البكاء والخشية

عناصر الخطبة

  1. مفهوم خاطئ عند الناس عن البكاء
  2. أحوال بكى فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
  3. فضل البكاء من خشية الله
  4. أنواع البكاء
  5. أنواع التباكي
اقتباس

فليس بصحيح بأن البكاء يدل على ضعف الرجل وخوره، وأنه من الصفات الخاصة بالنساء. وقد عُرف عن… يقول ابن القيم: فاستشكل ذلك عليّ، فسألت شيخنا شيخ الإسلام. فقال شيخ الإسلام: إن حال الرسول أكمل وأعلى لأنه جمع بين الرحمة -وهي الدمعة التي خرجت منه- وبين التسليم للقضاء والقدر، أما هذا فعمله تصنّع ولم…

الخطبة الأولى:

أما بعد:

من جملة المفاهيم التي تغيرت في دنيا الناس اليوم، وقد يستغرب بعضكم هذا المفهوم، وربما يقول: وهل يستحق مثل هذا الموضوع أن يكون موضوعًا لخطبة جمعة؟! ألا وهو مفهوم البكاء.

يظن البعض بأن البكاء لا يصدر إلا من ضعيف، وأن البكاء من خصال وصفات النساء، وأن الرجل القوي الشجاع لا يبكي، وكل هذا غير صحيح. فاسمع -أخي المسلم- شيئًا عن البكاء؛ قال الله تعالى مادحًا بعض عباده المؤمنين، وهم أولئك الذين يتأثرون إذا تليت عليهم آيات الرحمن، فبكوا من خشية الله: ﴿قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً(109)﴾ [الإسراء:107-109]، وقال -عز وجل-: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً﴾ [مريم:58].

ولقد كان أقوى الناس وأشجع الناس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبكي في بعض المواطن، وكانت عيناه تهملان بالدموع أحيانًا، ويسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل، فكان أحيانًا يبكي في الصلاة كما في سنن أبي داود بسند صحيح عن عبد الله بن الشِّخيّر -رضي الله عنه- قال: "أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء".

وتارة كان يبكي رحمة للميت، عند عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "قبَّل عثمان بن مظعون وهو ميت وهو يبكي وعيناه تهرقان". ولما مات ولده إبراهيم دمعت عيناه وبكى رحمة له وقال: "تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون".

وشهد -عليه الصلاة والسلام- جنازة إحدى بناته فجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حافة القبر يقول أنس بن مالك -رضي الله عنه- راوي الحديث: فرأيت عينيه تدمعان. ثم قال -عليه الصلاة والسلام-: "أفيكم رجل لم يقارف الليلة؟!". يعني الجماع، فقال أبو طلحة: أنا يا رسول الله، فقال: "انزل"، فنزل إلى قبرها.

وتارة كان بكاءه -عليه السلام- خوفًا على أمته وشفقة عليها، كما في الصحيح أنه انكسفت الشمس فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصلى صلاة الكسوف وجعل يبكي في صلاته وينفُخ ويقول: "رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم! رب ألم تعدني ألا تعذبهم وهم يستغفرون! ونحن نستغفرك".

وتارة كان بكاؤه إذا سمع القرآن، وذلك لما طلب من عبد الله بن مسعود أن يقرأ عليه القرآن، فقال له عبد الله: أقرأ عليك وعليك أنزل!! قال: "إني أحب أن أسمعه من غيري"، يقول عبد الله بن مسعود: فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت قوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً﴾ [النساء:41]، قال: فرأيت عيني رسول الله تهملان.

فليس بصحيح بأن البكاء يدل على ضعف الرجل وخوره، وأنه من الصفات الخاصة بالنساء. وقد عُرف عن صديق هذه الأمة أنه كان رجلاً بكاءً لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن.

بل قد يبكي الرجل في موطن النعمة المسداة من الله، كما بكى أبو بكر -رضي الله عنه- عندما خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال في خطبته: "إن الله خير عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله". يقول راوي الحديث: فعجبنا لبكائه. فالصديق لم تخرج دموعه هنا إلا عندما استشعر حقيقة فقدان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنه قد قرُب أجله، فخرجت تلك الدمعة الصادقة تعبر عن نفسها وكان لسان حاله يقول:

أحرَّ البكائين البكـاء المـولج *** وأنت لأذيال الروامس تدرج فليـس بها للصـالحين مُعرّج *** فتصبـح في أثـوابها تتـبرج عليك وممدود من الظل سجسج فليس البكا أن تسفع العين إنما *** أتمنـعني عني عليـك بـدمعة عفـاءُ على دار رحلت لغيرها *** لمن تستجد الأرض بعدك زينةً سلام وريحان وروح ورحمة

أيها الأحبة في الله: نعم إننا نبكي أحيانًا، ويمر على جميعنا بعض المواقف تخرج الدموع أحيانًا، لكن أقولها صريحة لكم: بأن غالب بكائنا إنما على أحوالنا الشخصية، يبكي أحدنا لو توفي أبوه، أو ولده، أو لو جاءه خبر مفرح فمن شدة الفرح يبكي. وكل هذا ليس فيه عيب، بل من الطبيعي أن البشر يبكون في مثل هذه الحالات.

