وقفات حول شهر رجب

عناصر الخطبة

  1. تفضيل الله لبعض الأزمنة على بعض
  2. شهر رجب بين الغلو والجفاء
  3. ما يصح وما لا يصح في فضل شهر رجب
  4. فضل الأشهر الحرم
  5. وجوب مراعاة حرمة الأشهر الحرم
  6. حكم القتال في الأشهر الحرم
  7. حكم الذبيحة والصوم والاعتمار في رجب
  8. حكم الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج
  9. التنبيه على بعض الأحاديث في شهر رجب.
اقتباس

فإن الله -تعالى- بحكمته فضل بَعْضَ الْأَيّامِ وَالشّهُورِ عَلَى بَعْضٍ كما فضل بعض الأمكنة على بعض،.. فلا مدخل للبشر في هذا التفضيل؛ لأن الله هو الدهر بيده الأمر يقلب الليل والنهار، وهو سبحانه خالق الزمان والمكان، ونؤمن بكمال ربوبيته وحكمته وعلمه. ومن هذه الأزمنة – أيها الإخوة – شهر رجب الذي بزغت شمسه اليوم، وهذا الشهر وقع الخلط فيه، بين غلو فيه فأثبتت فيه من الفضائل ما لا يصح، وبين جفاء عنه حيث جهلت بعض فضائله التي يحسن العلم بها، وحتى نسلم من هذين المزلقين فإننا نتحدث اليوم عن هذا الشهر ببيان ما يصح فيه وما لا يصح، في مسائل:

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله .. أما بعد:

فإن الله -تعالى- بحكمته فضل بَعْضَ الْأَيّامِ وَالشّهُورِ عَلَى بَعْضٍ كما فضل بعض الأمكنة على بعض، فشَهْر رَمَضَانَ خِيرَة الله مِنْ شُهُورِ الْعَامِ، وَلَيْلَةَ الْقَدْرِ خِيرَتُهُ مِنْ اللّيَالِيِ، والجمعة خيرته من الأسبوع، وَمَكّةُ خِيرَتُهُ مِنْ الْأَرْضِ، وَمُحَمّدٌ -صلى الله عليه وسلم- خِيَرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾ [القصص: 68]، فلا مدخل للبشر في هذا التفضيل؛ لأن الله هو الدهر بيده الأمر يقلب الليل والنهار، وهو سبحانه خالق الزمان والمكان، ونؤمن بكمال ربوبيته وحكمته وعلمه.

ومن هذه الأزمنة – أيها الإخوة – شهر رجب الذي بزغت شمسه اليوم، وهذا الشهر وقع الخلط فيه، بين غلو فيه فأثبتت فيه من الفضائل ما لا يصح، وبين جفاء عنه حيث جهلت بعض فضائله التي يحسن العلم بها، وحتى نسلم من هذين المزلقين فإننا نتحدث اليوم عن هذا الشهر ببيان ما يصح فيه وما لا يصح، في مسائل:

المسألة الأولى:

شهر رجب أحدُ الأشهر الحرم الأربعة التي نص عليها القرآن فقال تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة: 36]، وبيَّنت السنة هذه الأربعة، كما ثبت في الصحيحين عن أبي بكرة –رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم-  قال: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا منها أربعة حرم؛ ثلاث متواليات؛ ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان".

 وسُمِّي رجب مضر نسبة إلى قبيلة مضر؛ لأنهم كانوا أشد تعظيمًا له من غيرهم. وقد كان أهل الجاهلية يعظّمون هذه الأشهرَ الحرم وخاصة شهرَ رجب، فكانوا لا يقاتلون فيه، حتى إن الرجل يلقى قاتلَ أبيه فلا يمسه بسوء.

وسميت هذه الأشهرُ الأربعةُ حرما لعظم حرمتها ولحرمة القتال فيها كما سيأتي.

وينبغي التفريق بين الأشهر الحرم وأشهر الحج، فأشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة، والأشهر الحرم هي ما سبق.

