في التحذير من الخمر والميسر

عناصر الخطبة

  1. تحريم الإسلام للأمور المضرة في الدين والدنيا
  2. تحريم الإسلام للخمر والميسر
  3. بعض مفاسد تعاطي الخمر والميسر
  4. المقصود ب\"الخمر\" والميسر
  5. المقصود بالقمار وحكمه بعض صور القمار المعاصرة
  6. بعض مفاسد القمار وأضراره
اقتباس

ماذا تتصورون في مجتمع قد سادت بين أفراده العداوة والبغضاء، وأعظم من ذلك أن الشيطان يريد من تعاطيهم للخمر والميسر أن يصدّهم عن ذكر الله الذي بذكره تصفو نفوسهم، وتطمئن قلوبهم، ويصدّهم عن الصلاة التي هي أعظم صلة بينهم وبين ربهم -عزّ وجلّ-، وبذلك تـ…

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين، أباح لنا الطيِّبات، وحرَّم علينا الخبائث، ووضع عنا الآصار والأغلال، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، بيّن الحرام والحلال، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه صلاةً وسلاماً دائمين متواصلين ما تعاقب الغدو والآصال.

أما بعد:

أيّها الناس: اتَّقوا الله -تعالى-، واعلموا أن الله حرَّم على المسلمين كل ما يضر بدينهم ودنياهم، وما يخل بأجسامهم وعقولهم، وما يفسد قلوبهم وأخلاقهم وأموالهم، ومن ذلك: أنه حرَّم الخمر والميسر، قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾ [البقرة: 219].

فبَّين سبحانه: أن ما في الخمر والميسر من المضار والمفاسد، والآثام الكلية، أعظم مما فيهما من المصالح الجزئية.

ومعلوم بالفطر والعقول والشرائع: أن ما كانت مفسدته أعظم من مصلحته وجب تجنبه، وحرم تعاطيه، والاقتراب منه، وقال تعالى بعد ذلك: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ(91)﴾ [المائدة: 90 – 91].

ففي هاتين الآيتين الكريمتين: ينادي الله -تعالى- أهل الإيمان؛ لأن إيمانهم يحملهم على الاستماع لندائه، واجتناب ما ينهاهم عنه.

ويبيِّن لهم أن هذه الأشياء المذكورة وفي طليعتها الخمر والميسر أمور فاسدة مفسدة، يجب عليهم تجنبها، والابتعاد عنها:

أولاً: لأنها ﴿رِجْسٌ﴾.

والرجس: هو النجس.

فهي نجسة نجاسة حسية ونجاسة معنوية تنجس العقائد، وتنجس الأخلاق، وتنجس الأبدان والثياب.

والمطلوب من المؤمن: أن يكون طاهراً في عقيدته وخلقه وبدنه وثيابه.

ثانياً: إنها من عمل الشيطان، وعمل الشيطان كله شر وغش لبني آدم؛ لأنه عدو لهم لا يريد لهم الخير، ولذلك أمر باجتنابها، والبعد عنها، وعلق على ذلك الفلاح العاجل والآجل.

ودلَّ ذلك على أن من لم يجتنب الخمر والميسر فهو خاسر في الدنيا والآخرة.

ثم بيَّن سبحانه وتعالى في الآية الثانية مقصود الشيطان من تزيينه للناس تعاطي الخمر والميسر، وهو أنه يريد بذلك: بثّ العداوة بين أفراد الأسرة، وأفراد المجتمع، حتى يتفكَّكوا ويتقاطعوا، وربما تضاربوا وتقاتلوا؛ لأنهم قد زالت من بينهم الألفة، وحلَّ محلها العداوة، وزالت المحبة، وحلَّ محلها البغضاء.

وماذا تتصورون في مجتمع قد سادت بين أفراده العداوة والبغضاء، وأعظم من ذلك أن الشيطان يريد من تعاطيهم للخمر والميسر أن يصدّهم عن ذكر الله الذي بذكره تصفو نفوسهم، وتطمئن قلوبهم، ويصدّهم عن الصلاة التي هي أعظم صلة بينهم وبين ربهم -عزّ وجلّ-، وبذلك تنقطع صلة بعضهم ببعض، وتنقطع صلتهم بالله، فتسود فيهم الفوضى، والقلق النفسي، وينشغلون عن الكلم الطيب الذي هو ذكر الله، وعن العمل الصالح الذي هو الصلاة، بالكلام الخبيث من سب وشتم وغيبة ونميمة، وبالعمل الخبيث من زنا ولواط وشهوات محرَّمة.

فلا يليق بمؤمن عاقل بعد ذلك إلاّ أن يقول: انتهيت يا رب، ولذلك لما نزلت هذه الآية الكريمة، وقرئت على عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "انتهينا! انتهينا".

إنها تذهب المال وتذهب العقل.

عباد الله: و"الخمر" اسم لكل ما أَسكر من أي مادة كان، سواء كان جامداً أو مائعاً، وبأيّ اسم سمّي، سواء سمّي خمراً، أو وسكياً، أو شراباً روحياً، أو كحولاً، أو غير ذلك.