يقال بأن رجلاً توفي له ولد في زمن الإمام ابن القيم -رحمه الله-، فصار هذا الرجل يوزع الحلوى على الناس ويضحك وهو مسرور. فجاؤوا يسألون ابن القيم عن حال هذا الرجل وأنه كيف بلغ من قمة الإيمان، وكمال التسليم أنه لم يتأثر بموت ولده، بل وكان يوزع الحلوى، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما مات ولده إبراهيم بكى.

يقول ابن القيم: فاستشكل ذلك عليّ، فسألت شيخنا شيخ الإسلام. فقال شيخ الإسلام: إن حال الرسول أكمل وأعلى لأنه جمع بين الرحمة -وهي الدمعة التي خرجت منه- وبين التسليم للقضاء والقدر، أما هذا فعمله تصنّع ولم تظهر عليه آثار الرحمة.

فالمقصود أن البكاء الطبيعي في مثل هذه المواطن ليس بعيب وليست منقصة.

لكن البكاء في المواطن التي جاء الشرع بالثناء والمدح لأهلها قليل ومع الأسف، قليل بين الناس عامة، وبين الرجال والشباب المؤمنين الأتقياء، الذين يحملون راية الإسلام خاصة. نعم نبكي عند وفاة قريب وفقدان حبيب، لكن أين شباب الإسلام، وأين شباب الدعوة الذين يبكون من خشية الله؟! تخرج وتنزل دموعهم خوفًا من الله -عز وجل-.

قال البخاري -رحمه الله-: باب البكاء من خشية الله. ثم ساق حديث السبعة الذين يظلهم الله، يوم لا ظل إلا ظله، وذكر منهم ذلك الرجل الذي ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه.

روى الترمذي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله".

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يلج النار رجل بكى من خشية الله تعالى حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع على عبد غبار في سبيل الله تعالى ودخان جهنم".

أين الشباب الذين يبكون وتنهمر دموعهم عند سماع آيات الله؟! ﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال:2].

والله نزل أحسن الحديث كتابًا متشابهًا مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله.

أين حملة الإسلام الذين إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين؟!

أين الرجال الذين يسمع لصدورهم أزيز كأزيز المرجل إذا ما وقفوا بين يدي الله في الصلاة؟! من منا يبكي إذا سمع بآلام وجراحات المسلمين في أي مكان من الأرض؟! كم سمعنا وربما شاهدنا عبر الصور مجازر للمسلمين، ومذابح للأبرياء شيوخاً وأطفالاً ونساءً، تدمر على رؤوسهم أحيانًا بيوت الله -عز وجل-، وقليلٌ المتأثر، وأقل من القليل الذي يبكي على هؤلاء.

من منا بكى فرحًا لله -عز وجل- عندما سمع بنصر للإسلام حُقق هنا أو هناك!! نصرًا ماديًا أو نصرًا معنويًا!! من الذي يبكي لو فقدت الأمة أحد علمائها أو مصلحيها وتأثر حقيقة كما يتأثر لو فقد أحد أهله وأقربائه!! أيًا كان هذا الفقد، إما بموت أو بغيره، أين الذي يبكي ويتأثر ويتقطع قلبه، عندما يرى أو يسمع بأن شريعة الله تحارب، وأن دين الله يقاوم، وأن المسلمين يضيق حتى على أنفاسهم الذي يتنفسون، وطعامهم الذي يأكلون، وشرابهم الذي يشربون، وثيابهم الذي يلبسون. وإنا لله وإنا إليه راجعون.

فاتقوا الله -أيها المسلمون-، كفانا قسوةً، وكفانا غلظة وتحجرًا، نبكي لأمورنا الشخصية ولا نبكي في المواطن التي يفترض في شباب الإسلام أن يكون قدوة لغيرهم فيه.

أيها المسلمون: عندما نطالب الناس بشكل عام، وشباب المسلمين الدعاة منهم إلى الله بشكل خاص، أن يبكوا أو حتى يتباكوا على ما مضى من أمثلة فإنا لا نعني ولا نقصد ولا نريد أن يفهم أحد أن الذي نريده هو البكاء فقط، أو البكاء لأجل البكاء، كأن نجلس في بيوتنا نبكي على مذبحة تحصل للمسلمين، أو نبكي على فقد وخسارة عالم أو مصلح، أو نبكي على تضييق للدعوة يحصل في أي مكان من الأرض، فإن هذا غير مقصود، بل إن هذا لا يجدي ولا يغير من الأمر شيء، لكن نريد أولاً تأثر القلب، وتحرك الشعور، وأن يصاحب ذلك دمعة صادقة فحسن، لكن المهم وهو المطلوب سواء حصل البكاء أم لم يحصل التفاعل مع أحوال المسلمين، التأثر لواقع الأمة، والتقديم لخدمة الدين، أيًا كانت هذه الخدمة، وأيًا كان هذا التفاعل، وكل بحسب طاقته وما أعطاه الله من قدرات وإمكانيات، هذا يقدم مالاً وتبرعًا، وآخر يساهم بنفسه ووقته، وثالث يرفع يديه بالدعاء وهكذا. لكن البكاء لوحده، والبكاء من أجل البكاء، فإن هذا لا يفيد ولا يجدي وغير مقصود.

