عِرْضِ أَخِيهِ" [المعجم الأوسط: 7/ 158، ح: 7151، الصحيحة: 1871].

والعبد لله حقيقةً يعامل اليتيم معاملة حسنة، ولا يخلط ماله بماله طاعة لله القائل: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ [النساء: 2].

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الأنعام: 152].

وَ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ [النساء: 10].

انْطَلَقَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ يَتِيمٌ فَعَزَلَ طَعَامَهُ مِنْ طَعَامِهِ، وَشَرَابَهُ مِنْ شَرَابِهِ، فَجَعَلَ يَفْضُلُ مِنْ طَعَامِهِ، فَيُحْبَسُ لَهُ حَتَّى يَأْكُلَهُ أَوْ يَفْسُدَ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَنْزَلَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: 220].

فَخَلَطُوا طَعَامَهُمْ بِطَعَامِهِ وَشَرَابَهُمْ بِشَرَابِهِ" [سنن أبي داود: 2871].

وأموال الزوجات من مهر وغيره، فعلى الأزواج اجتنابه، وعدم قربانه إلا بالتراضي، قال سبحانه: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ [النساء: 4].

فلم يقرب العبد المؤمن حقًّا مال زوجته إلا بطيب نفس منها، وعن كامل رضاها.

أما الذبائح، فلا يقرب ما نهى الله -تعالى- عنه في قوله سبحانه: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 121].

وفي قوله: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 173].

فلا يأكل مما حرم الله عليه إلا عند الاضطرار، لا عند الاختيار.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَعَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ" [مسلم: 1934].

أما الشرب والشراب، فقد قال الله -تعالى-: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31].

فالمؤمن يجتنب الإسراف في شأنه كلِّه، فالمسرفون لا يحبهم الرحمن الرحيم.

وحرم الشرع الشريف شربَ المسكراتِ والمخدراتِ والمفتِّرات، فاجتنبَها عبدُ الله حقيقة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "الْخَمْرُ أُمُّ الْفَوَاحِشِ، وَأَكْبَرُ الْكَبَائِرِ، مَنْ شَرِبَهَا وَقَعَ عَلَى أُمِّهِ وَخَالَتِهِ وَعَمَّتِهِ" [المعجم الأوسط: 3/ 276، ح: 3134، الصحيحة: 1853].

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الْخَمْرُ أُمُّ الْخَبَائِثِ، فَمَنْ شَرِبَهَا لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ صَلَاتُهُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَإِنْ مَاتَ وَهِيَ فِي بَطْنِهِ مَاتَ مَيْتَةً جَاهِلِيَّةً" [المعجم الأوسط: 4/ 81، ح: 3667، الصحيحة: 1854].

وثبت عن ابْن عُمَرَ، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ، وَشَارِبَهَا، وَسَاقِيَهَا، وَبَائِعَهَا، وَمُبْتَاعَهَا، وَعَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ" [سنن أبي داود: 3674].

وأما الجماع، وإن كان أمرا فطريًّا في الإنسان والحيوان، لكنَّ عبدَ اللهِ المؤمنَ حقًّا لا يفرِّغُ شهوته هذه بالزنا الذي حرمه الله -تعالى- لقوله: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: 32].

وقال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا﴾ [الفرقان: 68].

عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا! فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ، وَقَالُوا: مَهْ، مَهْ، فَقَالَ: "ادْنُهْ" فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا، قَالَ: فَجَلَسَ قَالَ: "أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟" قَالَ: لَا وَاللهِ! جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ" قَالَ: "أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟" قَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ! جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ" قَالَ: "أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟" قَالَ: لَا وَاللهِ! جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ" قَالَ: "أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟" قَالَ: لَا وَاللهِ! جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ" قَالَ: "أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟" قَالَ: لَا وَاللهِ! جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ" قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: "اللهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ" قَالَ: فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ" [مسند أحمد، ط الرسالة: 36/ 545، ح: 22211، الصحيحة: 370].

فالجماع حتى مع زوجته الحلال؛ فإنه يجتنبها طاعة لله -تعالى- في أوقات عيَّنها له الشرع، قال سبحانه: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: 222].

فيمتنع أسبوعا أو نحوه، وقد يمتدُّ اجتنابُها أكثرَ من شهر حالَ نفاسها.

ويجتنبها حال صلاتها، وحالَ إحرامِه للحج أو العمرة أو إحرامِها، وفي النهار حالَ صيامها، قال سبحانه: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 187].

وقد يجتنبها لشهرين طاعة لله -سبحانه- إذا وقع عليها في نهار رمضان، فقد "جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ؟ قَالَ: "مَا لَكَ؟" قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟" قَالَ: لاَ، قَالَ: "فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ" قَالَ: لاَ، فَقَالَ: "فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا" قَالَ: لاَ، قَالَ: فَمَكَثَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِيَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ -وَالعَرَقُ المِكْتَلُ – قَالَ: "أَيْنَ السَّائِلُ؟" فَقَالَ: أَنَا، قَالَ: "خُذْهَا، فَتَصَدَّقْ بِهِ" فَقَالَ الرَّجُلُ: أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا -يُرِيدُ الحَرَّتَيْنِ- أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَضَحِكَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: "أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ" [البخاري: 1936، ومسلم: 1111].

