الشفاعة وأخذ المال عليها

عناصر الخطبة

  1. الإحسان إلى المسلمين من أعظم الأعمال
  2. استحباب الشافعة لقضاء حوائج المسلمين
  3. التحذير من الشفاعة السيئة
  4. حكم أخذ المال على الشفاعة
اقتباس

الشفاعة عمل خير؛ خلق الله فنال الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- نصيبًا وافرًا منها، وكذلك خير الخلق من الصالحين فلهم عناية بالشفاعة للناس في الدنيا والآخرة، فمن كان حريصًا على الخير للناس سعى في الشفاعة لهم، ونصيبه من الشفاعة على قدر حرصه على إيصال الخير للخلق ودفع الشر عنهم؛ ففي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: “يَقُولُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: شَفَعَتْ الْمَلائِكَةُ وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ وَلَمْ يَبْقَ إِلا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنْ النَّارِ، فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ” ..

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)﴾ [الأحزاب: 70-71].

أما بعد: من أعظم الأعمال: الإحسان إلى المسلمين، والسعي في قضاء حوائجهم؛ فعن ابن عمر أن رجلاً جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: أي الناس أحب إلى الله؟! وأي الأعمال أحب إلى الله؟! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله تعالى سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إليّ من أن أعتكف في هذا المسجد -يعني مسجد المدينة- شهرًا...". رواه الطبراني في الكبير (12/453)، وصححه الألباني في الصحيحة (906).

فلنحرص على المشي في قضاء حوائج إخواننا وأخواتنا بالشفاعة لهم، ولنتوسط لهم في أبواب الخير من تنفيس كربة مكروب وبذل المعروف ونشر الخير ورفع الظلم وإقامة المشاريع التي يستعين بها الناس على أمور دينهم أو دنياهم، سواء شفعنا عند من له ولاية أو شفعنا عند أهل الفضل أو أرباب اليسار والجدة، لنكون شركاء في الأجر؛ يقول ربنا -تبارك وتعالى-: ﴿مَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا﴾ [النساء: 85].

الشفاعة عمل خير؛ خلق الله فنال الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- نصيبًا وافرًا منها، وكذلك خير الخلق من الصالحين فلهم عناية بالشفاعة للناس في الدنيا والآخرة، فمن كان حريصًا على الخير للناس سعى في الشفاعة لهم، ونصيبه من الشفاعة على قدر حرصه على إيصال الخير للخلق ودفع الشر عنهم؛ ففي حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: "يَقُولُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: شَفَعَتْ الْمَلائِكَةُ وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ وَلَمْ يَبْقَ إِلا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنْ النَّارِ، فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ". رواه مسلم (183).

وعن أبي موسى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا"، ثم شبّك بين أصابعه. وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- جالسًا إذ جاء رجل يسأل أو طالب حاجة أقبل علينا بوجهه، فقال: "اشفعوا فلتؤجروا، وليقضِ الله على لسان نبيه ما شاء". رواه البخاري (6027) ومسلم (2627).

إخوتي: الكل منا مخاطب بهذا الحديث، فلنشفع عند الآخرين في مصالح إخواننا وأخواتنا كل على حسب وسعه، فيمكن أن تشفع عند زميلك في العمل في إتمام معاملة أخيك والسرعة في إنجازها، ويمكن أن تشفع عند صاحب البيت أو الشقة في الحط من الإيجار، ويمكن أن تشفع عند الغني في مساعدة محتاج، ويمكن أن تشفع في تزويج فلان، ويمكن أن تشفع في إزالة مظلمة وقعت على مسلم أو مسلمة… وهكذا، فالكل يستطيع أن يكون له دور في الشفاعة الحسنة كل بحسبه.

وليست الشفاعة الحسنة مختصة بالآدميين، بل تتعدى إلى البهائم؛ فعن عبد الله بن جعفر قال: دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حائطًا لرجل من الأنصار، فإذا فيه ناضح له، فلما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- حنّ وذرفت عيناه، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ -أصل أذنيه- وَسَرَاتَهُ -ظهره-، فَسَكَنَ، فَقَالَ: "مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ؟!"، فَجَاءَ شَابٌّ مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالَ: أَنَا، فَقَالَ: "أَلا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا، فَإِنَّهُ شَكَاكَ إِلَيَّ وَزَعَمَ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ". رواه أحمد (1747) (1757)، ورواته ثقات.