نسألك اللهم أن تعجّل بفرج أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-.

الخطبة الثانية:

أما بعد:

أيها المسلمون: يقول الإمام العلامة، شمس الدين ابن القيم -رحمه الله-: "والبكاء أنواع:

الأول: بكاء الرحمة والرقة.

والثاني: بكاء الخوف والخشية.

والثالث: بكاء المحبة والشوق.

والرابع: بكاء الفرح والسرور.

والخامس: بكاء الجزع من ورود المؤلم وعدم احتماله.

والسادس: بكاء الحزن.

والفرق بينه وبين بكاء الخوف أن بكاء الحزن يكون على ما مضى من حصول مكروه أو فوات محبوب، وبكاء الخوف يكون لما يتوقع من المستقبل من ذلك، والفرق بين بكاء السرور والفرح وبكاء الحزن، أن دمعة السرور باردة والقلب فرحان، ودمعة الحزن حارة والقلب حزين.

والسابع: بكاء الخور والضعف.

والثامن: بكاء النفاق، وهو أن تدمع العين والقلب قاسٍ، فيظهر صاحبه الخشوع وهو من أقسى الناس قلبًا.

والتاسع: البكاء المستعار، والمستأجر عليه، كبكاء النائحة بالأجرة. فإنها كما قال عمر بن الخطاب: "تبيع عبرتها وتبكي شكو غيرها".

والعاشر: بكاء الموافقة، وهو أن يرى الرجل الناس يبكون لأمر ورد عليهم فيبكي معهم، ولا يدري لأي شيء يبكون، ولكن يراهم يبكون فيبكي.

وما كان منه مستدعىً متكلفًا فهو التباكي، وهو نوعان: محمود ومذموم، فالمحمود أن يستجلب لرقة القلب ولخشية الله، لا للرياء والسمعة، والمذموم: أن يجتلب لأجل الخلق.

وقال عمر للنبي -صلى الله عليه وسلم- وقد رآه يبكي هو وأبو بكر في شأن أسارى بدر: أخبرني ما يبكيك يا رسول الله، فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد تباكيت لبكائكما. ولم ينكر عليه -صلى الله عليه وسلم- ذلك. وقد قال بعض السلف: "ابكوا من خشية الله، فإن لم تبكوا فتباكوا".

أيها الأحبة في الله: بقيت نقطة أخيرة، نختم بها هذا الموضوع، وهو أن بكاء الشخص أحيانًا لا يكون دليلاً على صدق حاله أو مقاله. ويدل على ذلك قوله تعالى في سورة يوسف: ﴿وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ﴾ [يوسف:16]، فإن إخوة يوسف تصنعوا البكاء ليصدقهم أبوهم، مع أنهم كانوا كاذبين فيما يقولون. وهناك من الخلق من يقدرون على ذلك وهو إخراج دموع حقيقية، لكن كذبًا ودجلاً، وقليل من الناس من يميز صدق هذا من كذبه، بل إن الغالب في العامة من تخدعه هذه الدموع.

كم في الأمة الآن من يتباكى أمام الناس على الإسلام، ويتكلم باسم الإسلام، وهي في حقيقتها دموع التماسيح!! لكن نقول بأن هذه الدموع وإن انطلت على العوام، فإن هناك من يبين هذه الأشياء، كما قال حكيم:

إذا اشتبكت دموع في خدود *** تبين من بكى ممن تباكى

يذكر أنه كان هناك رجل يصطاد العصافير والطيور، ثم يمسكها ويكسر أرجلها وأجنحتها ثم يتركها، وكان هذا عمله دائمًا، وفي إحدى المرات اصطاد مجموعة من هذه العصافير وكان يومًا باردًا، ومن شدة البرودة وشدة الرياح كانت عيناه تدمعان، وهو يكسر الأرجل والأجنحة.

فتقول إحدى العصافير لزميلتها وهما ينتظران دورهما في الكسر.

انظري إلى رحمة هذا الرجل ورقة قلبه علينا وكيف أنه يبكي وعيناه تدمعان.

فتجيب الأخرى، لا تنظري إلى دمعة عينيه، ولكن انظري إلى ما تفعل يداه.

قال الله تعالى: ﴿وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ﴾ [يوسف:16].

اللهم آمنا في أوطاننا.