التقوى والورع

عناصر الخطبة

  1. تلازم الصبر مع التقوى
  2. حب الرياسة والشرف
  3. حب الظهور وشهوة الكلام
  4. علاج الشهوات والشبهات
  5. ورع الإمام النووي
  6. قصص في الورع
اقتباس

والورع أول ما يظهر في قضيتين: قضية الرئاسة، وقضية المال، وفي الحديث الصحيح: “ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على الشرف والمال لدينه”. أي شبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذين بالذئبين الجائعين، الحرص على الشرف ذئب، والحرص على المال ذئب آخر، وهما ينطلقان في ليلة شاتية باردة، والغنم متنافرة، يفترسان دين الإنسان وورعه ..

يا من رضيتم بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا ورسولاً: اعلموا أن الله قد أنزل في محكم التنزيل بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [آل عمران: 120]، ويقول الله -عز وجل- على لسان يوسف -عليه السلام-: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف:90]، ويقول الله -عز وجل-: ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ [آل عمران: 125].

فالصبر جُمع مع التقوى في أماكن كثيرة من القرآن الكريم، والتقوى والصبر عمودان لازمان لحماية الإنسان من شرور أعدائه، فلابد من التقوى أن يتدرع بها، ومن الصبر أن يتدثر به؛ من أجل أن يتم المطلوب، ويصل إلى الهدف.

وقد تكلمنا في خطبة سابقة عن الصبر، وفي هذا اليوم نتكلم عن التقوى التي من أنضج ثمراتها الجانية الدانية: الورع.

لقد وضح الإسلام على لسان رسوله –صلى الله عليه وسلم- أن: "الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات –أو مشابهات– فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه". فمجال الورع هو مجال الشبهات، والتقوى والورع بالنسبة للرجل إنما يعرفان عند الشبهات؛ فكلما كان التوقي مستمرًا والحذر دائمًا، والمراقبة متواصلة، كان الورع أرفع وأعلى.

والورع أول ما يظهر في قضيتين: قضية الرئاسة، وقضية المال، وفي الحديث الصحيح: "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على الشرف والمال لدينه". أي شبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذين بالذئبين الجائعين، الحرص على الشرف ذئب، والحرص على المال ذئب آخر، وهما ينطلقان في ليلة شاتية باردة، والغنم متنافرة، يفترسان دين الإنسان وورعه.

وآخر ما يخرج من قلب الإنسان حب الرياسة والشرف، وهو مهلكة، وكم من النفوس تردّت، وكم من الناس سقطوا في هوّة سحيقة بسبب حرصهم على الشرف أو المرتبة والرئاسة، ولذا فحب المال أخف من حب الرياسة، والورع من الذهب والفضة أخف من الورع على حب الرياسة؛ لأن الذهب والفضة إنما يدفعان ويبذلان للرئاسة، وآخر ما يخرج من قلب الإنسان من حظوظ وشهوات هو شهوة الظهور والرئاسة، وكم ضاع من الأموال على هذا الطريق، وكم هلك من المسلمين، وكم تمزقت من الدول، وكم ضاعت من الممالك؛ كل ذلك بسبب حرص واحد أو اثنين أو ثلاثة على حب الرئاسة، آخر ما يخرج من قلب المؤمن هو حبه الظهور.

وحب الظهور كم قصم من الظهور، فكان المسلمون الأوائل الذين يُضرب بهم المثل في الورع يتَوقّون هذا المنزلق الخطير، وهذا المنحدر الصعب، وهو حب الظهور الذي يخالط القلوب دائمًا إلا من رحم الله وعصم، وإلا من وقى الله ومنع، وحمى قلبه من أن يغرق في هذا الحظ الذي قلما تتخلص النفس منه إلا عند لقاء ربها.

والورع إنما يتمثل في توقي السيئات، وفي محاولة وقاية الحسنات ووقاية الإيمان كذلك، وقاية النفس مما يشينها ويعيبها أمام رب العالمين وأمام ملائكته المكرمين، وكلما زادت المراقبة خفّت المعاصي، وقلّت الذنوب، وتناقصت السيئات، واتقوا الله؛ فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء أو عندما يفضي الرجل إلى أهله، فاتقوا الله وأكرموهم، وأكرموهم بحسن الخلق، وإن الله يغار وغيرة الله أن يرى عبده على المعاصي، دع نفسك مما يشينها.

