يوم الحشر

عناصر الخطبة

  1. الاجتماع الكبير بعرفة يذكِّر المسلم بيوم الحشر
  2. بعض مشاهد يوم الحشر يوم الموقف العظيم
  3. فضل عشر ذي الحجة والحض على اغتنامها
اقتباس

وإن من عبر الحج العظيمة -عباد الله- ومواقفه المؤثرة غاية التأثير، ذلكم الجمع العظيم، والموقف المبارك الذي يشهده جميع الحجاج في اليوم التاسع من ذي الحجة، في يوم عرفة، على أرض عرفة، حيث يقفون جميعا ملبين ومبتهلين إلى الله، وداعينه -سبحانه- يرجون رحمته ويخافون عذابه، ويسألونه من فضله العظيم، في أعظم تجمّع إسلامي يُشهد. وهذا الاجتماع الكبير على أرض عرفة يذكِّر المسلم بالموقف الأكبر ..

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في سبيل الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فما ترك خيرا إلا دلَّ أمته عليه، ولا شراً إلا حذّرها منه، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:

أيّها المؤمنونَ عبادَ الله: اتقوا الله -جل وعلا-، واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله، اتقوا الله -جل وعلا- واعلموا أنّكم إليه تحشرون، اتقوا الله -عباد الله- فإن تقوى الله -جل وعلا- هي خير زاد يبلِّغ إلى رضوان الله.

عباد الله: إن عبر الحجّ، ونحن نستقبل هذه الأيام موسمه المبارك واجتماعه العظيم، إن عبر الحج وفوائده لا تعد ولا تحصى، فكم فيه من العظات البالغة، والدروس النافعة، والمواقف المؤثرة التي من الحَرِيِّ بكل مسلم أن يحسن الاستفادة منها، والانتفاع بها.

وإن من عبر الحج العظيمة -عباد الله- ومواقفه المؤثرة غاية التأثير، ذلكم الجمع العظيم، والموقف المبارك الذي يشهده جميع الحجاج في اليوم التاسع من ذي الحجة، في يوم عرفة، على أرض عرفة، حيث يقفون جميعا ملبين ومبتهلين إلى الله، وداعينه -سبحانه- يرجون رحمته ويخافون عذابه، ويسألونه من فضله العظيم، في أعظم تجمّع إسلامي يُشهد.

وهذا الاجتماع الكبير على أرض عرفة يذكِّر المسلم بالموقف الأكبر يوم القيامة الذي يلتقي فيه الأولون والآخرون، فينتظرون فصل القضاء والحكم بين الخلائق، ليصيروا إلى منازلهم، إما إلى نعيم مقيم، أو إلى عذاب أليم.

ففي ذلك اليوم -عباد الله- يجمع الله جميع العباد، كما قال الله -سبحانه-: (لَيَجْعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ) [النساء:87]، وقال -جل وعلا-: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾ [التغابن:9]، وقال تعالى: ﴿ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ﴾ [هود:103].

عباد الله: ويستوي في هذا الجمع الأولون والآخرون، فالكل مجموع إلى ذلك الميقات العظيم: (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) [الواقعة:49-50]، ولن يتخلف عن هذا الجمع أحد، من هلكوا في أجواء الفضاء، ومن ضلوا في أعماق الأرض، ومن أكلتهم الطيور والسباع، الكل سيجمع ولا مفرَّ، قال الله تعالى: ﴿وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدَاً﴾ [الكهف:47].

وقال -سبحانه وتعالى-: ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعَاً إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة:148]، وقال سبحانه: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدَاً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وعَدَّهُمْ عَدَّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدَاً) [مريم:93-95]، وسيُجمَعون على أرض غير هذه الأرض، قال الله تعالى: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَواتُ وبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) [إبراهيم:48].

وقد بين لنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- صفة هذه الأرض التي يُجمع عليها الناس، ففي صحيحي البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يُحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقيّ، ليس فيها علم لأحد"، أي: على أرض مستوية لا ارتفاع فيها ولا انخفاض، ولا جبالَ ولا صخور، وليس فيها علامةُ سكنى أو بناء.

عباد الله: ويحشرون على تلك الأرض حفاة لا نعال عليهم، عراة لا لباس عليهم، غُرْلَاً، أي: غير مختونين، ففي صحيحي البخاري ومسلم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنكم محشورون حفاة عراة غُرْلَاً، ثم قرأ: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدَاً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء:104].

وفي الصحيحين، عن عائشة -رضي الله عنها- أنها لما سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يُحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غُرلا"، قالت: قلت: يا رسول الله، الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: "يا عائشةُ، الأمر أشدُّ من أن ينظر بعضهم إلى بعض".

عباد الله: وفي ذلك اليوم تدنو الشمس من الخلائق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فلا ظل ذلك اليوم إلا ظل عرش الرحمن، فمن مستظل بظل العرش، ومن مُضْح بحرِّ الشمس قد صهرته واشتد فيها كربه، وعظمت مصيبته، وازداد قلقه.