فإزالة الضرر عن الحيوان أمر واجب، فليشفع من استطاع إزالة ذلك.

ولنحذر من الشفاعة السيئة؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- أن قريشًا أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! فكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟!"، ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّمَا ضَلَّ مَنْ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ فِيهِمْ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَرَقَتْ لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهَا". رواه البخاري (6788) ومسلم (1688).

فالشفاعة السيئة هي التي يترتب عليها محظور شرعي، سواء كان يتعلق بحق الخالق كما في هذا الحديث، أو بحق المخلوقين، سواء كان هذا الحق خاصًّا لشخص أو عامًّا للأمة، فيقدم بسبب الشفاعة السيئة من لا يستحق التقديم، ويؤخر من يستحق التقديم، أو يعطى من لا يستحق، أو يمنع من يستحق… وغير ذلك.

فمن شفع شفاعة سيئة كان شريكًا في الظلم وتحمل الوزر مع الظالم: ﴿وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا﴾.

الخطبة الثانية:

نظرًا لحاجة بعض الناس من الرجال والنساء إلى الوظيفة، أو الحاجة إلى نقل الوظيفة من مدينة إلى أخرى، أو من دائرة إلى دائرة أخرى، أو طلب منحة أرض، أو التسجيل في العطاء السنوي المأخوذ من وزارة المالية، أو رفع مظلمة وقعت عليهم أو غير ذلك؛ نظرًا لهذه الحاجة فهناك طائفة من الناس يقومون بالشفاعة في هذه الأمور وغيرها، فيحصل للمشفوع له مراده، ويأخذون مبالغ مالية على تلك الشفاعة، فهل أخذ هذا المال جائز؟! فأقول مستعينًا بالله سائله التوفيق للحق: إن كان هذا الأمر يتم بين المسؤول والواسطة ويتقسمان المال فهذا من الرشوة، وتحريمها ظاهر، وإن كان المال خاصًّا بالشافع فيقوم بالتوظيف والنقل وغير ذلك لأجل وجاهته ودخوله على المسؤولين واستجابتهم لطلبه، فإن كانت شفاعته محرمة فالتحريم ظاهر، فهي محرمة ولو لم يأخذ عليها مالاً، وإن كانت شفاعته حسنة فالظاهر تحريم أخذ المال على هذه الشفاعة أيضًا، فعن أبي أمامة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ شَفَعَ لأَحَدٍ شَفَاعَةً فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً فَقَبِلَهَا فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنْ الرِّبَا". رواه الإمام أحمد (21748) وغيره، والحديث محل خلاف بين أهل العلم، فمنهم من يضعفه، ومنهم من يصححه، وعلى القول بضعف الحديث تشهد له آثار الصحابة منها:

أن أبا مسعود البدري عقبة بن عمرو أتى إلى أهله فإذا هدية، فقال: ما هذا؟! فقالوا: الذي شفعت له، فقال: أخرجوها، أتعجل أجر شفاعتي في الدنيا؟! رواه ابن أبي شيبة (21261) ورواته ثقات.

وعن مسروق أن عبد الله بن مسعود قال: من شفع لرجل ليدفع عنه مظلمة أو يرد عليه حقًّا فأهدى له هدية فقبلها فذلك السحت -أي رشوة-. فقلنا: يا أبا عبد الرحمن: إنا كنا نعد السحت الرشوة في الحكم. فقال عبد الله: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ﴾. رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (6382) والطبري في تفسيره (8/432-433) وابن أبي شيبة (21262) بإسناد صحيح.

وأهل العلم ينصون على حرمة أخذ المال على الشفاعة الحسنة؛ قال أحمد الدردير الفقيه المالكي في الشرح الكبير (3/77): "الشارع جعل الضمان والجاه والقرض لا تفعل إلا لله تعالى، فأخذ العوض عليها سحت". وقال أبو الحسن التُسُولي الفقيه المالكي في البهجة في شرح التحفة (1/43): "انقطاع الرعية إلى العلماء المتعلقين بالسلاطين ليرفع الظلم عنهم فيهدون لهم ويكرمونهم، فذلك باب من أبواب الرشوة؛ لأن رفع الظلم واجب على كل من قدر عليه عن أخيه المسلم".

