الإصلاح والمطالبات الباطلة

عناصر الخطبة

  1. غفلة المطالب الإصلاحية عن جوانب مهمة
  2. الإصلاح يبدأ من الداخل
  3. تأثر كثير من الإصلاحيين بغيرهم
  4. خطأ طلب الديمقراطية في المملكة
  5. نظرة في قضية التظاهرات والاعتصامات
  6. رضا الناس غاية لا تدرك
اقتباس

هذه المطالبات الإصلاحية تغفل عن جوانب مهمة لا نستطيع أن نتطرق لها جميعًا، ويمكن أن يكون الأهم منها أن الإصلاح يبدأ من الداخل، وأن هذه الأمة لو صلحت لتولى عليها خيارها، وكما تكونون يولى عليكم، كما جاء في الأثر الذي ضعّفه العلماء إلا أنه يحمل معنى صحيحًا، يؤيده قول الله عز وجل: ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ ..

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره …

أما بعد:

فيا عباد الله: اتقوا الله حق التقوى.

معاشر المسلمين: تموج الأرض بالأحداث الرهيبة، وتفور بالأحوال العصيبة، وتمور الدول مورًا بالانتفاضات الشديدة، وفي هذه الأثناء تسفك الدماء، ويتنادى الناس بالإصلاح، ويطالبون به، ويستعذبون الحديث حوله، وكل له طريقته في الإصلاح، وكل له رؤيته، ويجتمع الناس في المجالس فيقيمون الدول ويسقطونها، ويكتبون المقالات فيغيرون الدساتير ويثبتونها، ويعطون الحقوق ويمنعونها، ويرفعون المظالم ويوقِعونها، وهم في مجالسهم لم يبارحوها. وهذا الإصلاح باللسان لا يكلف صاحبه إلا إخراج اللسان، وكل الناس على هذه الطريقة مصلحون.

غير أنَّ هذه المطالبات الإصلاحية تغفل عن جوانب مهمة لا نستطيع أن نتطرق لها جميعًا، ويمكن أن يكون الأهم منها أن الإصلاح يبدأ من الداخل، وأن هذه الأمة لو صلحت لتولى عليها خيارها، وكما تكونون يولى عليكم، كما جاء في الأثر الذي ضعّفه العلماء إلا أنه يحمل معنى صحيحًا، يؤيده قول الله عز وجل: ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الأنعام: 129]، فإذا ظلم الناس أنفسهم سلط الله عليهم الظلمة بسبب ذنوبهم، وقد قال الله -عز وجل-: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11]. وجاء في الحديث الذي يرويه ابن ماجه أن جور السلطان عقوبة من الله تعالى لنقص المكيال والميزان.

ويغفل كثير من المطالبين بالإصلاح عن قضية الإصلاح الداخلي للأمة، وأن الإصلاح يبدأ من قاعدة الأمة وليس من أعلاها، وإذا قفز الإصلاح إلى الأعلى لم يجد له قاعدة تنفذ هذا الإصلاح؛ ولذلك لا بد أن نبدأ بأنفسنا كل في مكانه وعمله، لا يؤتى البلد من قبله، لا في فساد ولا رشوة ولا قصور ولا تقصير.

ولذلك نقول للمطالبين بالإصلاح: ابدأ بنفسك أولاً وأصلحها، وستجد أن البلاد تصلح بإذن الله تعالى وتتهيأ للإصلاح.

يقول أبو الأسود الدؤلي:

يـا أيهـا الـرجل الـمعلم غيـره *** هلا لنفسـك كان ذا التعليم تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى *** كيـما يصح به وأنت سقيم وأراك تُصـلح بـالرشـاد عقولنـا *** نصحًا وأنت من الرشاد عديم ابـدأ بنفـسك فانهـها عـن غيها *** فإذا انتهـت عنه فأنت حكيم لا تنـه عـن خلـق وتـأتي مثـله *** عار عليـك إذا فعلت عظيم

ومن جهة أخرى فإن بعض المطالبات الإصلاحية في نظر أصحابها، تنظر إليها الشريعة الإسلامية على أنها من الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، حتى لو ادعى أصحابها أنهم يريدون الإصلاح، وقد كان المنافقون يقولون: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ [البقرة: 11]، فقال الله تعالى عنهم: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 12].

وأبرز قضية تُدخل الإنسان في الإفساد من حيث لا يشعر: الغفلة عن الشريعةِ الإسلامية، ومفهومِ الإصلاح فيها، والنظرةُ الضيقة، والكلامُ في هذا الباب بغير علم، وهذا حديث كثير من المجالس في هذه الأيام.