وهذه الأشهر الأربعة الحرم حرَّمها العرب في الجاهلية، وسبب تحريمهم القعدة والحجة ومحرم هو أداء شعيرة الحج، فكانوا يحرمون قبله شهراً ليتمكنوا من السير إلى الحج، ويسمونه القعدة لقعودهم عن القتال فيه، ثم يحرمون ذا الحجة وفيه أداءُ مناسكهم وأسواقهم، ثم يحرمون بعده شهراً ليعودوا إلى ديارهم. وحرموا شهر رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت والإعمار، فيأمن قاصدُ البيت الغارةَ فيه.

فهذه الأشهر الحرم لها مكانة عظيمة في الجاهلية أقرها الإسلام، وهذه فضيلة شهر رجب في الشريعة، ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة: 36]، في هذه الأشهرِ المحرمة، وفسِّر الظلم بأنه فعل المعاصي وترك الطاعات، وهو يشمل ظلم العبد لنفسه بالشرك والمعصية، وظلم العبد لغيره من الخلق بأنواع المظالم.

قال ابن عباس: "خص الله من شهور العام أربعةَ أشهر فجعلهن حرمًا، وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن والعمل الصالح والأجر أعظم".

وقال قتادة: "العمل الصالح أعظمُ أجراً في الأشهر الحرم، والظلم فيهن أعظمُ من الظلم فيما سواهن، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً".

فينبغي للعبد مراعاة حرمة هذه الأشهر ومنها شهر رجب هذا؛ لما خصها الله به من المنزلة، والحذرُ من الوقوع في المعاصي والآثام تقديرًا لما لها من حرمة؛ لأن المعاصي تعظم بسبب شرف الزمان الذي حرّمه الله.

وأما القتال في هذه الأشهر الحرم فتحريمه من بقايا دين إبراهيم –عليه السلام- الذي تمسك به العرب في جاهليتهم، وحكمه في شرعنا أن القتال على نوعين:

1- قتال دفع كما لو هوجم المسلمون من قبل أعدائهم، فهنا يقاتل المسلمون ولو كانوا في الأشهر الحرم باتفاق العلماء.

2- قتال هجوم وابتداء، فهذا محرم بقوله -تعالى- ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: 217]، يعني عظيم عند الله، وبقوله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ [المائدة: 2]، لكن اختلف هل نسخ التحريم أم هو باق؟

ولعل الأظهر أن ابتداء القتال في الأشهر الحرم باقٍ على تحريمه، ويؤيده حديث جابر  قال: "لم يكن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يغزو في الشهر الحرام إلا أن يُغزى – أو يُغزوا- فإذا حضر ذلك أقام حتى ينسلخ". (مسند أحمد، وقال محققوه 22/ 438: إسناده صحيح على شرط مسلم).

ومن أحكام الأشهر الحرم: تغليظ الدية فيها لحرمتها، وهو منقول عن عمر –رضي الله عنه-، وقال به الشافعية والحنابلة.

المسألة الثانية: الذبيحة في رجب:

وتسمى العتيرة وهي ذبيحة كان يذبحها أهل الجاهلية في شهر رجب, وجعلوا ذلك سنة عندهم كذبح الأضحية في عيد الأضحى، وورد فيها بعض الأحاديث لكنها نسخت بقوله –صلى الله عليه وسلم-: "لا فرع ولا عتيرة" (متفق عليه)،

وفي بعض ألفاظ الحديث: نهى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عن الفرع والعتيرة. (رواه النسائي وصححه الألباني).

 وعند أحمد: "لا عتيرة في الإسلام ولا فرع"، والفرع: أول النتاج كانوا يذبحونه لطواغيتهم.

المسألة الثالثة: الصوم في رجب:

لم يصح في فضل الصوم في رجب بخصوصه شيء عن النبي –صلى الله عليه وسلم-ولا عن أصحابه، وإنما يشرع فيه من الصيام ما يشرع في غيره من الشهور، من صيام الاثنين والخميس والأيام البيض وصيام يوم وإفطار يوم ونحو ذلك.