ومن ظاهر من امرأته، ولم يجد رقبة يعتقها، يجتنبها شهرين كذلك، لقوله: ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ(4)﴾ [المجادلة: 3 – 4].

عَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ قَالَ: كُنْتُ امْرَأً أُصِيبُ مِنَ النِّسَاءِ مَا لَا يُصِيبُ غَيْرِي، فَلَمَّا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ خِفْتُ أَنْ أُصِيبَ مِنَ امْرَأَتِي شَيْئًا يُتَابَعُ بِي حَتَّى أُصْبِحَ، فَظَاهَرْتُ مِنْهَا حَتَّى يَنْسَلِخَ شَهْرُ رَمَضَانَ، فَبَيْنَا هِيَ تَخْدُمُنِي ذَاتَ لَيْلَةٍ، إِذْ تَكَشَّفَ لِي مِنْهَا شَيْءٌ، فَلَمْ أَلْبَثْ أَنْ نَزَوْتُ عَلَيْهَا، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ خَرَجْتُ إِلَى قَوْمِي فَأَخْبَرْتُهُمُ الْخَبَرَ، وَقُلْتُ: امْشُوا مَعِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالُوا: لَا وَاللَّهِ!، فَانْطَلَقْتُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: "أَنْتَ بِذَاكَ يَا سَلَمَةُ؟"، قُلْتُ: أَنَا بِذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ وَأَنَا صَابِرٌ لِأَمْرِ اللَّهِ، فَاحْكُمْ فِيَّ مَا أَرَاكَ اللَّهُ، قَالَ: "حَرِّرْ رَقَبَةً" قُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَمْلِكُ رَقَبَةً غَيْرَهَا، وَضَرَبْتُ صَفْحَةَ رَقَبَتِي، قَالَ: "فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ" قَالَ: وَهَلْ أَصَبْتُ الَّذِي أَصَبْتُ إِلَّا مِنَ الصِّيَامِ، قَالَ: "فَأَطْعِمْ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ بَيْنَ سِتِّينَ مِسْكِينًا" قُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَقَدْ بِتْنَا وَحْشَيْنِ مَا لَنَا طَعَامٌ، قَالَ: "فَانْطَلِقْ إِلَى صَاحِبِ صَدَقَةِ بَنِي زُرَيْقٍ فَلْيَدْفَعْهَا إِلَيْكَ، فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ وَكُلْ أَنْتَ وَعِيَالُكَ بَقِيَّتَهَا" فَرَجَعْتُ إِلَى قَوْمِي، فَقُلْتُ: وَجَدْتُ عِنْدَكُمُ الضِّيقَ، وَسُوءَ الرَّأْيِ، وَوَجَدْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- السَّعَةَ، وَحُسْنَ الرَّأْيِ، وَقَدْ أَمَرَنِي أَوْ أَمَرَ لِي بِصَدَقَتِكُمْ، زَادَ ابْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ: بَيَاضَةُ بَطْنٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ" [سنن أبي داود: 2213].

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين.

وبعد:

إن الأكلَ الحلالَ والشربَ الحلالَ يفسد الصلاةَ والصيامَ، والجماعَ الحلالَ يفسد الصلاةَ والصيام، والعمرةَ، والحج، فكيف بأكلِ الحرام، وشربِ الحرام، وجماعٍ حرام؟

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا، إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [المؤمنون: 51].

وَقَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [البقرة: 172].

ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ! يَا رَبِّ! وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟"[مسلم: 1015].

فلا تأكلوا إلا حلالا طيبا، ولا تشربوا إلا حلالا طيبا ولا تلبسوا إلا حلالا طيبا حتى يستجاب لكم.

ألا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [الأحزاب: 56].

وقال صلى الله عليه وسلم: "من صلى عليَّ صلاة، صلى الله عليه بها عشراً".

اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا ورسولنا محمدِ بن عبد الله، وآله صحبه ومن والاه.

اللهم ارض عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وارض عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين!.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واحمِ حوزة الدين يا رب العالمين!.

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، ووفقهم لهداك، واجعل عملهم في رضاك يا رب العالمين، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة، التي تأمرهم بالخير وتحضهم عليه، واصرف عنهم بطانة السوء التي تأمرهم بالشر وحضهم عليه، يا أكرم الأكرمين!.

اللهم وفق المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلى ما تحبه وترضاه، اللهم مُنَّ عليهم بصلاح أحوالهم، وصلاح قادتهم وعلمائهم، وشبابهم ونسائهم يا رب العالمين!.

اللهم أبرم لهذه الأمة أمرَ رشد يُعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء!.

اللَّهُمَّ طَهِّرْ قُلوبنا مِنَ النِّفَاقِ، وَأعمَالنا مِنَ الرِّيَاءِ، وألسنتنا مِنَ الْكَذِبِ، وَأعيننا مِنَ الْخِيَانَةِ، فَإِنَّكَ تَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ.

﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [البقرة: 201].

﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ [العنكبوت: 45].

بطاقة المادة

المؤلف فؤاد بن يوسف أبو سعيد
القسم خطب الجمعة
النوع مقروء
اللغة العربية