فالأسماء لا تغيّر الحقائق.

وقد ورد في الحديث: أن "الخمر" تسمّى بغير اسمها في آخر الزمان، فيحرم استعمال المسكر بأي شكل: شرباً واستنشاقاً وأكلاً.

وسواء كان تناوله للذة أو لتداوٍ أو تطيّب في الثياب أو البدن، أو غير ذلك، وسواء كان قليلاً أو كثيراً، خالصاً أو مخلوطاً مع غيره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما أسكر كثيره فقليله حرام".

ولقوله تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾.

وأما الميسر، فهو القمار، وقد يُراد به كل ما ألهى عن ذكر الله، قال الإمام ابن كثير عن القاسم بن محمّد: "كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة، فهو من الميسر".

والقمار هو أخذ المال على المسابقات، والمغالبات والمراهنات، فيحرم ذلك؛ لأنه أكل للمال بالباطل، إلا ما استثناه الشارع مما فيه مصلحة التدريب على الجهاد وآلاته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا سَبَقَ إلا في نصل أو خف أو حافر" [رواه أحمد وأصحاب السنن، وحسَّنه الترمذي وصححه ابن حبان والحاكم].

وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا سَبَقَ" أي لا يحل أخذ المال في المسابقة "إلا في نصل" وهو السهم الذي يرمي به "أو خف" يعني الإبل التي يسابق عليها "أو حافر" وهو الخيل التي يسابق عليها.

فالحديث يدل على جواز أخذ العوض في المسابقة بالرمي والإبل والخيل، وما في حكمه؛ لأنها من آلات الحرب المأمور بتعلمها وإتقانها، ولأن في بذل المال في تلك المسابقة تشجيعاً على الجهاد والتدريب عليه.

وقاس بعض العلماء على ذلك جوازاً أخذ العوض على المسابقة في المسائل العلمية للحاجة إلى ذلك، لقيام الدين بالجهاد والعلم، وما عدا ذلك من المراهنات والمسابقات لا يجوز أخذ العوض عليه؛ لأنه القمار المحرم والميسر الخبيث.

ومن ذلك: لعب الشطرنج؛ فقد ذكر الإمام ابن كثير عن أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- أنه قال: الشطرنج من الميسر.

وروي ذلك عن غيره.

ومن ذلك ما يفعل في بعض النوادي والمباريات الرياضية: من قطع تذاكر للمتفرجين يدفعون قيمتها، ثم يوضع لبعض التذاكر رقماً سرياً من حصل عليه أُعطِيَ سيارة أو مبلغاً من المال.

فيكثر الذين يشترون هذه التذاكر طمعاً في الحصول على هذا الرقم الذي جعلت عليه الجائزة.

فهذا من القمار المحرّم؛ لأنه أكل للمال بالباطل، مع ما فيه من الانشغال عن ذكر الله، وعن الصلاة بمشاهدة هذه الألعاب وحضورها.

ومن القمار: ما يعمله بعض مصانع الأشربة الغازيَّة من وضع علامة خفية في غطاء بعض القوارير من حصل عليه أُعطِيَ سيارة أو مبلغ كذا من المال، حتى يُكثِرَ الناسُ من شراء هذه الأشربة، ولو لم يكن لهم حاجة بها، بل ربما أراقوها وإنما يشترونها لأجل الطمع في العثور على هذه القارورة التي جعلت عليها الجائزة التي هي في حقيقتها ميسر وقمار.

ومن القمار: ما يؤخذ على المغالبة في لعب ورق البلوت من الأموال الطائلة التي تبذل وتهدر في هذه اللعبة الخبيثة.

ومن ذلك ما يعمله بعض أصحاب الأسواق التجارية: من وضع أسئلة يعطونها لمن اشترى منهم كمية معينة من البضائع.

فإذا أجاب عنها أعطوه سيارة أو بضاعة مثمنة.

وقصدهم بذلك اجتذاب الزبائن لشراء ما لديهم من المعروضات، حتى إن بعض الزبائن يشتري ما لا حاجة به إليه طمعاً في الحصول على هذه الأسئلة، فلعله يصادف الإجابة الصحيحة عنها، فيفوز بهذه الجائزة، وهذا من أعظم القمار، وأكل المال بالباطل.

وقد قامت في بعض دول العالم مؤسسات للقمار بأوراق اليناصيب، وغيرها مما يخترعه شياطين الإنس والجن من أساليب القمار والمراهنات الباطلة.

ومن أكل المال بالباطل: ما يفعله بعض الموظفين من اتفاق مجموعة منهم أن كل واحد يدفع مبلغاً محدداً، وما اجتمع من المبالغ المدفوعة يأخذه واحد منهم بالتناوب إذا وصله الدور، وهذا العمل محرم؛ لأنه قرض جر نفعاً فهو رباً، ولأنه قرض مشروط في قرض فهو بيعتان في بيعة المنهي عنه.