وأعلى مراتب هذا المقام هو البعد عن التوسع في المباحات، وترك ما لا يعنيه من الأمور، وجماع الأمر في هذا كما قال –صلى الله عليه وسلم-: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، وكم من الناس يشتغلون فيما لا يعنيهم، فيفرقون جماعات، ويمزقون أسرًا، ويشتتون أحبة؛ كل ذلك لأن عنده شهوة الكلام، لأن عنده شهوة، يريد أن يتكلم، ولا يستطيع أن يتخلص من هذه الشهوة، فهو يتّبع الشبهات، ويتكلم فيما لا يعلم حقه، ويثرثر فيما يظن: و"كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع".

وأما الظنون: ﴿إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ [يونس:36]، و﴿إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ [الحجرات: 12]، فكيف إذا كان الكلام في الحرمات مبنيًّا على الظنون والشبهات!!

إن شهوة الكلام فيما لا يعنيك أمرٌ خطيرٌ، يأكل حسناتك كما تأكل النار الحطب: "وإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً، فيهوي بها في النار".

إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً، يقولها وهو يضع رجلاً على رجل، ويحتسي القهوة والشاي، ولكنه يريد أن يملأ فراغه، فلا يملأ فراغه بذكر أو تلاوة أو عبادة، إنما يملأ فراغه بأكل لحوم إخوانه، بتمزيق الحرمات، بانتهاك الحدود، وهو لا يملك من الحسنات إلا قليلاً، فدع نفسك عما يشينها.

إذا شـئت أن تـحيا سليمـًا من الأذى *** وحظـك موفورٌ وعرضك صيّن لسانك لا تذكر بــه عـورة امـرئ *** فكلـك عـوراتٌ وللناس ألسن وعيـنـك إن أبـدت إليـك معايبـًا *** لقومٍ فقل يا عين للنـاس أعيـن فصاحب بمعروف وسـامح مـن اعتدى *** وفارق ولكن بالتي هي أحسـن

يأتي إليك فتسأله عن فلان؛ تريد أن تتثبت منه، تريد شهادة ممن يعرفه، فيقول لك: هو رجل طيب وصالح، ولكنه يفعل كذا، وكذا، وكذا، ﴿لكن﴾ هدّم بها بنيانه، وهدّم بها أركانه، ومزق بها حرماته، ولم يبق له في نظرك أي شيء، هو بدأها: رجل طيب صالح. ولكن، ولكن، ولكن، ثم يتكلم لك من السيئات ما لا يعلمه إلا الله -عز وجل-، منها ما هو عالم به يقينًا، وأكثرها شبهات وشهوات نفس؛ لأنه لا يرضى عنه، لا يعجبه هذا المرء؛ في طعامه أو شرابه أو طريقة كلامه، ثم يمزقه تمزيقًا، ليشبع شهوة الحقد والغضب في نفسه يطفئها بنار، نار على نار، نار الحقد، ونار الغيبة التي أكلت بها حسناته، ولذا قال -صلى الله عليه وسلم-: "أتدرون من المفلس؟!"، قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: "المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة، وزكاة، وحج، وصيام، ويأتي وقد شتم هذا، وأكل مال هذا، وطعن هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طُرح في النار".

وليس في صندوقك من الحسنات إلا الزاهد اليسير، فلماذا تقدم على حسناتك وتحرقها بكلمات هي كما قال –صلى الله عليه وسلم- مما لا يعنيك: "من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه".

قيل: إن أحد الصالحين سأل عن صاحب قصر رآه: لمن هذا القصر؟! ثم تذكر هذا الحديث: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، فصام سنة كاملة تكفيرًا لهذا؛ لأنه سأل عن صاحب القصر، فكيف الذي لسانه يلغ ليل نهار في الحرمات، ويتتبع الشبهات، ولا يدع مسلمًا عامّيًا أو عالمًا أو أمّيًا إلا وقد مزق لحمه بين أسنانه، وولغ في عرضه بلسانه، كيف يلقى الله عز وجل؟!

اعلم يا أخي –كما قال ابن عساكر وجاء بها على لحوم العلماء- "أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار من أكلها معلومة، ومن أطلق لسانه على الناس بالثلب أصابه الله بداء موت القلب"، "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"، دع الشبهات، دع المناطق المباحات حتى ترتفع إلى مقام الورع ومقام التقوى، من أجل أن يحميك الله من أعدائك، ثم تذكر القاعدة التي قالها رب العزة في كتابه: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ [الحج: 38].