والإصلاح مصطلح شرعي يقابله الإفساد في الأرض؛ قال تعالى: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: 56]، وقال تعالى: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: 85]، وقال شعيب -عليه السلام-: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [هود: 88]، وأخبر الله أن بعضًا مما يعده الناس إصلاحًا هو عين الفساد في الشريعة، وذلك كما في إصلاح المنافقين قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ(12)﴾ [البقرة: 11، 12].

وأخبر الله تعالى أن الإصلاح يحمي من الهلاك فقال: ﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ(117)﴾ [هود: 116، 117].

وبناءً على ذلك فالإصلاح -يا عباد الله- هو التغيير من الفساد إلى الصلاح، ومن المنكر إلى المعروف، والتغيير إلى الفساد أو إلى المنكر أو المحرم هو من الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، وليس من الإصلاح في شيء.

وإذا عُرف أن الإصلاحَ هو تغييرُ المنكر إلى المعروف وتغييرُ الفساد إلى الصلاح، فإنه يشترط له ما يشترط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويتأكد فيه الأخذ بالضوابط الشرعية لتغيير المنكر؛ لأن التغيير في الشأن العام أخطر من التغيير في الشأن الخاص، والتغييرُ والإصلاح في المنكرات التي تأخذها الشعوب على الدول والحكام أخطر بكثير من التغيير والإصلاح المتعلق بالأفراد، وينبغي فيه تحري الضوابط، والنظر في المآلات، وأن يكون وفق درجات النهي عن المنكر الثلاث المعروفة التي وردت في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ”، ولا بد أن يتأكد المطالبُ بالإصلاح أن الأمر الذي يطالب بتغييره منكرٌ فعلاً، وأن لا تفضي هذه المطالبة إلى منكرٍ أكبرَ من المراد تغييرُه، وأن لا تقترح المطالبةُ بديلاً محرمًا، بل تدعو إلى إحلال المعروفِ مكان المنكر، والصالحَ مكان الفاسد، وأن تكون رايتها ومقاصدُها شرعيةً وليستْ جاهلية.

وإنَّ المشكلة المعاصرة لدى كثيرٍ ممن يدخلون في حركات التغيير والإصلاح هي أنهم يتأثرون بغيرهم، ويستوحون الثورة من الأحداث المشابهة فينقلونها إلى بلادهم، دون تحقيق لمناطات الأحكام الشرعية واستنباط لها، وهي التي لا يجيدها إلا العلماء كما قال الله -عز وجل-: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 83]، ولذلك فإننا نقول بثقة: إنَّ استنساخ الثورات والمطالبات خطأ عقلي وشرعي؛ لأنَّ الظروفَ ليست متشابهةً، والأنظمة مختلفة، والوضع الشرعي في البلدانِ متفاوت.

وسوف أتعرض لبعض المطالبات الإصلاحية التي سمعنا بها وهي في واقعها مستنسخة من بلدان أخرى دون رد إلى الله ورسوله ودون نظر شرعي.

فالمطالبة بالديمقراطية مثلاً في مملكة تطبق الشريعة الإسلامية خطأٌ شرعي، وهو من المطالب الباطلة الفاسدة؛ لأن الديمقراطية تعتمد على حاكمية الشعب، والله -سبحانه وتعالى- يقول: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 50]، ويقول سبحانه: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة: 44].

وقد عانت كثير من الشعوب الإسلامية من هذه العلمانية الفاجرة التي تحارب الإسلام في أرضه، وتضيق على الناس في عباداتهم وشعائرهم، حتى أصبح كثير من المسلمين لاجئين في دول الغرب بسبب هذه الملاحقات، ومن هنا تمنَّت هذه الشعوب أن ترى ديمقراطيةً حقيقيةً في بلادهم كالتي يرونها في البلدان الغربية؛ ليتمكنوا من إظهار دينهم بأمان وممارسة عبادتهم ودعوتهم بحرية، واعتبروا أن هذه الديمقراطية -مع ما فيها من المآخذ- هي أخف الضررين، وليس ذلك تفضيلاً لها على الشريعة الإسلامية، ولا تجوز المطالبة بها بديلاً عن الشريعة كما في هذه البلاد، فنحن في نعمة لا تحلم بها كثير من الدول الإسلامية، فكيف يأتي من بني جلدتنا من يطالب بأن يُنص في دستور هذه البلاد على أن الشعب هو مصدر السلطة، بينما نرى النظام الأساسي للحكم في المملكة العربية السعودية ينص في مادته الأولى على أن “المملكة العربية السعودية دولة عربية إسلامية ذات سيادة تامة، دينها الإسلام، ودستورها كتاب الله تعالى وسنة رسوله…”، وحاشا لمسلم أن يجعل سلطةَ الشعب حاكمةً في التشريع، بل الشرعُ هو الحاكم، ولا يمكن أن ترجع هذه البلاد إلى الوراء بإذن الله تعالى، ولا أن تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.

