قصة إبراهيم عليه السلام (ج)

عناصر الخطبة

  1. فوائد من قصة نبي الله إبراهيم
  2. الحج دروس وعبر
  3. وصف الكعبة وخصائصها
  4. الكعبة بين الهدم والبناء
اقتباس

فأول مرة هُدمت فيها الكعبة بعد أن بناها، إبراهيم عليه السلام، كانت في زمن قريش في الجاهلية، قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم بخمس سنوات تقريباً، وكان عمره آنذاك خمساً وثلاثين سنة، أرسل الله عز وجل سيلاً عظيماً فهدمها، فتشاورت قريش واجتمعت وأجمعت على عمارتها، وكان بمكة رجل ..

إن الحمد لله:

أما بعد: تتمة القصة نبي الله، خليل الرحمن، إبراهيم عليه الصلاة والسلام، نذكركم بآخر ما ذكرنا من قصة هذا النبي الكريم، وذلك بأن أسوق لكم حديث ابن عباس الطويل، الذي ذكره الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، قال ابن عباس: "أوّل ما اتخذ النساء المنطق " وهو ما يُشَدّ به الوسط" من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقاً لتُعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وابنها إسماعيل، وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت، عند دوحة – وهي الشجرة الكبيرة – فوق الزمزم، في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذٍ أحد، وليس بها ماء فوضعها هنالك، ووضع عندهما جراباً فيه تمر، وسقاءٌ فيه ماء، ثم قفَّى إبراهيم منطلقاً، فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي، الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟! فقالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليهما فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا، قال نعم، قالت: إذن لا يضيعنا، ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية – وهو الموضع الذي دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة منه – حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات، ورفع يديه فقال: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ [إبراهيم: 37].

وجعلت أم إسماعيل، ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت، وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال يتلبط، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً، فلم تر أحداً، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي، رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة، فقامت عليه، ونظرت هل ترى أحداً، فلم تر أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فذلك سعي الناس بينهما".

نقف قليلاً مع قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم: "فذلك سعي الناس بينهما"، فأي تكريم يا عباد الله لهاجر أكبر من أن يسعى الناس بين الصفا والمروة كل عام، كما كانت تسعى رضي الله عنها؟! وأية مشاركة شعورية ووحدة مصير، أعظم من أن يهرع المسلمون من كل فج عميق، ليعيشوا مع هاجر بقلوبهم وعواطفهم وحركاتهم.

يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي: "وخلَّد الله هذه الحركة الاضطرارية، التي ظهرت من امرأة مؤمنة مخلصة، فجعلها حركة اختيارية، يكلّف بها أعظم العقلاء، وأعظم الفلاسفة والنبغاء، وأعظم الملوك والعظماء، في كل عصر، وفي كل جيل، فلا يتم نسكهم إلا بالسعي بين هذين الجبلين، اللذين هما ميقات كل محب، وغاية كل مطيع، والسعي خير ممثل لموقف المسلم في هذا العالم، فهو يجمع بين العقل والعاطفة، وبين الحس والعقيدة".

أيها المسلمون: عوداً إلى نص الحديث يقول ابن عباس: "فلما أشرفت على المروة، سمعت صوتاً، فقالت صه، تريد نفسها، ثم تسمّعت فسمعت أيضاً، فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه وتقول بيدها، هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها، وهو يفور بعدما تغرف"، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت أو قال لو لم تغرف من زمزم، لكانت زمزم عيناً معينًا – أي ظاهراً جارياً على وجه الأرض – قال فشربت وأرضعت ولدها".

فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة، فإن هذا بيت الله يبني هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله، وكان البيت مرتفعاً من الأرض، كالرّابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جُرهم، أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائراً عائفاً فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جرياً أو جريين، فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا، قال: وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا أتأذنين لنا أن ننزل عندك، قالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء، قالوا: نعم، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم ، فألفى أم إسماعيل، وهي تحب الأنس، فنزلوا وأرسلوا أهليهم، فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام وتعلم العربية منهم، وأنفسهم وأعجبهم حين شب فلما أدرك زوجوه امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل.

فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل، يطالع تركته – أي يتفقد حال ما تركه هناك – فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت، خرج يبتغي لنا، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت، نحن بشرّ نحن في ضيق وشدة، فشكت إليه، قال فإذا جاء زوجك فأقرئي عليه السلام، وقولي له يغيّر عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئاً فقال، هل جاءكم من أحد، قالت نعم جاءنا شيخٌ كذا وكذا، فسألنا عنك فأخبرته وسألني كيف عيشنا، فأخبرته أنّا في جهد وشدة، قال فهل أوصاك بشيء، قالت نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول غيرّ عتبة بابك، قال ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، الحق بأهلك فطلقها، وتزوج امرأة منهم أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد فلم يجده، فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت خرج يبتغي لنا، قال كيف أنتم، وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت نحن بخير وسعة، وأثنت على الله عز وجل، فقال ما طعامكم قالت اللحم، قال فما شرابكم قالت الماء، قال اللهم بارك لهم في اللحم والماء.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: ولم يكن لهم يومئذٍ حبّ، ولو كان لهم دعا وما لهم فيه، قال فهما لا يخلو عليهما أحدٌ بغير مكة إلا لم يوافقاه، قال فإذا جاء زوجك فأقرئي عليه السلام، ومريه يثبت عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا بخير، قال: فأوصاك بشيء. قالت نعم، هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك قال ذاك، أبي وأنت العتبة، أمرني أن أمسك، ثم لبث عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك، وإسماعيل يبري نبلاً له، تحت دوحة قريباً من زمزم، فلما رآه قام إليه فصنعا، كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد.

قال يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر، قال فاصنع ما أمرك ربك، قال وتعينني؟ قال وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني ها هنا بيتاً، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، قال فعند ذلك، رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء، جاء بهذا الحجر – يعني المقام – فوضعه له. فقال عليه، وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، قال، فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت، وهما يقولان:" ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم". انتهت رواية البخاري.

ويشير القرآن إلى بناء الكعبة بهذه الآيات البينات: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(127)﴾ [البقرة: 125- 127].

أيها المسلمون: بنى إبراهيم عليه السلام، بيت الله، وارتفع البناء، ومازالت أفئدة الناس تتلهف إلى هذا البناء، منذ أن بنى وحتى اليوم، وفي هذا حكمة عجيبة أيها الإخوة، الله أعلم بها، فليس هناك بناء على وجه الأرض، تشتاق إليه القلوب، وتتلهف لمشاهدته مثل الكعبة، وكلما زاد الإنسان الطواف به، وكلما زاد النظر إليه، زاده ذلك شوقاً، وما خرج مسلم صادق الإيمان من مكة، إلا وقلبه متعلق بهذا البناء، لا يدري هل يعود إليه أم لا، ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام: "اجعلوا آخر عهدكم بالبيت".

أيها المسلمون عباد الله: وها نحن نرى المسلمين، يتواردون إلى مكة من كل فج عميق، وينطلقون في حشد لم يعرف، ولن يعرف التاريخ له مثيلاً، في العدد والنظام، ووحدة المشاعر والهدف، وجميعهم يرددون بصوت واحد: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك".

مئات الألوف من الناس، يقفون يوم التاسع من ذي الحجة، في كل عام في أرض عرفات، يقفون وقد خلعوا ملابسهم إلا لباس الإحرام، وأقبلوا على الله داعين ملبين. وتتحرك هذه الجماهير المحتشدة كلها من عرفات، قبل غروب الشمس، كما تتحرك من مزدلفة بعد صلاة الفجر، وكل شيء في هذه الشعائر يذكرها بإبراهيم وإسماعيل ومحمد عليهم أفضل الصلاة والسلام وأتم التسليم، فعندما يطوفون بالبيت العتيق، يتذكرون من بناه، وكيف كان إبراهيم وإسماعيل يدوران حول البيت، ويرددان، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم.

وعندما يسعون بين الصفا والمروة، يتذكرون سعي هاجر الحزينة وهي تبحث عمن يغيثها، وينقذ ابنها من الهلاك. وعندما يشربون من زمزم، يتذكرون كيف فجر الله هذا الماء، ومنّ به على عبده ونبيه إسماعيل عليه السلام. وعند رمي جمرات العقبة، يتذكرون كيف اعترض الشيطان إبراهيم عليه السلام، ليفتنه بمعصية، أو يُدخل على حجه شبهة، وكيف رماه الخليل بالحجارة طرداً له وقطعاً لأمله، وعند ذبح الهدي، يتذكرون إسماعيل الذبيح، وكيف فداه الله بكبش عظيم.

إن الحج بمناسكه وأركانه، يتجلى فيه منتهى الانقياد لله، وغاية الاستسلام والإذعان لله، وفيه يجدد المسلمون العهد من أجل أن يعودوا خير أمة أخرجت للناس.

فنسأل الله.. أن يعيد لهذه الأمة خيريتها إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أقول ما سمعتم…

الخطبة الثانية:

الحمد لله:

أما بعد: أيها المسلمون: إن من معتقد أهل السنة والجماعة، أن بيت الله، هذا الذي تشاهدونه، وتطوفون به، وتحجون وتعتمرون إليه، سوف يهدم في آخر الزمان، ولا شك أن هذا أمر لا يتوقعه مسلم صادق في إسلامه؛ لشدة حبه وتعلق قلبه بالحرم، لكن كما هو مقرر عندنا، أنه لو صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا بد من الأخذ به، سواء تصورناه أم لم نتصوره، وهناك عدد من الأحاديث الصحيحة التي أخبرت بهدم الكعبة في آخر الزمان.

كيف لو استعرضنا تاريخ الكعبة، وأنها قد تعرضت للهدم والغزو عدة مرات، فلا يستبعد أن تهدم في آخر الزمان أيضاً.

فأول مرة هُدمت فيها الكعبة بعد أن بناها، إبراهيم عليه السلام، كانت في زمن قريش في الجاهلية، قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم بخمس سنوات تقريباً، وكان عمره آنذاك خمساً وثلاثين سنة، أرسل الله عز وجل سيلاً عظيماً فهدمها، فتشاورت قريش واجتمعت وأجمعت على عمارتها، وكان بمكة رجل قبطي نجاراً، فسوى لهم ذلك، وبنوها ثمانية عشر ذراعاً، حتى أتوا على موضع الحجر، واختلفوا أي قبيلة تضعها، حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكم بينهم، والقصة معروفة لديكم.

ثم بقي البناء على ما هو عليه من زمن قريش حتى تولى عبد الله بن الزبير إمارة الحجاز، فهدمت للمرة الثانية في زمنه، والسبب هو الخلاف الذي بين عبد الله بن الزبير، ويزيد بن معاوية رحمهما الله تعالى، فأرسل يزيد جيشاً بقيادة الحصين بن نمير السكوني، لقتال ابن الزبير، فتحصن عبد الله بن الزبير في المسجد حول الكعبة، ونصب فيها خياماً يستظلون بها من الشمس، لكن الحصين، نصب المنجنيق على الأخشبين، وصار يرمي على ابن الزبير وأصحابه.

وكانت أحجار المنجنيق تصيب الكعبة، فوهنت لذلك، وتخرقت كسوتها، ثم إن رجلاً من أصحاب ابن الزبير أوقد ناراً في بعض الخيام، والمسجد يومئذٍ صغير، فهبت ريح شديدة، والكعبة مازالت على بناء قريش من اللبن والحجارة، فطارت شرارة من تلك النار، وتعلقت بكسوة الكعبة فاحترقت، فازداد التصدع في جدارها فبعد ما توقف القتال، استشار عبد الله بن الزبير في هدم الكعبة وبنائها من جديد، فأبى عليه أغلب الناس، وكان أشد الناس إباءً عليه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وقال له: دعها على ما أقرها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإني أخشى أن يأتي بعدك من يهدمها، فلا تزال تُهدم وتُبنى، فيتهاون الناس بحرمتها، ولكن رقعها، فقال ابن الزبير: والله ما رضي أحدكم أن يرقع بيت أبيه وأمه، فكيف أرقع بيت الهد.

واستقر رأيه على هدمها، وأن يعيدها على قواعد إبراهيم عليه السلام، فلما كان يوم السبت الخامس عشر من جمادى الآخرة، سنة أربع وستين، أمر بهدمها، فلم يجرؤ أحد على ذلك، وخرج أهل مكة مخافة أن ينزل بهم عذاب وخرج ابن عباس إلى الطائف، فلما رأى ابن الزبير ذلك، علا بنفسه وأخذ المعول وجعل يهدمها، ثم صعد معه الناس وهدموها، وأعاد بناءها على قواعد إبراهيم، وأدخل الحجر في البيت، ثم لما تولى عبد الملك بن مروان الخلافة، وكان يعلم أن الحِجْر في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم كان خارج البيت، وأن ابن الزبير قد أدخلها ضمن البيت، فقال: هذه بدعة، ابتدعها ابن الزبير، ما عهدنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهدم الكعبة من جديد، وأخرج الحجر خارج البيت، والله المستعان.

مع أن الأصل أن يكون الحجر داخل البيت، كما بناها إبراهيم عليه السلام، ولكن قريش أخرجت الحجر؛ لأنه قصرت بهم النفقة والمال الذي جمع لبنائها بعدما هدمها السيل لم يكفِ لبنائها كاملاً، فاضطروا لإخراج الحجر، ثم لما تولى الخلافة المهدي أو ابنه المنصور بعد عبد الملك بن مروان، استشار العلماء في هدمها مرة رابعة ليعيد بناءها إلى ما كان صنعه ابن الزبير، فقال له الإمام مالك رحمه الله تعالى، إمام دار الهجرة: لا تفعل، ومنع الخليفة من ذلك وقال: إني أكره أن يتخذها الملوك ملعبة، يبنى هذا، ويهدم هذا، فتركها على ما هي عليه، فبقيت على وضعها تلك حتى وقتنا هذا.

عباد الله: أما عن غزو البيت، ومحاولة الاعتداء عليه، وأخذ كنوزه، فكثيرة جداً، ولا يتسع هذا المقام لذكره كله، ولكن نذكر طرفاً منه. فأول محاولة في عهد أبي طالب في الجاهلية، وقصة أصحاب الفيل، وجيش أبرهة المعروف، وكيف أن الله عز وجل حمى بيته، وأرسل عليهم طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كصعف مأكول.

واعتدى أيضاً القرامطة على بيت الله، في زمن أميرهم، أبا الطاهر سليمان بن أبي سعد، فدخل مكة المشرفة، فقتل من الحجاج كثيرًا، ثم أمر القرمطي لعنه الله، أن تدفن القتلى ببئر زمزم فدفنوا بها، ودفن كثير منهم في أماكنهم في أزقة مكة وشعابها، حتى في المسجد الحرام وهدم القرمطي قبة زمزم، وأمر بقلع باب الكعبة، ونزع كسوتها عنها، وفرّقها بين أصحابه، ثم أمر بقلع الحجر الأسود وأخذوه معهم إلى بلادهم، وكانوا يسكنون منطقة الأحساء حالياً، حتى قيّض الله عز وجل مملوكاً تركياً، في زمن الخليفة القائم بأمر الله، فاستنقذ الحجر الأسود من أيدي القرامطة، وافتداه منهم بخمسين ألف دينار، بذلها حتى ردوه إلى مكة.

عباد الله: وأما عن خراب وهدم الكعبة في آخر الزمان، فقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، أنه في آخر الزمان، يخرج رجل من الحبشة وهو الذي يهدمها. ففي ما رواه الإمام أحمد في مسنده، عن عبد الله بن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يخرب الكعبة ذو السويقتين في الحبشة، ويسلبها حليها، ويجردها من كسوتها، ولكأني أنظر إليه، أصيلعاً أفيدعاً، يضرب بمسحاته ومعوله". وفي البخاري عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كأني أنظر إليه أسود أفحج، ينقضها حجراً حجراً، يعني الكعبة".

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة"، وإنما سُمّي ذو السويقتين لصغر ساقيه، لرقتهما.

أيها المسلمون: وقد يسأل سائل فيقول: كيف يهدم الكعبة، وقد جعل الله مكة حرماً آمناً؟ والجواب على ذلك، أن الله يجعل مكة آمناً إلى قرب يوم القيامة، وقبيل يوم القيامة يأتي هذا الجيش ويهدمها بأمر الله عز وجل. هذا ما قرره النووي.

فنسأل الله عز وجل، بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يجنّبنا الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.