اليتيم

عناصر الخطبة

  1. مرارة اليُتم والمقصود باليتيم
  2. مكانة اليتيم ومنزلته
  3. نماذج رائعة في أيتام غيروا مجرى التاريخ
  4. بعض حقوق اليتيم
  5. مراتب اليُتم وبعض صور اليُتم الحقيقي
اقتباس

بينما كانت البسمةُ تعلو وجهه, والأنسُ يملأ قبله, إذا بذلك كلِّه قد رحل, بينما كان يجدُ السندَ الذي يعضُده, والقلبَ الذي يحتويه, والنفسَ التي تحبه, والدعواتِ التي تلهج له, إذا به فقد ذلك كله, أتدرون من هذا, إنه من ذاق مرارة الفقد, ففقد أباه, إنه من فقده أو هما معاً, وهو…

الخطبة الأولى:

بينما كانت البسمةُ تعلو وجهه, والأنسُ يملأ قبله, إذا بذلك كلِّه قد رحل, بينما كان يجدُ السندَ الذي يعضُده, والقلبَ الذي يحتويه, والنفسَ التي تحبه, والدعواتِ التي تلهج له, إذا به فقد ذلك كله, أتدرون من هذا, إنه من ذاق مرارة الفقد, ففقد أباه, إنه من فقده أو هما معاً, وهو دون بلوغه؛ إنه اليتيم, الذي كتب الله -وحكمته بالغه- أن يموت والده, فيفقد بفقده من ينفق عليه, ومن يحنو عليه.

اليتيمُ -يا كرام- بشرٌ بالأمس كان مثلك ومثل أبنائك, واليوم هو بدون أب, وحديثنا في هذا اليوم هو عن هذا الفرد من مجتمعنا, عن اليتيم, عن يتمه, عن حقه, وواجبه.

وقبل ذلك كلِّه، فليس يخفى بأن الله حكيم, وله في كل شيء حكمةٌ بالغة, والأعمار بيده, وهو رحيم, أرحم من الأم بولدها, فيتم إنسان لا ينبغي أن يُنظَرَ له بدون استشعار الحكمة البالغة, والرحمة الواسعة من رب البرية.

وحين يحلُّ اليتمُ بإنسانٍ, فإنما ذلك له رفعة وأجر, إنه وإن اشتدت عليه الحياة, وصَعُبَ عليه فراقُ الأحباب, وودّ لو مُتِّعَ بوالدٍ ووالده, إلا أن الله أراد به خيراً, أجرٌ مدخر, وثوابٌ جزيل, وإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.

بل إنه لربما اعتمد الأبُ حالَ وجوده على نفسه في عِيالةِ أبنائه, فوُكِل إلى جَهده, فإن غاب اعتمد على الحفيظ وكفى به سبحانه: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ﴾ [النساء: 9].

معشر الكرام: ليس اليُتْم نهايةَ الدنيا, ولا آخرَ المطاف, بل لربما عَبْر بوابة اليتم دخل اليتيمُ إلى أبواب العزِ والشرف, ديناً ودنياً, وسائل التاريخ يفتيك عن أيتامٍ فقدوا آباءهم، فكانوا بعد ذلك مَن غيّرَ مجرى الحياة لعقود وقرون.

محمد -صلى الله عليه وسلم- اليتيم الأول في هذه الأمة, فقد أباه, ثم أمه, ثم عمَّه, وهو في كل هذا جبل شامخ, لا تزيده الشدائد إلا شموخاً وثباتاً, فأدبه ربه, فأحسن تأديبه.

ومن بعده أمم وخلائق من كبار الأعلام، ونبلاء الإسلام، عاشوا في كَنَف اليتم, فتولتهم أمهاتهم, لم يهنأوا بعطف الأب, ولم يشعروا بسنده, فهل ضرّهم ذلك؟ وهل أوهن عزمهم؟

كل هؤلاء عاشوا أيتاماً, فغيروا مجرى التاريخ في عزمهم, وقدمت أمهاتهم للأمة رجالاً نفع الله بهم إلى يومنا هذا, قال العباس بن الوليد: "ما رأيت أبي يتعجب من شيء تعجُّبَه من الأوزاعي، فكان يقول: سبحانك تفعل ما تشاء! كان الأوزاعي يتيمًا فقيرًا في حِجر أمه تنقله من بلد إلى بلد، وقد جرى حلمك فيه أن بلَّغته حيث رأيتُه, يا بُني عجزت الملوك أن تؤدب نفسها وأولادها، وأدب الأوزاعيُ نفسَه!".

كلا.

أبو هريرة راوية السنة الأول.

أبو يوسف القاضي شيخ الحنفية.

سفيان الثوري أمير الناس في الحديث.

