ماذا بعد موسم الطاعة؟

عناصر الخطبة

  1. اجتهاد المؤمن في العمل الصالح حتى الموت
  2. خوف السلف مع اجتهادهم من عدم القبول
  3. خطورة رضا العبد عن عمله
  4. وجود عيدين فقط للمسلمين
اقتباس

ورضا العبد بطاعته دليل على حسن ظنه بنفسه، وجهله بحقوق ربه، وعدم علمه بما يستحقه الرب -جل جلاله-، وبما يليق أن يعامل به، قال ابن القيم -رحمه الله-: ” فالرضا بالطاعة من رعونات النفس وحماقتها، وأرباب العزائم والبصائر أشد ما يكونون استغفارا عُقَيْب الطاعات؛ لشهودهم تقصيرهم فيها، وترك القيام لله بها كما يليق بجلاله وكبريائه”.

الخطبة الأولى:

الحمد لله الولي الحميد، يحيي ويميت، بيده الخير، ومنه الخير، وهو على كل شيء قدير، أحسن بنا إذ مد في أعمارنا، ومتعنا بقواتنا حتى بلغنا مواسم الخير وأيام العشر، وأعاننا على الخير، فله الحمد، لا نحصى ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وسعت رحمته كل شيء، فكتبها لعباده المؤمنين: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف:156].

وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله؛ بشرنا وأنذرنا، وبلغنا دين ربنا، ونصح لنا، وأشفق علينا؛ فجزاه الله -تعالى- عنا وعن المسلمين خير الجزاء، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين كانوا يستبقون إلى الأعمال الصالحات استباق أهل الدنيا إلى دنياهم، وقد جعلوا زمانهم كله في طاعة الله واجتناب معصيته، وعلى التابعين لهم بإحسان.

أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، واعتبروا بمرور أيامكم وانقضاء شهوركم وأعوامكم، فما ذلكم -والله- إلا من أعماركم، ولن تجدوا في قبوركم وأخراكم إلا ما قدمتم في دنياكم. ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ (200) وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ(202)﴾ [البقرة:200-202].

أيها الناس: إن كان موسم الحج والعشر وعرفة والأضحية قد انقضى بما أودع العباد فيه من أعمالهم، فإن الإنسان لا ينقضي عمله إلا بالموت، ويكتب عليه فيما بقي من عمره ما عمل من خير وشر؛ ولهذا أمرنا ربنا -جل جلاله- بأن نجعل نهاية سعينا الموت، فلا يوقفنا عن العمل الصالح إلا هو: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر:99].

وأهل الإيمان يتزودون من الأعمال الصالحة، كما أن أهل الفجور والعصيان يُكتب عليهم ما يعملون من سيئات، روى أبو هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له” رواه مسلم.

فأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن الموت هو قاطع العمل؛ لذا كان طول عمر المؤمن خيرا له لتزوده من الطاعات، واكتسابه الحسنات، فكره في حقه أن يتمنى الموت، أو يدعو على نفسه به، كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “لا يتمنى أحدكم الموت، ولا يدعو به من قبل أن يأتيه، إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا” رواه مسلم.

ولكن كثيرا من المسلمين في غفلة عن هذه الأحاديث العظيمة، وما تحويه من معان جليلة؛ فلا يعرفون من نعمة بقائهم في الدنيا ومدّ الله -تعالى- لهم في أعمارهم إلا أنهم بقوا للتمتع بالشهوات وجمع الحطام، والتكاثر في الأموال والأولاد، والعمل للدنيا، وهي تفنى، وهم عنها زائلون، مع تفريطهم في عمل الآخرة، وهي تبقى، وهم فيها مخلدون، فاجتهدوا فيما كفوا، وغفلوا عما كلفوا.

إن الله -جل جلاله- لا تنفعه طاعاتنا، ولا تضره معصيتنا. كيف وهو الغني عنا وعن العالمين؟ وقد قال -سبحانه- في الحديث القدسي: “يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تلغوا نفعي فتنفعوني” رواه مسلم. وفي كتاب الله: ﴿إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ﴾ [الزمر:7].

وهو -سبحانه- غني عن تعذيبنا وإرهاقنا؛ ولذا اختار لنا من الدين أحكمه وأحسنه وأيسره: ﴿مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ﴾ [المائدة:6]، وفي الآية الأخرى: ﴿هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج:78].