وبعض المطالبين بالإصلاح تأخذهم ردة الفعل لإزالة الظلم والتقييد، فيتبنون مطالبَ باطلةً تنزعُ للحرية المطلقة دون قيودٍ ولا ضوابطَ ولا رقابةٍ، بل يريدونها صورةً طبق الأصل من مفهوم الحرية عند الغرب، فلا دينَ يحكمُ النفوس ويكبحُ جماحها، ولا أخلاقَ تهذب طباعها وتوقظ مشاعرها، ولا قيمَ ولا حياء!! وكأن الشرع الإسلامي لا توسط فيه بين هذين الأمرين، فهل يعالج الظلم والكبت بإطلاق الحرية تمامًا؟! ألم تستوعب نفوسُ هؤلاء الجمعَ بين رفعِ الظلم وضبطِ الحرية في وقت واحد؛ فتكون الحرية في حدود الشرع ويزال عنها ما هو تقييد للمباح دون مصلحة؛ ذلك أن الحرية المطلقة ليست من شرع الله تعالى لا في قليل ولا كثير، وهي من المطالب الباطلة التي لا ينبغي للشعوب الإسلامية أن تنادي بها أو ترفع بها رأسًا، ولكن الحرية المنضبطة هي التي تنبغي المطالبةُ بها؛ ذلك أن الشعوب الإسلامية تعاني من لون فريد من ألوان الحرية ويمكن أن نسميها بالحرية العرجاء أو الحرية المنقلبة على عقبيها، تلك الحرية المنحصرة في إباحة ما حرم الله تعالى، وتحريم ما أحل الله.

فإذا أراد الإنسان الحرام والفساد والخمور والمراقص فسوف يجدها مسموحة، وإذا أراد الصلاة والدعوة إلى الله تعالى وفتح المؤسسات الخيرية وإنشاء المناشط الدعوية فسوف يجدُها ممنوعةً تمامًا أو معقدةً ومقيدة بقيود فوق قيود.

ومن المطالبات التي ينقلها البعض دون تبصر ولا تأمل قضية التظاهرات والاعتصامات، ومن المعلوم أن تسيير التظاهرات في بلدان تسمح أنظمتها بها يختلف عن تسييرها في بلدان لا تسمح أنظمتها بها، ونحن في هذه البلاد نرى الأنظمة وفتاوى العلماء لا تسمح بالتظاهرات، وترى فيها زعزعة لاستقرار البلاد، وتهديدًا لأمنها، وتفريقًا لجماعتها، وذريعة للمتربصين بها، فعندنا أناس ينتظرون الفرصة السانحة ليعلنوا قائمة من المطالب التي لا يوافق عليها الأكثرية، وليست من المطالب الشرعية، وإعلانُـها والتظاهر من أجلها يفضي إلى الدعمِ الخارجي لها، وجلبِ الضغوط على هذه البلاد في تطبيقها لشريعة الله تعالى.

وهناك من يدعي أنه مظلوم وأنه رسول التحرر من الظلم، ويرى في بعض بنود الشريعة ظلمًا عليه، ولو يعطى الناس بدعواهم لادعى جميع الناس أنهم مظلومون ليستكثروا من الهبات والأعطيات، ولكنَّ هذا الظلم يحتاج إلى بينة كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجالٌ دماءَ قوم وأموالهم، ولكن البينة على المدعي”، فهذه الدعاوي التي تزعم الظلم لا بد عليها من البينات، ولا بد أن يثبت أصحابها أن هذا من الظلم المحرم شرعًا، فهناك من ينادي بأن المرأة مظلومة بسبب المحْرَم وبسبب الحجاب وبسبب عدم الاختلاط، ويطالب بمساواتها بالرجل، وما علم هؤلاء إننا إذا سوينا المرأة بالرجل ظلمناها، فنحن نحمِّلُها أعباء الرجل بالعمل والخروج من المنزل، ثم نزيد عليها أعباء المرأة من الحمل والرضاع وغيرها، وهذا هو الظلم بعينه.