الشافعي, أحمد بن حنبل, البخاري, الأوزاعي, ابن الجوزي, صقر قريش عبد الرحمن الداخل, ابن حجر, السيوطي, وغيرهم كثير.

وفي المعاصرين: السعدي, وابن باز, وابن عثيمين, وابن إبراهيم, وأحمد ياسين, وغيرهم كثير كثير.

فيا أيها اليتيم, يا من ذقت مرارة الفقد, واشتكيت لوعة فراق الأب, يا من وددت لو متعت بأبيك: لا تحزن فالله قد ادخر لك خيراً, وميدان الحياة أمامك, فأرِ الله من نفسك خيراً, واجعل نفعك يطالُ والدك في قبره, ودعواتِك وأعمالِك تنير عليه قبره.

معشر الكرام: اليتيم مشروع حسنات, وباب خيرات, فمن ينهل ومن يرابح مع الله في الأيتام, وكم من أقوامٍ عبر اليتيم دخلوا الجنة من أوسع أبوابها, وأقوامٍ أوبقوا في النار، ونالوا عذابها, ولا عجب فأكل مال اليتيم من السبع الموبقات, وكفالته من أسباب مرافقة سيد البشر في أعالي الجنات!

يا أيها الموفق: حرّج النبي -صلى الله عليه وسلم- حق اليتيم، فقال: "اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ: الْيَتِيمِ، وَالْمَرْأَةِ".

وتوعد الله بالويل من يدعُّ اليتيم, ويهينه ويغلظ له, وأكد على إكرامه: ﴿كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾ [الفجر: 17].

وأثنى على من أطعمه, وأحسن إليه، فقال عنهم: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾ [الإنسان: 8].

فكان الجزاء العظيم: ﴿فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا﴾ [الإنسان: 11].

بل إن المرء إذا أراد أن يلين قلبه، فعليه بالقرب من الأيتام, في الحديث عند أحمد: "إن أردت أن يلين قلبك، فأطعم المسكين، وامسح رأس اليتيم" [صححه الألباني].

أما أموال الأيتام فباب خطير، ومورد للأجر أو الوزر كبير: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ [النساء: 10].

ولعمري إنه لإنذار يخلع القلوب الحية، وينذر من كان له قلب, فإن قدّر الله لك وتوليت مال يتيم، فكن على وجلٍ أن يَلِجَ جوفَك درهمٌ، بل ذَرّة من ماله بغير حقه, لا تمنعه ماله, ولا تضيعه في غير وجهه, لا تحوجه إلى تكفف الناس وأمواله بيدك, ولا تبسط له كل البسط فيتلف كل ما عنده, وكن عليه كقيمٍ على مالك بل أشد, فإن وفقت لذلك فأبشر.

معشر الكرام: وحين يطلب الناس أعالي الجنة، فإن من رفقاء المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فيها ذلكم الذي كفل يتيماً في دنياه, وفي مقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين".

قال ابن بطال: "حقٌّ على من سمع هذا الحديث أن يعمل به ليكون رفيق النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنة، ولا منزلة في الآخرة أفضل من ذلك".

وما أهنأه من بيتٍ فيه يتيم, فهو خير البيوت, وفي الحديث بسندٍ فيه ضعف: "خَيْرُ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُحْسَنُ إِلَيْهِ، وَشَرُّ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُسَاءُ إِلَيْهِ" [رواه ابن ماجة].

فيا موفق: ها هو الخير أمامك؛ كفالة يتيم تنير لك خيراً, إن بالمباشرة, أو عبر كفالة أيتام المسلمين، وما أكثرهم اليوم, في الداخل والخارج, لا سيما من جراء الحروب التي حلّت بأصقاع من بلاد المسلمين عديدة, فتيتم أطفال، وترملت نساء, وعبر الجمعيات الموثوقة تصل لمبتغاك, وتكفل وأنت في بلدك, واليتيم بين أهله.

ولا أحصي ولا تحصون من تغيرت حاله بكفالة اليتيم, رأيت من رزق الذرية, ورأيت من انفتحت له أبواب الرزق, بعد كفالته ليتيم, وسمعت عمن شفيت من مرضها, ومن بورك له في ماله, ومن فرج الله كربتها, حين كفلوا أيتاماً, أخبارٌ ليست بالأغاليط, ولا بنسج خيال, ولولا ضيق المقام لسقتها, ولا عجب في كل هذا فالله أكرم من عباده.

ومع هذا فحق اليتيم ليس مادياً فحسب, بل إنه أعظم من ذلك, إنه إنفاق, وشعور, وقرب, وحنو, وإرفاد, ونصح, ودعوات, وكلمات موجهة, وابتسامة, ومشاعر صادقة, ومن يطوّق ذلك فقد وفق لخير, ومن قدر على البعض فليبذله.