وقال الماوردي الفقيه الشافعي في الحاوي (16/287): "مهاداة الشافع معتبرة بشفاعته، وهي على ثلاثة أقسام:

أحدها: أن يشفع في محظور، من إسقاط حق، أو معونة على ظلم، فهو في الشفاعة ظالم، وبقبول الهدية عليها آثم، لا تحل له الشفاعة، ولا تحل له الهدية.

والقسم الثاني: أن يشفع في حق يجب عليه القيام به، فالشفاعة مستحقة عليه، والهدية عليه محظورة؛ لأن لوازم الحقوق لا يستعجل عليها.

والقسم الثالث: أن يشفع في مباح لا يلزمه، فهو بالشفاعة محسن لما فيها من التعاون.

وللهدية على هذه الشفاعة ثلاثة أحوال: إحداها: أن يشترطها الشافع؛ فقبولها محظور عليه؛ لأنه يستعجل على حَسَن قد كان منه. والحال الثانية: أن يقول المهدي هذه الهدية جزاء على شفاعتك، فقبولها محظور عليه، كما لو شرطها: لأنها لما جعلت جزاءً صارت كالشرط. والحال الثالثة: أن يمسك الشافع عن اشتراطها ويمسك المهدي عن الجزاء بها فإن كان مهاديًا قبل الشفاعة، لم يمنع الشافع من قبولها ولم يكره له القبول، وإن كان غير مهاد قبل الشفاعة كره له القبول، وإن لم يحرم عليه فإن كافأ عليها لم يكره له القبول". اهـ.

وقال ابن رجب الحنبلي -في قواعده القاعدة الخمسون بعد المائة-: "الهدية لمن يشفع له بشفاعة عند السلطان ونحوه، فلا يجوز ذكره القاضي وأومأ إليه لأنها كالأجرة والشفاعة من المصالح العامة، فلا يجوز أخذ الأجرة عليها".

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (31/287): "الهدية في الشفاعة: مثل أن يشفع لرجل عند ولي أمر ليرفع عنه مظلمة أو يوصل إليه حقه أو يوليه ولاية يستحقها أو يستخدمه في الجند المقاتلة -وهو مستحق لذلك-، أو يعطيه من المال الموقوف على الفقراء أو الفقهاء أو القراء أو النساك أو غيرهم وهو من أهل الاستحقاق. ونحو هذه الشفاعة التي فيها إعانة على فعل واجب أو ترك محرم: فهذه أيضًا لا يجوز فيها قبول الهدية، ويجوز للمهدي أن يبذل في ذلك ما يتوصل به إلى أخذ حقه أو دفع الظلم عنه. هذا هو المنقول عن السلف والأئمة الأكابر. وقد رخّص بعض المتأخرين من الفقهاء في ذلك، وجعل هذا من باب الجعالة، وهذا مخالف للسنة وأقوال الصحابة والأئمة: فهو غلط؛ لأن مثل هذا العمل هو من المصالح العامة التي يكون القيام بها فرضًا؛ إما على الأعيان؛ وإما على الكفاية، ومتى شرع أخذ الجعل على مثل هذا لزم أن يكون الولاية وإعطاء أموال الفيء والصدقات وغيرها لمن يبذل في ذلك، ولزم أن يكون كف الظلم عمن يبذل في ذلك، والذي لا يبذل لا يولى ولا يعطى ولا يكف عنه الظلم، وإن كان أحق وأنفع للمسلمين من هذا. والمنفعة في هذا ليست لهذا الباذل حتى يؤخذ منه الجعل على الآبق والشارد. وإنما المنفعة لعموم الناس: أعني المسلمين؛ فإنه يجب أن يولِّي في كل مرتبة أصلح من يقدر عليها".

وقال في مجموع الفتاوى (31/ 286): "إذا أهدى له هدية ليكف ظلمه عنه أو ليعطيه حقه الواجب: كانت هذه الهدية حرامًا على الآخذ، وجاز للدافع أن يدفعها إليه كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إني لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها نارًا"، قيل: يا رسول الله: فلمَ تعطيهم؟! قال: يأبون إلا أن يسألوني، ويأبى الله لي البخل". رواه أحمد (10621) وغيره، ورواته ثقات.

إخوتي: الكلام السابق على أخذ المال لأجل الشفاعة، أما دفع مبلغ معتاد لأجل التعقيب فيقوم المعقب بمتابعة المعاملة ومراجعة الدائرة الحكومية، فهذا من الجعالة المباحة.