وكذلك دعاوى الرافضة أنهم مظلومون مع أنهم يأخذون ما لا يأخذه السنة، وعندهم عقدة قديمة مع الظلم، وشعور دائم بهضم الحقوق حتى لو أخذوها كاملةً موفورة، ولنا عبرة فيما يحصل حولنا في بلاد البحرين، فهي صورة صادعة وناطقة لمدى جور الرافضة لأنفسهم؛ فقد قدمت لهم الحكومة السنية التنازل تلو التنازل، لكنَّ ذلك لم يزد المعارضة إلا تولعًا بالسيطرة التامة على البحرين، وقد بلغت تصرفات المعارضة البحرينية حد ارتكاب جرائم موثقة تطفح بها المواقع والقنوات من دهس لرجال الأمن وقتل وحرق وتهديد للطالبات بالاغتصاب في صورةٍ طبق الأصل لجرائم جيش المهدي وشراذم الميليشيات في العراق، نسأل الله أن يكبتهم ويقطع رأس الأفعى التي تمدهم بالمال وتوجههم من وراء البحار، وأن يقوي السنة ويصلح حالهم.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة وعصيان، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وصلاة الله وسلامه على أشرف رسله وخاتم أنبيائه نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا عباد الله: أخرج الترمذي بسند صحيح في جامعه عن رجل من أهل المدينة قال: كتب معاوية -رضي الله عنه- إلى عائشة -رضي الله عنها- أن اكتبي لي كتابًا توصيني فيه ولا تكثري عليّ، فبعثت عائشةُ -رضي الله عنها- إلى معاوية: سلام الله عليك، أما بعد: فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: “من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس”. والسلام عليك. وفي رواية لابن حبان سندها صحيح أيضًا: “من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله، ومن أسخط الله برضى الناس وكله الله إلى الناس”.

وهذا الحديث يدل على قضية التعارض بين رغبات الشعوب وبين الأحكام الشرعية، أو نقول بين الرغبات الفردية القاصرة لبعض الشعوب وبين الأحكام الشرعية التي تهدف للمصلحة العليا للأمة، وكما يقول المثل فإن رضا الناس غاية لا تدرك، وهذا المثل ينطبق على الدول مع الشعوب بصورة واضحة، فالدول لا تستطيع أن ترضي جميع شعوبها مطلقًا؛ لأن في هذه الشعوب صاحب الحقد على المجتمع، وصاحب الأثرة والأنانية، الذي يريد كل شيء يكون من نصيبه مع حرمان الآخرين، فلا يرضى هذا الصنفُ من الناس إلا بإيقاع الظلم على الغير، وهنا تسخط الأكثرية بسبب الأقلية؛ ولذلك فإن الدولة إذا أرضت الله تعالى بتطبيق شرعه، وإقامة العدل، ومنع الفساد، يسر الله أمرها وكفاها شأن الناس، وكان الرضا هو السائد في الناس.

وسوف يبقى أولو بقية يدَّعون الظلم على الدوام، ولكنَّ دعاواهم لا تنتهض لها الحجج، فيجب هنا أن يُعدَلَ معهم ولا يلتفتَ إلى دعاواهم.

وقد قال ابن الوردي -رحمه الله- في لاميته الحكيمة:

إن نصف الناس أعداء لمن *** ولي الأحكام هذا إن عدل

وقوله هذا صحيح، ومعناه أنه إذا ظلم فكل الناس أعداء له، وإذا عدل فنصفهم أعداء له، ولا يمكن أن يرضي الجميع أبدًا، وقد قال ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- كلامًا معناه: “إنَّ ولي الأمر لا يستطيع إرضاء الجميع، بل إن إمام المسجد في البيئة الصغيرة لا يستطيع إرضاء الجميع، فكيف بولي الأمر في البيئة الكبيرة، في الدول المترامية الأطراف، والمذاهب، والتوجهات”.

والدعوة إلى ترك الدين كله أو بعضه لأجل المشاريع التغريبية، هو دعوة إلى سخط الله تعالى، وإسخاط عموم الناس، كما أن الخضوع لأهل البدع وهم أقلية لتعلو أصواتهم فوق صوت الأغلبية، وأن يعطوا من الحقوق أكثر مما يستحقون، لن يكون إلا سببًا في سخط الله وسخط الناس أيضًا؛ لأن هذا هو عين الظلم، ولا نجاة للأمم والدول إلا بالعدل، وتحكيم شرع الله -سبحانه وتعالى-.

وحاصل القول -يا عباد الله- أن الإصلاح له ضوابط وقيود، ولا تجوز المطالبة بالمطالب الباطلة، ولا ينبغي للدول أن تلفت لدعاوى الظلم الكاذبة، ودعاوى التحرر الآثمة؛ طلبًا في رضا هؤلاء الأقليات، فإن رضاهم مغضب للرب -سبحانه وتعالى-، وجالب لسخط الأكثرية المؤمنة في هذه البلاد المباركة.

نسأل الله تعالى أن يصلح أحوالنا، وأن يجمع كلمتنا وأن يوحد صفنا.

اللهم برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

اللهم إنا نسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إنا نسألك العفو والعافية في ديننا ودنيانا وأهلنا وأموالنا، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وشمائلنا ومن فوقنا، ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا.

اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.

اللهم ادفع عنا البلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين.

اللهم صل على محمد…