عباد الله: إنَّ مفاسد الخمر والميسر الذي هو القمار وتدميرهما للمجتمعات والاقتصاد العالمي لا يشك فيها عاقل فضلاً عن المؤمن، فالخمر تفسد الجسم، وتجلب له الأمراض الخطيرة، فهي تسبب تصلب الشرايين، وتمرض القلب والكلى والمخ، وتضعف الجسم إضعافاً يعجز معه عن تحمل الأمراض، وتسلب العقول وتحلق شاربها بالمجانين والمخبلين، وتفسد الأخلاق، وتجر إلى الوقوع في الفواحش، وهتك الأعراض، وبالخمر تقع العداوة والبغضاء.

ويتصور شاربها خلاف الواقع، فيتصور أنه الشجاع المقدام، والحاكم المطاع، والجواد المعطاء، وهو في الحقيقة أضعف من دجاجة وأخبث من جُعْل وأبلد من حمار وأديث من خنزير، يرتكب الذنوب الكبائر، ويقترف الإجرام، وينطق بأخبث الكلام، وربما سب الله ورسوله ودين الإسلام، وربما لعن أباه وأمه وغيرهما من ذوي الأرحام، يبول ويتغوط على نفسه، ويلطخ بذلك جسمه وثيابه من غير شعور، يضحك بلا عجب، ويبكي من غير سبب، ويهزأ به الصيبان والسفهاء، وينفر منه العقلاء.

وأما القمار، فإنه مجلبة للخزي والدمار، فكم من غني سلبت بالقمار ثروته، فأصبح فقيراً لا يملك قطميراً.

وكم من فقير أثرى في لحظة إذا غَلَبَ، ثم لا يلبث أن يسلب ما بيده إذا غُلِب، وهكذا لا يزال المقامرون بين سالب ومسلوب، وغالب ومغلوب، حتى تتوغر الصدور بالعداوة والبغضاء، وتحترق القلوب بالحزن والأسى، حتى كثر القتل والانتحار بين المقامرين، وخسروا الدنيا والدين.

وصدق الله العظيم: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾ [المائدة: 91].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين على فضله وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيّته وعظيم سلطانه، وأشهد أن محمّداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلَّى الله عليه وسلّم وعلى آله وأصحابه الذين قاموا بنشر دينه وإعلانه وبيانه، وسلّم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

أيها الناس: اتقوا الله -تعالى- واحفظوا أوقاتكم من الضياع أعظم مما تحفظون أموالكم، واستغلوها فيما ينفعكم في دينكم ودنياكم، فسيندم المضيع لأوقاته: ﴿يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي(24)﴾ [الفجر: 23 – 24].

وسيفرح من حفظ وقته، واستغله بالأعمال الصالحة إذا قيل: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ [الحاقة: 24].

وفي الأثر أن عيسى -عليه السلام- قال: "إن هذه الليالي والأيام خزائن، فانظروا ما تضعون فيها".

وأعظم الناس تضييعاً لوقته من شغله باللهو واللعب، كلعب الورق، ولعب الشطرنج والمباريات الرياضية ومشاهدتها.

فلعب الورق، ولعب الشطرنج، إن كان على عوض، فهو القمار المحرم بلا خلاف، وقال الإمام الذهبي -رحمه الله- في  كتاب: "الكبائر": "وأما الشطرنج، فأكثر العلماء على تحريم اللعب بها سواء كان برهن أو بغيره".

أما بالرهن، فهو قمار بلا خلاف.

وأما إذا خلا من الرهن، فهو أيضاً قمار حرام عند أكثر العلماء. انتهى.

ومثله اللعب بالورق، فإن كان على عوض فهو القمار المحرم، وإن كان على غير عوض فهو حرام أيضاً؛ لأنه يشغل عن طاعة الله، ويصد عن ذكر الله.

ومن سهر على لعب الورق نام عن صلاة الفجر وضيَّعها، مع ما يجر إليه لعب الورق من مصاحبة الأشرار، وما يشتمل عليه من اللغو والكلام المحرم من شتم وسب يقع بين اللاعبين.

وفي صحيح البخاري: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قال لصاحبه: تعال أقامرك، فليتصدق".

فإذا كان مجرد القول يوجب الكفارة أو الصدقة، فكيف بفعل القمار؟

وقد ذكر ابن كثير عن القاسم بن محمّد أنه قال: "كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو من الميسر".

فاتَّقوا الله يا من تسهرون الليالي، وتجتمعون عن لعب الورق، وتغفلون عن ذكر الله، وتنامون عن الصلاة، وتضيعون الأوقات.

واعلموا أنكم ستحاسبون على تضييع الأوقات، فقد جاء في الحديث الصحيح: أن الإنسان يوم القيامة يسأل عن عمره فيما أفناه.

ويقول الله -تعالى-: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ﴾ [فاطر: 37].

واعلموا -عباد الله- أن خير الحديث كتاب الله … إلخ.