الاستقامة

عناصر الخطبة

  1. حقيقة الاستقامة
  2. أعظم ما ينبغي العناية بصلاحه بعد القلب اللسان
  3. التسديد والمقاربة لمحاولة تحقيق الاستقامة
  4. معينات على الاستقامة
اقتباس

وحقيقة هذه الاستقامة -كما قال أهل العلم- أنها سلوك الطريق المستقيم، وهو الدين القيم من غير تعريج عنه يمنة ولا يسرة، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها الظاهرة والباطنة وترك المنهيات كلها كذلك، وأصل الاستقامة استقامة القلب على التوحيد، كما فسر أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- وغيره قوله سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾، بأنهم لم يلتفتوا إلى غيره، وأنهم استقاموا على أن الله ربهم، فإذا استقام القلب على…

الخطبة الأولى:

الحمد لله العلي القدير، أحمده سبحانه على فضله السابغ وخيره الكثير، وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له ولا شبيه له ولا نظير، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله البشير النذير والسراج المنير، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أولي البر والتقى والفضل الكبير.

أما بعد:

فاتقوا الله -عباد الله- واخشوا يومًا تعرضون فيه على الله فيجزي كل نفس بما كسبت، فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره.

أيها المسلمون: لأنه كان للناس في سعيهم إلى بلوغ ما تصبو إليه نفوسهم مسالك شتى وسبل يرون أن سلوكها يحقق المراد ويصيب الهدف ويوصل إلى الغاية التي يكون في بلوغها طيب الحياة وسعادة العيش؛ فإن لأهل الإيمان من الريادة في ذلك ما يجعلهم أوفر الناس حظًا في التوفيق إلى أسباب الحياة الطيبة وأعظمهم نصيبًا منها، وأكملهم دلالة عليها بما آتاهم الله من نفاذ البصيرة وسداد الرأي وحياة القلب واستقامة على الجادة تورث صاحبها تلك المنزلة الرفيعة والموعود الأجل الذي وعد الله به عباده في قوله سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾، وفي قوله عز اسمه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.

ولذا كان جواب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لسفيان بن عبد الله الثقفي حين طلب إليه أن يقول له في الإسلام قولاً لا يسأل عنه أحدًا بعده كان جوابه -عليه الصلاة والسلام-: "قل آمنت بالله ثم استقم". أخرجه مسلم في الصحيح.

وحقيقة هذه الاستقامة -كما قال أهل العلم- أنها سلوك الطريق المستقيم، وهو الدين القيم من غير تعريج عنه يمنة ولا يسرة، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها الظاهرة والباطنة وترك المنهيات كلها كذلك، وأصل الاستقامة استقامة القلب على التوحيد، كما فسر أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- وغيره قوله سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾، بأنهم لم يلتفتوا إلى غيره، وأنهم استقاموا على أن الله ربهم، فإذا استقام القلب على توحيد الله تعالى وخشيته وإجلاله ومهابته ورجائه ودعائه ومحبته والتوكل عليه والإنابة إليه والتسليم له والإقبال عليه والإعراض عما سواه، فإن سائر الجوارح عندئذٍ تستقيم على طاعته بأداء فرائضه واجتناب نواهيه والتقرب إليه بالنوافل، لأن القلب بمنزلة الملك للجوارح، فإذا استقام استقامت، كما جاء في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب…". الحديث.

وإن من أعظم ما تجب العناية بصلاحه واستقامته من الجوارح بعد القلب اللسان؛ إذ هو المعبر عن القلب الكاشف عن مكنونه، وقد أخرج الإمام أحمد في مسنده بإسناد جيد عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه"، على أن ما في الطبيعة البشرية من ضعف بيّن وما يعتريها من قصور يقتضي أن لا يطيق الناس الاستقامة الكاملة على أمر الله في كل أشواط الحياة، فلا مناص من التقصير فيها بعدم الإتيان بها على وفق ما يرضي الله تعالى، فأرشد سبحانه إلى ما يجبر به ذلك التقصير، وهو الاستغفار المستلزم للتوبة النصوح التي يثوب بها العبد إلى رشده، ويفيء إلى طاعة ربه، فقال سبحانه: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ ? وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ﴾، وفي مسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجه بإسناد صحيح عن ثوبان -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن".

ولذا أمر -صلوات الله وسلامه عليه- مَنْ جنح عن الاستقامة أو قصّر عنها بالتسديد والمقاربة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "سددوا وقاربوا"، كما في الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحهما من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

والسداد هو الإصابة في جميع الأقوال والأعمال والمقاصد، وهو حقيقة الاستقامة والمقاربة أن يصيب ما قرب من الغرض إن لم يصب الغرض نفسه ما دام عازمًا مبتغيًا إصابة الغرض نفسه قاصدًا التسديد، غير متعمد الحيدة عنه، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه بإسناد حسن عن الحكم بن الحزن الكلفي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أيها الناس: إنكم لن تعملوا أو لن تطيقوا كل ما أمرتكم به، ولكن سددوا وأبشروا".

فاتقوا الله -عباد الله- واتخذوا من سلوك سبيل الاستقامة خير عدة تعتدّونها وأقوم منهجًا تسلكونه لبلوغ الحياة الطيبة، فطوبى لمن استقام على أمر الله ثم طوبى له بمرضاة الله ونزول جنان الله.

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، إنه كان غفارًا.

الخطبة الثانية:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا لله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

أما بعد:

فإن مما يعين العبد على الاستقامة على أمر الله تذكر المقصود من خلق الله له؛ فإنه سبحانه لم يخلق الخلق إلا لعبادته وحده كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ(58)﴾.

واستحضار هذا المقصود يبعث على تعظيم الرب -سبحانه- وإجلاله، ومحبته محبة تورث سلامة القلب، وإقباله على ربه بطاعته والازدلاف إليه واجتناب ما نهى عنه من المحرمات واتقاء الشبهات حذرًا من الوقوع في المحرمات، وأما الغفلة عن هذا المقصود فإنها تعقب صاحبها قسوة قلب تجنح به عن سلوك سبيل الاستقامة وترديه في معامع العصيان وظلمات الخطايا، فتكون عاقبة أمره خسرًا. أعاذنا الله جميعًا من ذلك، فاتقوا الله -عباد الله- واستقيموا على أمر الله.

وصلوا وسلموا على خير خلق الله محمد بن عبد الله، فقد أمرتم بذلك في كتاب الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الآل والصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خير من تجاوز وعفا.