همسة في أذن الجميع: عدد الأيتام المسلمين بلغوا ملايين الأطفال, في بلاد الشام وحدها أكثر من نصف مليون يتيم, ينادي يتيم المسلمين بالصوت المكلوم ليقول:

أنا الطفل المعذب أنقذونِي *** خذونِي أسعفونِي أطعمونِي

أنا طفل يتيم فِي العراء *** فبيتي خيمتي ثوبِي غطائي

تنام العيْن فِي وقت المساء *** وحتى الفجر ما تغفو عيوني

سؤال كبير بحجم المعاناة: ما نصينا منهم؟ وماذا قدمنا لهم؟

اللهم صل على محمد…

الخطبة الثانية:

معشر الكرام: ليس اليتم صورة واحدة, بل إن بعض صور اليتم أشد من يتم فاقد الأب, فاقد الأبوين, من لم يُعرف نسبه, وجُهلت هويته, يتمه أشد, ومعاناته أبلغ, ولئن كان جرم والديه بخطيئة الزنا أمرٌ ذاق هو منه العنت, فبقي لزيم دور التربية, فإنه هو غير ملوم بذلك, وهو بشرٌ له أحاسيس كولدي وولدك, وما أعظم أجر من احتسب في إدخال سرور على هؤلاء, ومن أحسن إليهم بأي وجه من أوجه الإحسان, ودعواتنا لأقوام نذروا أنفسهم للقيام على هؤلاء وليبشروا بالعوض من رب الأرض والسماء.

أيها الأب:

ليس اليتيمُ من انتهى أبواه مِن *** همّ الحياةِ وخلّفاهُ ذليلاً

إن اليتيمَ هو الذي تلقى له *** أُمًّا تخلّت أو أبًا مشغولاً

إذا غاب الأب خلف تجارته وعقاراته وأصحابه, فمن يقوم مقامه؟ إذا غابت الأم خلف الحفلات والترفيه والصديقات فمن يقوم مقامها؟ كم من أبناءٍ تيتموا وآباؤهم أحياء؟ كم من أبناءٍ فقدوا آباءهم وهم يرونهم صباح مساء, ولكنهم جسوم بلا روح, وأبدان بلا وجدان, الأبوة ليست طعام ولباس, الأبوة تربية, وقوامة, تهذيب وعِيالة, قربٌ وتوجيه, ووقاية للأولاد من النار, فهل نحن في بيوتنا وفي نفوس أبنائنا أحياء -يا أيها الآباء-؟

يا رُبَّ حي تراب القبْر مسكنه *** وربَّ ميْتٍ على أقدامه انتصبا

أيها الأب:

لَيسَ اليَتيمُ الَّذي قَد ماتَ والِدُهُ *** إِنَّ اليَتيمَ يَتيمُ العِلمِ وَالأَدَبِ.

فهل عُني الآباء بإزالة يتم الأبناء بالتربية والأدب والعلم والدين, إنه زرعٌ إن غرسته وسقيته اليوم جنيته غداً, والموفق من أعانه الله.

وبعد -يا أيها الأب-: فلكي لا يذوق أبناؤنا مرارة اليتم، دعونا نؤمن مستقبلهم قبل رحيلنا, أما إني لا أطلب منك أن تردّ أجلاً قضاه الله, كلا!, ولكنّ تأمينَ مستقبلِهم بإصلاح نفسك, ليحفظك الله فيهم, فسيد التابعين قال لولده: "إني أكثر من الطاعات براً بك".

وفي خبر سورة الكهف حفظ الله مال اليتيمين؛ لأن أباهما كان صالحاً, أمِّن مستقبلهم لا بما تخلِّفه من مال, فالمال قد يزول بلحظة, وإنما بصلاحك وحفظك لأوامر ربك, دخل مقاتل بن سليمان على المنصور يوم بويع بالخلافة، فقال له المنصور: عظني يا إمام؟ فقال: أعظك بما رأيت أم بما سمعت؟! قال: بما رأيت، فقال: يا أمير المؤمنين أنجب عمرُ بن عبد العزيز أحد عشر ولداً وترك ثمانية عشر ديناراً فقط، كُفن بخمسة دنانير، واشتُري له قبرٌ بأربعة دنانير, ووزع الباقي على أولاده, وهشام بن عبد الملك أنجب أحد عشر ولداً، وكان نصيب كل ولد من التركة ألفَ ألفِ دينارٍ، والله يا أمير المؤمنين لقد رأيت في يوم واحد ولداً من أولاد عمر يتصدق بمائة فرس للجهاد في سبيل الله، وأحد أولاد هشام يتسول في الأسواق!

اللهم وفقنا للخير، وأصلح أحوالنا، ولين قلوبنا.