"من عادى لي وليًّا فقد بارزته بالحرب"، فهل تطيق حرب رب العالمين؟! هل تطيق مبارزة قاهر السموات والأرض؟! فما بالك يا أخي؟! ألا تتذكر آخرتك؟! ألا تذكر يوم أن تعرض على ربك؟! ألا تذكر الموازين وضغطة القبر؟! ألا تتذكر العقارب والثعابين؟! ألا تذكر الصراط المنصوب على جهنم؟! وكم من الناس قد سقطوا عن الصراط، ويسقطون من أجل حقوق الناس التي لا تضرك ولا تنفعك، وإنما تتبعتها، وانتهكتها، وبخستهم حقوقهم من أجل شهوة انتقاص الآخرين في نفسك، وحب انتقاص الآخرين نقص عندك، والنفس الناقصة لا تحب إلا أن تنتفش، وإلا أن تنتقص، وإلا أن تبخس الموازين، وإلا أن تهضم حقوق الناس، وأن تبطر الحق، وأن تغمط الحق.

في المرحلة الأولى من مراحل الورع: هي البعد عن السيئات، وانتبه إلى المناطق المزروعة بالألغام؛ مناطق المباحات والشبهات، ومن اتقاها فقد استبرأ لدينه وعرضه، أرأيتم كيف يحافظ الإنسان على ثوبه أن لا يتلطخ بالبول والبراز والنجس عندما يكون في أرض نجسة؟! فاستبرئ لدينك، واستبرئ لعرضك، واستبرئ لقلبك، ونقِّ قلبك؛ ولا ينقيه إلا الورع، ولا يمكن أن يصبح الإنسان إمامًا في الدين، وأن يتقبل كلامه من المتقين إلا إذا اتقى الشبهات والشهوات.

فاتقاء الشبهات علاجه اليقين، واتقاء الشهوات علاجه الصبر، وبالصبر واليقين يبلغ الإنسان إمامة المتقين؛ ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة:24].

فعليك باليقين الذي يطرد الشبهات، لا تتكلم بكلمة لا تقطع بصحتها، ولا تتكلم بكلمة قطعت بصحتها إلا إذا كانت خيرًا، وإذا تردد الأمر بين الخير والشر فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك، ودع الشبهات حتى ترتقي إلى مقام الأئمة التقاة.

ثم الورع بالنسبة للحسنات؛ لتكثيرها ووقايتها من الاحتراق، ثم الورع للإيمان؛ لأن الأعمال الصالحة كلما ازدادت ازداد الإيمان، وهذا الذي اتفق عليه جمهور أهل السنة والجماعة: أن الإيمان ما وقر في القلب وتكلم به اللسان، وعملت به الأركان، تزيده الطاعة، وتنقصه المعصية، ولذا كلما دخل الإنسان في ساحة الشبهات والشهوات، كلما ازدادت السيئات، والسيئات تطفئ نور القلب؛ كما قال الإمام مالك للشافعي –رحمهما الله جميعًا– عندما رآه لأول مرة، قال: "يا غلام: إني أرى أن الله قد ألقى على قلبك نورًا فلا تطفئه بظلمة المعصية"، ويقول الله -عز وجل-: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين:14].

والران هو عبارة عن الغلاف الأسود الذي يحيط بالقلب بسبب النكات السوداء، إذ في الحديث الصحيح: "إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو على قلبه، وهو الران الذي ذكر الله تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾". وهكذا، وهكذا، حتى يتغلف القلب بغلاف أسود، وذاك هو الران، ويصبح القلب كما جاء في بعض الروايات "كالكوز مُجخّيًا، أي لا يستقر به ماء، كذلك القلب إذا غلف بالران، وإذا ازدادت السيئات لا يستقر به أي نور، ولا حسنة، ولا خير، ولا بر، ولا حكمة، ولا علم، إنما هو فارغ للشيطان يذرعه ذهابًا وإيابًا.

وقد جاء في روايات عن السلف ما لا يصدقه العقل من ورعهم وتقواهم، حتى نقلوا أن الإمام النووي مكث في الشام وعاش فيها ومات، ولم يذق ثمارها، وعندما روجع في هذا قال: "إن هنالك بساتين موقوفة قد ضاعت، وأخشى أن آكل مال الوقف".

ولذا لورعه كم فتح الله عليه! لقد نقل الكثير عن النووي أنه انطفأ المصباح ذات مرة لخلاص زيته عنه، وإذا بأصابعه تنير له ليكتب عليها. لقد ألف مؤلفات لا يصدق العقل أن هذه مؤلفات بشر، كتبٌ بعضها مقرر في قسم الدكتوراه، والماجستير، والدراسات العليا؛ في السنة لا يكاد الإنسان يقرأ منها العشرات من الصفحات.

