صفات النفاق العملي

عناصر الخطبة

  1. أنواع النفاق
  2. خصال النفاق العملي
  3. مسألة الظفر
اقتباس

ومن أعظم الخيانة: تقصيرُ الشخص في النصح لمن تحت يده، كتقصير الأب في تربية أولاده، وكتقصير المعلم والمعلمة في بذل الوسع في توجيه مَن تحت أيديهم، وبذل ما يَنفعهم في دينهم ودنياهم، وكتقصير الموظف -سواء أكان مديرًا عامًّا أم رئيس قِسم أم موظفًا عاديًّا- في عملهم وتقديم مَن حقُّه أن يؤخَّر، وتأخير مَن حقُّه أن يُقدَّم، أو أكل الرِشوة وتسميتها بغير اسمها، كالهَدية أو غير ذلك

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضلَّ له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الحشر: 18].

أما بعدُ: فإن خيرَ الحديث كتاب الله، وخير الهَدي هَدي محمدٍ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.

النفاق نوعان: نفاق اعتقادي: فيُظهر المنافق الإسلام ويُبطن الكفر، وهذا مُخرج من الملَّة، وصاحبه في الدَّرك الأسفل من النار.

والنوع الثاني: نفاق عملي؛ بمعنى: أن تَصدرَ من المسلم بعضُ الأعمال التي هي من عمل النفاق وهي مُحرَّمة؛ لكنه لا يخرج من دائرة الإسلام بها، بل يبقى مسلمًا عاصيًا؛ فعن عبد الله بن عمرو أن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: "أربعٌ مَن كن فيه، كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهنَّ، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر". رواه البخاري (34)، ومسلم (58).

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: "آيةُ المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمنَ خان". رواه البخاري (33) ومسلم (59).

فخصالُ النفاق العملي الواردة في هذين الحديثين خمس: خيانة الأمانة، والكذب في الحديث، وعدم الوفاء بالعهد، والفجور في الخصومة، وإخلاف الوعد. والجامعُ بين هذه الصفات وبين النفاق: أنها تشبه النفاقَ في إبطان خلاف الظاهر.

أخي: هذه الصفات كلها أو بعضها قد تكونُ فيّ أو فيك، فألقني سمعك، وأحضر قلبك؛ لعلَّنا ننتفع بما نسمع: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَو أَلْقَى السَّمْعَ وَهُو شَهِيدٌ﴾ [ق: 37].

فخيانةُ الأمانة من صفات النفاق العملي، والأمانة: كلُّ ما ائتمنَ عليه الشخص؛ سواء أكان حقًّا لله كالطهارة والصلاة والزكاة، أم كان حقًّا للمخلوق من وديعة وعارية ودَيْن وغير ذلك: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 27].

ومن أعظم الخيانة: تقصيرُ الشخص في النصح لمن تحت يده، كتقصير الأب في تربية أولاده، وكتقصير المعلم والمعلمة في بذل الوسع في توجيه مَن تحت أيديهم، وبذل ما يَنفعهم في دينهم ودنياهم، وكتقصير الموظف -سواء أكان مديرًا عامًّا أم رئيس قِسم أم موظفًا عاديًّا- في عملهم وتقديم مَن حقُّه أن يؤخَّر، وتأخير مَن حقُّه أن يُقدَّم، أو أكل الرِشوة وتسميتها بغير اسمها، كالهَدية أو غير ذلك، فخيانةُ الأمانة -إضافة لكونها من صفات النفاق- مُتوعد صاحبها عليها بالنار.

فعن مَعقِل بن يَسار المزني، قال: سمعت رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول: "ما من عبدٍ يَسترعيه الله رعيَّة، يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيته إلا حرَّم الله عليه الجنة". رواه البخاري (7150)، ومسلم (142).

ومن صفات النفاق: الكذبُ؛ فهو خُلقٌ ذميم، إذا غلب على الشخص، استحقَّ وصف النفاق، وكُتِب عند الله كذَّابًا، وعُرِف بذلك في الملأ الأعلى، ومن الكذب الذي قد يَتساهل به البعض: الكذب لإضحاك الناس، واستمالة قلوبهم في المجالس، أو لأجل أن يُتابعوا ما يكتبه عبر وسائل الإعلام المختلفة، وهو ما يُعرف عند الناس بالنُّكت، فإن لم يكن فيه اعتداء على أحدٍ، فهو داخل في باب الكذب المحرَّم، وإن كان فيه احتقار أو غيبة لأحدٍ، فالحرمة أشدُّ؛ فعن بَهز بن حكيم عن أبيه عن جده، قال: سمعت النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول: "ويلٌ للذي يُحدِّث بالحديث ليُضحك به القوم، فيكذب، ويلٌ له، ويل له". رواه الترمذي (2315)، وغيره بإسناد حسن.

سُئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: ما حُكمُ النُّكت في ديننا الإسلامي؟! فأجاب في مجموع الفتاوى (6/492): التَّفكُّه بالكلام والتنكيت إذا كان بحقٍّ وصدق، فلا بأس به، ولا سيِّما مع عدم الإكثار من ذلك، وقد كان النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- يَمزح ولا يقول إلا حقًّا -صلَّى الله عليه وسلَّم-، أما ما كان بالكذب، فلا يجوز؛ لقول النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "ويلٌ للذي يحدث فيكذب؛ ليُضحك به القوم، ويلٌ له، ثم ويل له". أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي بإسناد جيد. اهـ.

