الوقف (1) فضل الوقف وكيف كان دوره بالمجتمع

عناصر الخطبة

  1. معنى الوقف
  2. أحاديث مؤصلة له ومفصلة لأحكامه
  3. أثر الوقف في المجتمع الإسلامي
  4. مقارنة الأوقاف الإسلامية بالغربية المعاصرة
  5. من مجالات الأوقاف
اقتباس

قال الشيخ مصطفى السباعي -رحمه الله-: إننا أقمنا مؤسسات اجتماعية لوجوه من الخير والتكافل الاجتماعي لم يعرفها الغربيون حتى اليوم، وهي وجوه تبعث على العجب والدهشة، وتدل على أن النزعة الإنسانية في أمتنا كانت أشمل وأصفى وأوسع أفقاً من كل نزعة إنسانية لدى…

أيها الإخوة: اشكروا الله على ما منَّ به عليكم من نعم لا تعد ولا تحصى، وجعل من شكر هذه النعمة الإنفاق في سبيله. 

وضرب له مثلاً رائعا فقال: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(262)﴾ [البقرة:261-262]. قال الشيخ السعدي: ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، أي: في طاعته ومرضاته.

أيها الأحبة: ومن أفضل الصدقات التي شرعها الله ورسوله وندبا إليها الوقف، وهو: تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة. (تحبيس الأصل) أي: العين الموقفة باقية فلا تورث، ولا تباع، ولا توهب. (وتسبيل المنفعة) أي: ريعها ومنفعتها تصرف في مصارف الخير.

وهو أفضل الصدقات التي حث عليها رسول الله، ووعد عليها الثواب الجزيل، وهو صدقة ثابتة دائمة في وجوه الخير، براً في الفقراء، وعطفاً على المحتاجين، وقياماً بمبدأ التكافل الاجتماعي الذي ندب إليه الإسلام.

وأشهر حديث في الوقف تقررت فيه أحكامه، وبُين فيه تميزه عن سائر الصدقات، وحدد فيه صاحب الوقف مصارفه، وهو أول وقف في الإسلام، وعده الفقهاء أصلا في نظام الوقف، حديث ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهمَا- قَالَ: أَصَابَ عُمَرُ -رضي الله عنه- بِخَيْبَرَ أَرْضًا، فَأَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: أَصَبْتُ أَرْضًا لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ مِنْهُ، فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي بِهِ؟ قَالَ: "إِنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا".

قال الراوي: "فَتَصَدَّقَ عُمَرُ، أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلَا يُوهَبُ، وَلَا يُورَثُ؛ فِي الْفُقَرَاءِ، وَالْقُرْبَى، وَالرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالضَّيْفِ، وَابْنِ السَّبِيلِ؛ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ. وَفِي لَفْظٍ: غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالاً". رواه البخاري ومسلم.

وعن عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ -رضي الله عنه- قَالَ:" إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ يُسْتَعْذَبُ غَيْرَ بِئْرِ رُومَةَ، فَقَالَ: "مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ فَيَجْعَلُ فِيهَا دَلْوَهُ مَعَ دِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِخَيْرٍ لَهُ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ؟"، فَاشْتَرَيْتُهَا مِنْ صُلْبِ مَالِي، فَجَعَلْتُ دَلْوِي فِيهَا مَعَ دِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ". رواه النسائي وغيره وصححه الألباني.

أحبتي: وخلال القرون الماضية من عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى وقتنا الحاضر لم تزل هذه البئر والمزرعة قائمة ومعروفة بالمدينة باسم بئر عثمان، وأجرها جارٍ لأمير المؤمنين عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ -رضي الله عنه-.

وفي الوقت الحاضر تولت النظر على هذه البئر والقيام بها وزارة الزراعة بموجب عقد مبرم بينها وبين وزارة الأوقاف، فنمتها أحسن تنمية، ولا زالت كذلك إلى اليوم، ويصرف ريعها في وجوه البر.

وهذا مصداق ما رواه أَبُو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ" رواه مسلم.

وَلقد علم الصحابة -رضي الله عنهم- أن الوقف أفضل الصدقات وأنفعها، وأعظمها أثراً في بناء الأمة. ثم ما يترتب عليه من أجر دائم للموقف معلوم مشهود.

قال ابْنُ قُدَامَةَ -رحمه الله- في المغني: قَالَ جَابِرٌ -رضي الله عنه-: لم يكن أَحَدٌ مِن أصْحَابِ النَبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ذُو مَقدِرَةٍ إِلاَّ وَقَفَ، وَهَذَا إِجْمَاعٌ مِنَهم رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ الَّذِي قَدَرَ مِنْهُمْ عَلَى الْوَقْفِ وَقَفَ، وَاشْتَهَرَ ذَلِكِ فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا.

وتتابعت الأمة صاغراً عن كابر توقف الأوقاف في كل سبيل من سبل الخير، وتتصدر أسماء الصحابة والتابعين لهم بإحسان رضي الله عنهم أجمعين ورحمهم قوائم الموقفين لدى وزارات الأوقاف في جميع بلدان المسلمين.

فوقف عثمان -رضي الله عنه- في مكة في صدر قائمة أسماء المؤسسين لشركة جبل عمر باسم وقف سيدنا عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، وهو عيني يمثل ما يزيد على عشرة ملايين ونصف ريال، وتوجد بالقوائم كذلك أسماء لرجال ونساء وأسر أوقفوا أوقافاً جزلة، وأجرهم مستمر إن شاء الله.

أيها الأحبة: ومن الأحاديث المحفزة للوقف والحرص عليه ما رُوي عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لاِبْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ" رواه بن ماجة وابن خزيمة وحسنه الألباني.

هذا النص وما سبقه من نصوص كان منطلقًا لإنشاء أكبر صرح من صروح الاستثمار الاقتصادي والإنمائي في بلاد الإسلام في عصور الازدهار، حيث كانت الأوقاف ركيزة كبرى يُنفق من خلالها على كثيرٍ من فقراء المجتمع الإسلامي حتى زالت آثار هذا الفقر في فترات من الزمان، أو تقلصت.

وفي المقابل؛ أسهمت الأوقاف في إنماء الكفاءة الاقتصادية في المجتمع الإسلامي بصورة مطردة، ورفعت كثيرًا من العبء عن كل مؤسسات الدولة الاقتصادية الرسمية، ورفعت من روح الإيجابية لدى المواطنين المسلمين الذين كان يحركهم إيمانهم بضرورة الإسهام بأموالهم في بناء المجتمع؛ يفعلون ذلك لوجه الله، لا يريدون من أحد جزاءً ولا شكورًا.

وقد ذكر الشيخ مصطفى السباعي -رحمه الله- في كتابه الرائع: "من روائع حضارتنا"، سردا مطولاً عن المؤسسات الخيرية الإسلامية على مر عصور الإسلام، مستندين في فضله على ما ورد من أحاديث، وهذا يدفع المسلمين اليوم للتسابق في توقيف العقارات والأسهم وغيرها.

قال الشيخ مصطفى السباعي -رحمه الله-: إننا أقمنا مؤسسات اجتماعية لوجوه من الخير والتكافل الاجتماعي لم يعرفها الغربيون حتى اليوم، وهي وجوه تبعث على العجب والدهشة، وتدل على أن النزعة الإنسانية في أمتنا كانت أشمل وأصفى وأوسع أفقاً من كل نزعة إنسانية لدى الأمم الأخرى.

أيها الأحبة: أما اليوم فقد تفوقوا علينا في هذا الجانب وسعوا بكل طريق لإيجاد أوقاف كثيرة تحملت عن الدولة كثيراً من الأعباء، وإن كانت أعمالهم تخلو من كثير من المعاني الإسلامية كما قال السباعي -رحمه الله-: أما في العصور الحاضرة، فإن أمم الغرب، وإن بلغت الذروة في استيفاء الحاجات الاجتماعية وعن طريق المؤسسات الاجتماعية والمؤسسات العامة؛ لكنها لم تبلغ ذروة السمو الإنساني الخالص لله -عز وجل- كما بلغته أمتنا في عصور قوتها ومجدها، أو عصور ضعفها وانحطاطها.