حسبوا للنووي أنه كان يؤلف في كل يوم من أيام حياته ملزمة، قسّموا ما ألفه على أيام حياته منذ ولادته حتى وفاته؛ إذ إنه لم يعمّر سوى اثنين وأربعين عامًا، قسّموا صفحات كتبه على أيام عمره، فخرج لكل يوم ملزمة من التأليف.

والورع يورث قوة القلب، ويورث العزة، وعندما طلب الظاهر بيبرس فتوى: أن يجمع المال لشراء السلاح أفتاه علماء الشام إلا النووي، فعاتب الظاهر بيبرس النووي على هذا، قال: "أنا أريد أن أصد أعداء الله وأحمي حوزة الإسلام وبيضته، وأنت لا تعطيني فتوى أن أجمع المال من أجل شراء السلاح؟! قال له: "لقد جئتنا عبدًا مملوكًا لا تملك من الدنيا شيئًا، وأنا أرى لك اليوم الغلمان والجواري والقصور والضّياع، فهذه ليست أموالك، فإن بعت هذا جميعًا ثم احتجت بعد ذلك لشراء السلاح فأنا أفتيك أن تجمع من أموال المسلمين"، قال: اخرج من الشام. فخرج من الشام إلى نوى، وجاء علماء الشام للظاهر بيبرس وقالوا: لا غنى لنا عن محيي الدين النووي، قال: أرجعوه. وذهبوا إلى نوى في حوران وقالوا له: ارجع فقد سمح لك الظاهر أن ترجع إلى الشام، قال: "والله لن أدخلها والظاهر فيها".

عزة، رفعة، قمم، ما الذي جعل هذه القلوب تقف هذه المواقف؟! ما الذي جعل هذه النفوس تعلو هذه الذرى؟! ما الذي جعل هذه الأفئدة ترتقي هذه القمم؟! إنه الورع الذي يصنع به –بإذن الله– يصنع به العزة، ويصنع به القوة.

والقلب الورع قلب جسور، شجاع، قوي، عزيز. وأما قلوب أصحاب الشهوات والشبهات فهي ضعيفة، مريضة، ترتجف لشرطي يمر في الشارع، تظنه يراقبها أو يكتب عنها ورقة يقدمها.

أما أصحاب القلوب العظيمة، أصحاب الصدور المنشرحة، أصحاب النفوس التي تربت على الحلال، على الورع، فهذه قلوب عظيمة قوية، وأنى للأسود أن يكون لها قلوب بشجاعتها، وبرّ الله بقسم النووي، ولم يمضِ سوى شهر حتى مات الظاهر، وعاد النووي إلى الشام.

جاءت أخت بشر الحافي إلى الإمام أحمد، قالت له: يا إمام: أوَ يجوز لي أن أغزل على نور الظالمين؟!

كان الزعماء والكبراء في ذلك الوقت يضيئون أسرجة كبيرة ومصابيح عظيمة في بيوتهم تضيء المنطقة حولهم، فجاءت لتسأل: أوَ يجوز لي أن أنسج، وأن أغزل على مثل هذا النور؟! قال: من أين هذه؟! قالوا: هذه أخت بشر الحافي، قال: "من بيتكم خرج الورع". هؤلاء النماذج القليلة هي التي حفظت الإسلام.

ولقد أعجب الحسن البصري عندما سأل غلامًا قال له: يا غلام: ما ملاكُ الدين؟! قال: الورع، قال: وما هلاك الدين؟! قال: الطمع. كم أهلك الطمع من أديان الناس!! وكم أضاع من آمال تمنتها الأمة وبذلت من أجلها!! وكم ضاع من الدعاة بسبب الدنيا والطمع فيها!! وما حفظ الإسلام على مرّ التاريخ سوى ورع الصالحين، وزهد المتقين، وأنت تعرف الإنسان عندما تعامله فتشعر بورعه عند معاملته بالدرهم والدينار، وعندما تلوح بارقة من بوارق الزعامة والرئاسة، ونرجو الله -عز وجل- أن يطهر قلوبنا منها، ونرجو الله -عز وجل- أن لا يبقى لنفوسنا حظًّا في نفوسها، عندما تلوح بارقة يُضّحي بكل القيم، بارقة طمع في زعامة أو رياسة؛ يُضّحي بكل القيم والمقدسات، يرى الناس يُقتّلون أو يُذبّحون، ويرى الناس فقراء ويتسولون، ومع ذلك شغله الشاغل، وعمله العامل ليل نهار، كيف يحافظ على منصبه هذا الحقير التافه الزهيد الذي لا يساوي من الدنيا شيئًا، فكيف من الآخرة!! "ما الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع"، وماذا يحمل الإصبع من ماء البحر؟! و"ما الدنيا في الآخرة إلا كموضع سوط أحدكم في الجنة". وماذا يساوي موضع السوط في الجنة!! وأقل الناس في الجنة –في رواية مسلم– له ضعف مساحة الأرض، وفي رواية أحمد له عشرة أضعاف مساحة الأرض، فاتقوا الله وانتبهوا لقلوبكم، ودعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم، وانتبهوا إلى ما يدخل في أفواهكم وما يخرج منها، وأهم ما يحميكم منها: الفم والفرج فيدخلكم الجنة، وفي الصحيح "من يكفل لي ما بين لحييه وما بين رجليه أكفل له الجنة".