وقد ازدحمت الأمم وتضايقت، ودفع بعضها بعضا، واختلفت الأقدام، وانقطعت الأعناق من العطش، قد اجتمع عليهم في موقفهم حر الشمس مع وهج أنفاسهم، وتزاحم أجسامهم، ففاض العرق منهم على وجه الأرض، ثم علا أقدامهم على قدر مراتبهم ومنازلهم عند ربهم من السعادة والشقاء، فمنهم من يبلغ العرق منكبيه وحقويه، ومنهم إلى شحمة أذنيه، ومنهم من قد ألجمه العرق إلجاما، نسأل الله العافية والسلامة.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعا، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم"رواه البخاري.

وعن المقداد ابن الأسود رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كقدر ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، و منهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما"، وأشار -صلى الله عليه وسلم- بيده إلى فيه.

عباد الله: ويكون وقوفهم في يوم مقداره خمسون ألف سنة، قال الله تعالى: ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [المعارج:4]، وفي صحيح مسلمٍ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من صاحبِ ذهبٍ ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار".

عباد الله: ويهوّن الله -جل وعلا- أمر الموقف على أهل الإيمان، نسأل الله الكريم من فضله، ففي المستدرك للحاكم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يوم القيامة على المؤمن كقدر ما بين الظهر والعصر".

ويُظلُّ الله -سبحانه وتعالى- أهل الإيمان في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ويقول -جل وعلا- في ذلك الموقف العظيم "أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي".

وفي ذلك اليوم يفزع الناس إلى الأنبياء، يطلبون الشفاعة من الله في أن يبدأ في القضاء والحكم بين العباد، فيعتذرون، إلا نبينا محمداً -صلى الله عليه وسلم- فإنه يقول: "أنا لها"؛ فيذهب -صلوات الله وسلامه عليه- فيخر ساجدا تحت عرش الرحمن، ويفتح الله عليه من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبله، ثم يقول الله له: "ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع".

وحينئذ -عباد الله- يجيء الرب -عز وجل- للفصل بين العباد، وهذا هو معنى قول الله تعالى: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفَّاً صَفّاً * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ * يَوْمَئِذٍ يَتَذكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) [الفجر:22-24].

ويُجاء بالنار -عباد الله-، يُجاء بها في ذلك اليوم تُجَرُّ إلى أرض المحشر، كما ثبت في صحيح مسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال :" يُؤتى بجهنم يومئذ ولها سبعون ألف زمام، ومع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها"، نسأل الله -عز وجلّ- أن يجنبنا وإياكم نار جهنم، وأن يجيرنا وإياكم من عذابها، وأن يُنعم علينا وعليكم برحمته وفضله وعتقه من النار. جعلنا الله وإياكم من عباده المتقين، وأعاذنا من سبيل أهل النار أهل العذاب الأليم.

أخي المسلم، تفكَّرْ -رعاك الله- في هذا اليوم الذي وصف لك، وفي هذا الحال الذي حُدثت عنه، وأعِدَّ له عُدَّته.

وعليك بتقوى الله؛ فإنها خير زاد، وقد ختم الله -جل وعلا- آيات الحج بقوله سبحانه: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [البقرة:203].

جعلني الله وإياكم من عباده المتقين، وأعاذنا جميعا من خزي يوم الدين، وجعلنا بمـــَنِّهِ وكرمه يوم الفزع من الآمنين.

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله عظيم الإحسان، واسع الفضل والجود والامتنان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد: عباد الله، اتقوا الله تعالى، واعلموا أنكم ملاقوه، ومَن عَلِمَ أنه ملاقٍ رب العالمين، وأن الله -عز وجلّ- محاسبه على ما قدم في هذه الحياة، فإنه سيعدّ للقاء الله عدته.

فالكيِّسُ -عباد الله- مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.

ومما أذكركم به -رعاكم الله- أننا نعيش هذه الأيام، أياما فاضلة، وعشرا مباركة، وموسما كريما من مواسم الطاعة.

ثبت في الصحيح من حديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه العشر"، قال الصحابة -رضي الله عنهم-: ولا الجهاد؟ قال: "ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بماله ونفسه ولم يرجع منه بشيء".

فاستغِلوا -عباد الله- هذا الموسم العظيم المبارك بالإقبال على الله -عز وجلّ-، والتوبة إليه، والإنابة إليه سبحانه، والإقبال على طاعته ودعائه -جل وعلا-، وذكره وشكره وحسن الثناء عليه، وتكبيره -سبحانه- وتعظيمه.

وعليكم -عباد الله- بأنواع الطاعات وصنوف القربات المقرّبة إلى الله -جل وعلا- من صيام وصلاة وصدقة وبرّ وإحسان، فالموسم موسم إقبال على الله.

وإذا لم نُقْبِلْ على الله في مثل هذه المواسم المباركة؛ فمتى نقبل؟ وإذا لم نتب إلى الله في مثل هذا الوقت العظيم؛ فمتى نتوب؟.

نسأل الله -جل وعلا- أن يرزقنا وإياكم توبة نصوحا، وأن يأخذ بنواصينا جميعا إلى الخير، وأن يجعل مواسم الطاعة لنا ربحا ومغنما، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.

وصَلُّوا وسَلِّموا -رعاكم الله- على إمام الهدى محمد بن عبد الله، كما أمركم بذلك في كتابه فقال: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمَاً﴾ [الأحزاب:56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن صلى عليَّ واحدة، صلى الله عليه بها عشرا".

اللهم صَلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد…