أثر إقامة الحدود

عناصر الخطبة

  1. أهمية تطبيق الحدود
  2. الحدود زواجر وروادع
  3. الحدود تدرأ بالشبهات
  4. التحذير من الخوضِ في الأمور بدون علم.
اقتباس

لقد شرع الله –تَعَالَى- القصاص والحدود والتعزيرات لحكم بالغة ومصالح عظمى؛ فهي من مظاهر رحمة الله -تَعَالَى- بعباده، ولطفه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بهم؛ إذ هي عامل من أكبر العوامل للحفاظ على الضروريات الخمس: الدين والنفس والعقل والعِرض والمال، والتي متى ما حفظت استقر المجتمع وأمِنَ واطمأن. وهذا المقصد وهو أمن المجتمع مطلب لجميع البشر، يسعون إلى الظفر به وتحصيله مهما كلفهم من ثمن….

الخطبة الأولى:

عباد الله، أخرج ابن ماجة في سننه وابن حِبَّان في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "حَدٌّ يُعْمَلُ بِهِ فِي الأرْضِ خَيْرٌ لأَهْلِ الأرْضِ مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا" هذا لفظ ابنِ ماجة.

وعن ابن عباس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يَوْمٌ مِنْ إِمَامٍ عَادِلٍ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً، وَحَدٌّ يُقَامُ فِي الأرْضِ بِحَقِّهِ أَزْكَى فِيهَا مِنْ مَطَرِ أَرْبَعِينَ عَامًا"، قال المنذري -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "رواه الطبراني بإسناد حسن، وهو غريب بهذا اللفظ" انتهى، وهو باللفظ الأول حديث حسن؛ فإن له طرقًا وشواهدَ يتقوى بها.

أيها المسلمون، لقد شرع الله –تَعَالَى- القصاص والحدود والتعزيرات لحكم بالغة ومصالح عظمى؛ فهي من مظاهر رحمة الله -تَعَالَى- بعباده، ولطفه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بهم؛ إذ هي عامل من أكبر العوامل للحفاظ على الضروريات الخمس: الدين والنفس والعقل والعِرض والمال، والتي متى ما حفظت استقر المجتمع وأمِنَ واطمأن.

 وهذا المقصد وهو أمن المجتمع مطلب لجميع البشر، يسعون إلى الظفر به وتحصيله مهما كلفهم من ثمن، وهو – يا عباد الله – مودع في تنفيذ القصاص والحدود والتعزيرات التي شرعها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؛ ولذا فإن إقامة حد في الأرض خير لأهلها من مطرٍ نافع يستمر أربعين يومًا متتالية، أرأيتم كيف يعظم انتفاع الناس بمثل هذا المطر؟! إن إقامة حد واحد أعظم نفعًا لهم وأكثر فائدة من هذا المطر النافع المستمر.

عباد الله، لقد شرع الله -تَعَالَى- حد الردة حمايةً لحرمة الدين، وشرع القصاص في النفس والأطراف حمايةً لحرمة النفس، وشرع حد الخمر حمايةً لحرمة العقل، وشرع تعالى حد الزنا وحد القذف حمايةً لحرمة الأعراض، وشرع الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- حد السرقة حماية لحرمة المال، وجاء حدُّ الحِرابة أغلظ الحدود؛ لأن الحرابة بها كل حرمات المجتمع كلها.

فإذا طبقت هذه الحدود عَمَّ النفع الأفرادَ والجماعات والدولة؛ لما في تنفيذها من امتثال أمر الله -تَعَالَى- وإقامة شرعه؛ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ [المائدة: 178]، ولما في تنفيذها من ردع وزجر وتخويف يُضَيِّق مجال الجريمة ويحد من انتشارها؛ ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 179]؛ وذلك لأن مَن أراد القتل وعلم أنه سيُقتل انزجر وذعر؛ فلم يُقْدِم على جريمته، وبذلك تحقن الدماء وتنقلع الأشقياء. وهكذا – يا عباد الله – سائر الحدود الشرعية؛ فيها من النكاية والزجر ما هو كفيل بكف الناس عن الوقوع في موجباتها.

وفي تنفيذ الحدود حسم الفوضى واستتباب الأمن ودفع الفتن، يقول الله -تَعَالَى- ذِكْرُهُ بعد ذكر قصة ابني آدم: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 32].

 وفائدة التشبيه في هذه الآية الردع القوي عن قتل نفس واحدة؛ لأنه -تَعَالَى- صوَّر قتل النفس الواحدة بصورة قتل جميع الناس، وفائدة التشبيه أيضًا الترغيب في إحياء النفس؛ لأنه -تَعَالَى- صور إحياءها بصورة إحياء جميع الناس. فالمجتمع الذي تقام فيه الحدود تجده أكثر المجتمعات أمنًا وأقلها فتنًا؛ ﴿فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً﴾ [الحجرات: 8]، ﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [البقرة: 105].

عباد الله، لقد علم القاصي والداني والمحب والمبغض أن هذه البلاد بحمد الله -تَعَالَى- آمنة مطمئنة؛ سُبُلها آمنة، مدنها على كبرها آمنة، قراها على بُعدها آمنة، الأمن -بحمد الله- عَمَّ الحاضر والباد، وغمر المدر والوبر، أما الجريمة فهي على قلّتها قد ضُيّق عليها الخناق، ووقف لها بالمرصاد في كل طريق. فقل لي بربك: ما الذي خَصَّنا بهذه النعمة دون أكثر العباد؟ إنه توحيد الله –تَعَالَى-، وإفراده بجميع العبادات، والطهارة من الشرك بالله الذي حرَّم الله الجنة على صاحبه، فبلادنا بحمد الله من مظاهر الشرك سالمة ولمنائره هادمة. قال الله تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 82].

ومن آثار ذلك التوحيد تطبيق حدود الله –تَعَالَى-، وإقامةُ شرعه بين الناس؛ فالقاتل يُقتل، والسارق يقطع، والزاني يجلد أو يرجم، والشارب يجلد. فالحمد لله على هذه النعمة التي وفق الله -تَعَالَى- دولة التوحيد لها من بين سائر الدول في هذه الأزمان، نسأله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن يزيدها عزة وقوة، وأن يوفقها لكل خير، وأن يجنبها كل شر ومكروه، وأن يحبب إليها الإيمان ويزينه في قلوبهم، وأن يكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان.

والمسلم السالم مِن الهوى يحفظ لهم هذا الفضل، ويشكر لهم هذا الخير؛ فيدعو لهم بالتوفيق والتسديد، ويتحرَّى بذلك أوقات الإجابة. ورحم الله ابن المبارك إذ يقول:

إِنَّ الجَمَـاعَةَ حَبْـلُ اللهِ فَاعْتَصِمُوا *** مِنْهُ بِعُرْوَتِـهِ الْوُثْقَى لِمَنْ دَانَى

كَمْ يَرْفَـع اللهُ بِالسُّلْطَانِ مَظْلَمَـةً *** في دِينِنَـا رَحْمَةً مِنْهُ وَدُنْيَانَـا

لَوْلاَ الْخِلاَفَـــةُ لَمْ تَأْمَنْ لَنَـا سُبُــلٌ *** وَكَـانَ أَضْعَفُنَا نَهْبًا لأَقْوَانَـا

قال الحسن البصري -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في الأمراء: "هم يلون من أمورنا خمسة: الجمعة، والجماعة، والعيد، والثغور، والحدود. والله لا يستقيم الدين إلا بهم وإن جاروا وظلموا، والله لَمَا يُصلِحُ الله بهم أكثر مما يُفْسِدُون، مع أن طاعتَهم والله لَغيظٌ يعني للأعداء، وأن فرقتهم لكفر" يعني دون كفر. ذكره عنه الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم، ورواه ابن الجوزي في كتابه آداب الحسن البصري.

أيها المسلمون، إن المسلم حينما يسمع بيانات إقامة حدود الله -تَعَالَى- في هذه البلاد ليفرح فرحًا عظيمًا؛ استجابة لقول الله تَعَالَى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: 58]؛ فإقامة الحدود فضل من الله عظيم، كما أنه رحمة من الله كبيرة، لا يَقْدِرُ قَدْرَها إلا العاقلون العالمون.

إن إقامة حَدِّ السحر الذي نسمعه هذه الأيام أبلغ والله من ألف خطبة وألف محاضرة في هذا الموضوع؛ لِمَا يحصل به من معرفة حكم السحر عمليًّا، وما يُثمِرُه مِنِ ابتعادِ الناس عن السحر والسَّحَرَة، وما يُلْقِيه من الرُّعْبِ فِي أفئدة السحرة وأعوانِهم؛ فيكفُّوا شرَّهم عن المسلمين، وينأوا عن بلادهم. فكم من أجر وثواب يناله من أمر بتنفيذ حكم السحر، وسخَّر وسائل إعلامه لإبلاغ هذا الحكم القاصي والداني دون محاباة لأحد أو خوف من بشر؛ فالله -جَلَّ وَعَلاَ- يُثِيبُهُ أكملَ الجزاء، ويرفع منازله في الدارين، ويحفظه من كل سوء وبلية.

الخطبة الثانية:

أيها الناس، هناك فئام من الناس يتحدّثون في قضايا كبيرة فوق مكانتهم؛ فيُعَرِّضُون أنفسهم بذلك للقول على الله وعلى دينه وشرعه بغير علم. فمن الناس مَن يُنَزِّل نفسه منزلة القضاة فيقول: لم لا يُقتل هذا؟! لِم لا يرجم هذا؟! لِم لا يجلد هذا؟! وكأنه قد أحاط بالعلم، ونُصِّب للقضاء، وما عَلِم هذا الجاهل أن مجلس القضاء مختلفٌ جدًّا عن مجلسه الذي يتكلّم فيه وهو مُتَّكِئٌ على أريكته؛ فمجلس القضاء مجلسُ شُهُودٍ وبَيِّنات، حتى إن القاضيَ لا يَصِحُّ له في الشرع أن يحكمَ بِعِلْمِهِ فِي القَضِيَّة؛ فالقضاء علم واسع، إنما يجيدُهُ أهله الأكْفاء، وليس تخرّصًا وحدسًا، وليس عاطفة وحماسة.

أتعلم – أيها الخائض في الأقضية ولست من أهلها – أن قاعدة "الحدود تدرأ بالشبهات" قاعدة صحيحة متفق عليها؟! صح عن ابن مسعود  أنه قال: "ادرؤوا الجلد والقتل عن المسلمين ما استطعتم" (أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي).

وأخرج ابن أبي شيبة – قال السخاوي: وأخرجه ابن حزم – بسند صحيح عن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- أنه قال: "لأن أعطل الحدود بالشبهات أحب إليَّ من أن أقيمها في الشبهات".

وقد جاء في هذا المعنى أحاديث مرفوعة يَشُدُّ بعضُها بعضًا، وما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع ماعز والغامدية ليس إلا دليلاً صريحًا على صِحَّة هذه القاعدة. فهل عَلِمَ ذلك المتكلم هذه القاعدة وأمثالها، أم أنه جَهِلَها فَأُتِيَ مِن قِبَل جَهْلِه؟!

فحذارِ حذارِ – أيُّها المؤمنون – من الخوضِ فيما ليس لكم به علم، وإذا لم يُكَلَّفِ الإنسان بالحكم فليحمد الله، وليسلم، ولا يدخلن نفسه فيما لا يَخُصُّه ولا يعنيه؛ فإن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.

وصلوا وسلموا…