احفظ فمك من المحرمات الداخلة، ومن الشبهات النازلة، ومن الكلام الخارج، واحفظ فرجك من الزنا يدخلك ربك الجنة، ونرجو الله أن لا يحرمنا الجنة.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله ثم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، سيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

لقد عاش فوق هذه الأرض صالحون، وفي الأرض الآن صالحون، ولكن أين أصحاب الورع؟! أين الذين تخلصوا من الطمع؟! أين الذين تخلصوا من إيثار الدنيا؟! أين الذين يقفون عند حدود الشبهات والشهوات؟!

قال الصحابة –رضوان الله عليهم–: "تركنا تسعة أعشار الحلال خوفًا من الحرام". اجعل بينك وبين الحرام فسحة، فسحة من الحلال، حتى تستبرئ لدينك وعرضك، حتى تبرئ قلبك.

وكلما كثر أصحاب الورع في المجتمعات، حيت وظهرت، وكلما قلّ أصحاب الورع في المجتمعات، اندثرت وبادت، فانتبه يا أخي، وقد أكرمك الله -عز وجل- بالوصول إلى هذا المقام، ونرجو الله -عز وجل- أن لا يحرمك من أجر الرباط، وأن لا يحرمك من أجر الجهاد، فانتبه إلى نفسك، وانتبه إلى قلبك، وإياك وذئب الشرف وذئب المال، ذئب حب الشرف –أي المكانة–، وذئب حب المال؛ فإنه أهلك لدينك من إهلاك ذئبين جائعين أرسلا في غنم في ليلة شاتية: "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم، بأفسد لها من حرص المرء على الشرف والمال لدينه".

نعم، هنالك أناس ورعون، ولكنهم قليلون، كنت أراهم ينفقون الآلاف المؤلفة، بل الملايين، ولكنهم عند درهم واحد ليس لهم أو يشتبهون به يقفون كثيرًا، يقفون أن يدخلوا بطونهم منه شيئًا، كنت أراهم ينفقون على الجهاد مئات الألوف بل ملايين من الروبيات، ولكنهم على أنفسهم، وعلى أهلهم لا يكادون يدفعون إلا بالقطارة، والمال مالهم، وهو جهدهم، ولكنهم يحبون أن يعاملوا أنفسهم بالشدة.

أعرف أخًا كان مندوبًا في إحدى المؤسسات، أو كان مندوبًا هنا في الهلال الأحمر السعودي، كانت زوجته تطلب منه الأغراض فيقول: نحن لا نحتاج لهذا، ولا نريد أن نتوسع بالمباحات، وهو يدفع كل يوم ألف ريال بدل انتدابه للجهاد الأفغاني، فكان إذا اشتد طلب زوجته لأغراضه، تقول له: احسبنا كما تحسب الأفغانيين، وعاملنا كما تعامل الأفغانيين، وهب أننا من الأفغانيين، فتصدق علينا كما تتصدق على هؤلاء. الورع في معاملة النفس، ولذا ترك البلد وله في كل قلب مكانة، وما وطئ مكانًا إلا –والحمد لله– ترك فيه خيرًا، ولقد كان هذا التغيير بالنسبة للمهاجرين والمجاهدين كان له –بفضل الله– بعض الآثار فيه.

أيها الإخوة: انتبهوا إلى أنفسكم، انتبهوا إلى قلوبكم، انتبهوا إلى الشهوات والشبهات حتى ترتقوا إلى مقام الأئمة التقاة، وهو سهلٌ، وجماعه وعماده: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"، و"من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، استمع كثيرًا، وتحدث قليلاً تنجُ، لا تتوسع في المباحات، واكتفِ ما استطعت بالضرورات، واجعل المال الفائض بين يديك في سبيل الله، وانظر كم يغدق الله عليك من الخيرات.