ولم يكلفنا -جل جلاله وتقدست أسماؤه- من الأعمال ما لم نطق، دعاه المؤمنون فقالوا: ﴿وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ [البقرة:286]، فقال -عز وجل- قد فعلت. رواه مسلم.  وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “يا أيها الناس، خذوا من الأعمال ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قل” رواه البخاري ومسلم. وكما أنه -جل جلاله- لم يعذب البشر في الدنيا إلا بما كسبت أيديهم، وما يعفو عنه أكثر.

أيها المسلمون: لقد كان سلفنا الصالح، مع كثرة عملهم وشدة اجتهادهم، يخافون من عدم القبول، ويدعون الله -تعالى- أن يتقبل منهم، وحق فيهم وفي أمثالهم وصف الله -تعالى- لهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ(61)﴾ [المؤمنون:57-61].

ورضا العبد بطاعته دليل على حسن ظنه بنفسه، وجهله بحقوق ربه، وعدم علمه بما يستحقه الرب -جل جلاله-، وبما يليق أن يعامل به، قال ابن القيم -رحمه الله-: ” فالرضا بالطاعة من رعونات النفس وحماقتها، وأرباب العزائم والبصائر أشد ما يكونون استغفارا عُقَيْب الطاعات؛ لشهودهم تقصيرهم فيها، وترك القيام لله بها كما يليق بجلاله وكبريائه“.

فحذارِ -يا عباد الله- أن تغتروا بعملكم؛ فحري بالطاعة المتقبلة أن تقود إلى طاعة أخرى؛ شكرا لله. ويخشى من المعصية أن تولد معصية أخرى.

جعلني الله وإياكم من الشاكرين، ومن أهل الطاعة والاستقامة، وأعاد علينا مواسم الحج والأضحية وعرفة ونحن في أمن وأمان، وعفو وعافية، ووفقنا الله في كل زمان ومكان للأعمال الصالحة.

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وأديموا طاعته واستغفاره. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(19)﴾ [الحشر:18-19].

أيها المسلمون: اشكروا الله -تعالى- على ما منّ به عليكم من يوم عرفة، والتوفيق للهدي والأضحية والحج والأعمال الصالحة، واشكروه -سبحانه- والهجوا بدعائه أن يتقبل أعمالكم، وأن يصلح قلوبكم؛ فإن الله -عز وجل- لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم، واشكروه إذ هداكم للعيدين الشرعيين، وقد ضل عنهم أكثر البشر.

ومن شكر الله -تعالى- على هذه النعمة العظيمة: الاقتصار على العيدين الشرعيين الفطر والأضحى مع عيد الجمعة الأسبوعي وعدم إحداث أعياد أخرى أو المشاركة فيها مهما كانت مناسباتها ومهما زينها وسوغها المسوغون؛ فإن الأعياد من الشرائع، ولا يحل للناس أن يبتدعوا الشرائع، وإنما تؤخذ الشرائع من دين الله -تعالى-، من كتابه -عز وجل-، أو من سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وإلا كان ذلك افتياتا على الله في شرع شيء لم يأذن به، وقد ذم الله -جل وعلا- المشركين بما يشرعون لأنفسهم وأتباعهم من الشرائع والمناسك، فقال -سبحانه-: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى:21]، أخبر -جل وعلا- أن لكل امة من الأمم شريعتها ومنهاجها: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة:48].

وشريعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- محمد بن عبد الله وأتباعه هي شريعة الإسلام، والإسلام في باب الأعياد قد فرض العيدين الشرعيين مع عيد الجمعة، وأبطل ما سواها من الأعياد؛ فلا يحل لأهل الإسلام أن يستبدلوا بهما سواهما، وإلا كان ذلك من عدم شكر نعمة الله على ما هدانا للعيدين الكبيرين، وهو من استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، وذلك سبب اندراس الشريعة، وغربة الدين، وسيادة الجهل، وتحكم الهوى؛ كما هو واقع في كثير من بقاع المسلمين الذين تهاونوا في مسألة الابتداع في الدين، حتى حلت البدعة محل السنة، والضلال مكان الهدى، والجهل بدل العلم.

نسأل الله -جل وعلا- أن ينصرنا بالحق، وأن يبصرنا به، وأن يعيننا على التزامه، وأن يجعلنا جميعا من أنصار دينه، وأن يحفظ على هذه البلاد أمنها وإيمانها…