إذ لطلب الجاه أو الشهرة أو انتشار الصيت أو خلود الذكر الأثر الأكبر في اندفاع الغربيين نحو المبررات الإنسانية العامة، بينما كان الدافع الأول لأمتنا على أعمال الخير ابتغاء وجه الله جل شأنه، سواء علم الناس بذلك أم لم يعلموا.

ثم إن الغربيين في مؤسساتهم الاجتماعية كثيراً ما يقتصر الانتفاع بها على أبناء بلادهم، أو مقاطعاتهم، بينما كانت مؤسساتنا الاجتماعية تفتح أبوابها لكل إنسان على الإطلاق، بقطع النظر عن جنسه أو لغته أو بلده أو مذهبه.

وفارق ثالث: أننا أقمنا مؤسسات اجتماعية لوجوه من الخير والتكافل الاجتماعي لم يعرفها الغربيون حتى اليوم، وهي وجوه تبعث على العجب والدهشة، وتدل على أن النزعة الإنسانية في أمتنا كانت أشمل وأصفى وأوسع أفقاً من كل نزعة إنسانية لدى الأمم الأخرى.

أسأل الله بمنه وكرمه أن يمن علينا بالعودة التامة الشاملة لديننا، وأن يعيذنا من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن؛ إنه جواد كريم.

الخطبة الثانية:

أيها الإخوة: الوقف هو الذي يمد كل المؤسسات الاجتماعية بالموارد المالية التي تعينها على أداء رسالتها الإنسانية النبيلة، وقد أشار الشيخ السباعي لتنوعها فقال: من أوقاف لبناء المساجد وبناء أوقاف لها، وبناء الخانات والفنادق للمسافرين المنقطعين وغيرهم من ذوي الفقر، ومنها التكايا والزوايا التي ينقطع فيها من شاء لعبادة الله، ومنها بناء بيوت خاصة للفقراء يسكنها من لا يجد ما يشتري به أو يستأجر.

ومنها تسبيل الماء في الطرقات العامة للناس جميعاً، ومنها المطاعم الشعبية التي كان يفرق فيها الطعام من خبز ولحم وحساء وحلوى.

ومنها بيوت للحجاج في مكة ينزلونها حين يفدون إلى بيت الله الحرام، ومنها حفر الآبار في الفلوات لسقي الماشية والزروع والمسافرين، وكانت كثيرة جداً بين عواصم المدن الإسلامية ومدنها وقراها، حتى قل أن يتعرض المسافرون في تلك الأيام لخطر العطش.

ومنها أماكن للمرابطة على الثغور لمواجهة خطر الغزو الأجنبي على البلاد، يجد فيها المجاهدون كل ما يحتاجون إليه من سلاح وذخيرة وطعام وشراب، وكان لها أثر كبير في صد غزوات الروم وفي الحروب الصليبية عن بلاد الشام ومصر. ويتبع ذلك وقف الخيول والسيوف والنبال وأدوات الجهاد على المقاتلين في سبيل الله.

ومن المؤسسات الاجتماعية ما كانت وقفاً لإصلاح الطرقات والقناطر والجسور، ومنها ما كان لأراضي المقابر، أو لشراء أكفان موتى الفقراء وتجهيزهم ودفنهم.

وهناك مؤسسات خيرية لإقامة التكافل الاجتماعي، وقد كانت عجباً، منها ما هو للُّقطاء واليتامى ولختانهم ورعايتهم، ولإيواء المقعدين والعميان والعجزة، يقدم فيها كل ما يحتاجون، وإمدادهم بمن يقودهم ويخدمهم، ولتحسين أحوال المساجين، وتزويج المحتاجين للزواج من الفقراء..

ومؤسسات لإمداد الأمهات بالحليب والسكر، ومنها مبرة صلاح الدين، فقد جعل في أحد أبواب قلعته في دمشق ميزاباً يسيل منه الحليب، وآخر يسيل منه الماء المذاب فيه السكر، تأتي إليه الأمهات ليأخذن لأطفالهن ما يحتاجون إليه من الحليب والسكر.

ومنها ما كان لإيواء الحيوانات العاجزة من الخيول والبغال وغيرها.

أسأل الله تعالى أن يتقبل منهم، وأن يوفقنا لكل خير. وللحديث بقية.

وصلوا وسلموا…