ومن الكذب المحرَّم: ما يفعله البعض بقصدٍ حَسن، حينما يرى أحدًا مُوغلاً في المعصية، يقول: رأيت فيك في المنام كذا وكذا؛ رجاء أن يردعه هذا عن غيِّه، وهذا التحلُّم مُحرَّم، بل هو كذب على الله؛ فعن ابن عباس عن النبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: "من تَحلَّمَ بِحُلمٍ لم يَره، كُلِّفَ أَن يَعقِدَ بين شَعِيرَتين ولن يَفعلَ، ومن استمع إلى حديثِ قومٍٍ وهم له كارهون أو يَفِرُّون منه، صُبَّ في أُذُنه الآنُكُ يوم القيامة، ومن صَوَّرَ صُورَةً، عُذِّبَ وَكُلِّفَ أن يَنفخَ فيها وليس بِنَافِخٍ". رواه البخاري (7042). والآنك: الرصاص المذاب.

عبادَ الله: الأصل في الكذب التحريم، ولا يشرع إلا لمصلحة راجحة، ومن صفات النفاق: نقضُ العهد، فإذا عقد عهد مع أحدٍ -مسلم أو كافر- يَجب الوفاء بالعهد ويَحرم نقضه، وناقض العهد مفضوح يوم القيامة في الموقف؛ فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: "إن الغادر يُرفع له لواء يوم القيامة، يُقال: هذه غَدرة فلان بن فلان". رواه البخاري (6177)، ومسلم (1735).

الخطبة الثانية:

الفجور في الخصومة من صفات النفاق، والفجور: الميلُ عن الحقِّ، فمن كانت له خصومة مع أحدٍ عند قاضٍٍ أو غيره، إذا مالَ عن الحقِّ وكذب في دعواه، فادَّعى ما ليس له، أو أنكر ما عليه، فهذا هو الفاجر، ويَعظم الأمر حينما يتعلَّق بحقوق الآخرين؛ فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: "من حَلفَ على يمين يقتطع بها مالَ امرئ مسلمٍ هو عليها فاجر،ٌ لقي الله وهو عليه غضبان، فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 77]". رواه البخاري (2357)، ومسلم (138).

فخاب وخَسِر من لقي سيده وهو عليه غضبان، فغيره يتمتَّع بالمال وهو يعاقب عليه، فغُنمه لغيره وغُرمه عليه.

إخلاف الوعد من صفات المنافقين، فيحرم التشبُّه بهم في هذه الخصلة المقيتة، فالوعدُ يجب الوفاء به، فمن وعد غيره شيئًا كهدية أو صدقة أو المساعدة إذا تزوَّج أو اشترى سيارة أو غير ذلك، وجَبَ عليه أن يُعطيه ما وعده إياه؛ يقول ربُّنا -تبارك وتعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ(3)﴾ [الصف: 2- 3].

فعدم الوفاء بالقول مَمقوت عند الله، فدلَّ ذلك على وجوب الوفاء بالوعد، وإخلاف الوعد من صفات المنافقين، ويَحرم الاتصاف بصفاتهم، فأرجحُ القولين وجوب الوفاء بالوعد، وهو قول لبعض السلف، وقول في مذهب الإمام مالك، وقول لبعض الشافعية، ووجه في مذهب الإمام أحمد، واختاره شيخ الإسلام، والشنقيطي، والشيخ محمد بن صالح العثيمين.

بعض الناس يقرض شخصًا مالاً، أو يبيع من غير شهود؛ بناءً على ثِقته بالشخص، ثم بعد مُطالبة الشخص، ينكر الذي عليه الحقُّ ويقول لصاحب الحق: اذهب وقدِّم شكوى؛ لأنه يَعلم أنه إذا طُلِبَ للقضاء، سيطلب منه القاضي اليمين لعدم وجود البيِّنة عند المدَّعي، ولقلة دينه سوف يَحلف بالله كاذبًا، ففي هذه الحالة هل يجوز لمن جُحِد حقُّه وليس له بينةٌ عليه، هل يجوز أن يأخذَ حقَّه من غير رضا الجاحد وعلمه؟! وهذه المسألة يُسميها الفقهاء: "مسألة الظفر"، فأرجح القولين: جواز أن يأخذَ حقَّه؛ سواء أكان ثابتًا بأصل الشرع، كنفقة الزوجة والأولاد، أم ثابتًا بسبب المعاملة كالبيع؛ لعموم قوله تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾ [النحل: 126]، وعن عُقبة بن عامر أنه قال: قلنا: يا رسول الله: إنك تبعثنا، فننزل بقومٍ، فلا يَقْرُونَنَا، فما تَرى؟! فقال لنا رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "إن نزلتم بقومٍ، فأمروا لكم بما يَنبغي للضيف، فاقبِلوا، فإن لم يَفعلوا، فخذوا منهم حقَّ الضيف الذي يَنبغي لهم". رواه البخاري (2462)، ومسلم (1727). فأذِنَ لهم النبي إذا قَصَّر المضيف في حقِّهم بأخذ حقِّ الضيف، ولو من غير رضا المضيف، فعدم الأخذ أولى، والأخذ جائز إذا أمنت المفسدة.

أما ما يُروى عن النبي أنه قال: "أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تَخنْ من خانك". فلا يَصحُّ، قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص" (1381): قال الشافعي: هذا الحديث ليس بثابت، وقال ابن الجوزي: لا يَصحُّ من جميع طرقه، ونُقِل عن الإمام أحمد أنه قال: هذا حديث باطلٌ لا أعرفه من وجه يَصحُّ. اهـ.

وعلى فرضِ صحة الحديث، فمن عاقب بمثل ما عوقب به، وأخذ حقَّه، فليس بخائن، وإنما الخائن من أخذَ ما ليس له، أو أخذ أكثرَ من حقِّه.

يُوصف بالنفاق من عُرِف بصفةٍ من هذه الصفات وأكثر منها، فغلبت عليه، أما مَن بَدرت منه هذه الصفة في حال ضَعف ثم تاب منها، فلا يُوصف بالنفاق.