وروي عن عمر –رضي الله عنه- أنه كان يضرب أكفّ الرجال في صوم رجب حتى يضعوها في الطعام ويقول: "ما رجب؟ إن رجباً كان يعظمه أهل الجاهلية فلما كان الإسلام تُرِك".

وفي رواية "كره أن يكون صيامه سُنَّة". وعن أبي بكرة –رضي الله عنه- أنه رأى أهله يتهيئون لصيام رجب فقال لهم: "أجعلتم رجب كرمضان، وألقى السلال وكسر الكيزان".

قال ابن تيمية في (مجموع الفتاوى: 25/ 290): "أما صوم رجب بخصوصه، فأحاديثه كلها ضعيفة، بل موضوعة، لا يعتمد أهل العلم على شيء منها، وليست من الضعيف الذي يروى في الفضائل، بل عامتها من الموضوعات المكذوبات".

المسألة الرابعة: العمرة في رجب:

لم يثبت عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه اعتمر في رجب، وما جاء عن ابن عمر في ذلك فهو وهم منه، وقد بينت له ذلك عائشة حين قالت: "يرحم الله أبا عبد الرحمن، ما اعتمر عمرة إلا وهو معه، وما اعتمر في رجب قط" (متفق عليه).

فرجب كغيره في عبادة العمرة، إن اعتمر فيه المسلم من غير اعتقاد فضل معيّن بل كان موافقة، أو لأنّه تيسّر له في هذا الوقت مع رفقة، أو لمناسبته لوقت إجازته من العمل؛ فلا بأس بذلك، أما أن تخصص العمرة بهذا الشهر قصدًا، وتضاف إليها فيقال: "العمرة الرجبية"، ويظن أنها من السنن التابعة للشهر فلا، فليس للمكلف أن يخص عبادةً بزمان معين إلا فيما ورد به الشرع، ولم ترد العمرة في شهرٍ من الشهور إلا في أشهر الحج وفي شهر رمضان.

المسألة الخامسة: صلاة الرغائب:

وهي صلاة مخترعة في أول ليلة جمعة من رجب، وهي من البدع المحدثة المخترعة، وقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم-?: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد".

قال ابن رجب في (لطائف المعارف) ص140: "لم يصح في شهر رجب صلاة مخصوصة تختص به، والأحاديث المروية في فضل صلاة الرغائب في أول ليلة جمعة من شهر رجب كذب وباطل لا تصح، وهذه الصلاة بدعة عند جمهور العلماء".

وقال الحافظ ابن حجر في (تبين العجب بما ورد في فضل رجب) : "لم يرد في فضل شهر رجب ولا في صيامه ولا في صيام شيء منه معيّن، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة".

المسألة السادسة: الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج

ودرج على هذا كثير من المسلمين بناء على اعتقاد أن الإسراء والمعراج وقع في ليلة السابع والعشرين من رجب، وبنوا على ذلك تعظيمَ هذه الليلة، وإحياءها بصلاة مخصوصة يسمونها: صلاة ليلة المعراج، والاحتفال فيها بقراءة قصة المعراج وإنشاد القصائد حول ذلك. وكل هذا من المحدثات، وهو مبنيّ على غير برهان تاريخي فإنه لا يُعلم جزمًا متى كانت ليلة الإسراء والمعراج، والمؤرخون اختلفوا في تحديدها، ولو كان في ضبط ذلك خيرٌ لاعتنى به السلف الأولون وسبقونا إليه:

 وخير الأمور السالفات على الهدى  *** وشر الأمور المحدثات البدائع

وقد نبَّه العلماء المتقدمون والمتأخرون على هذه البدعة، وتزداد الحاجة إلى ذلك في عصرنا لوجود الانفتاح الإعلامي؛ حيث تبث بعض المحطات الإذاعية والقنوات الفضائية هذه الاحتفالات، وتروج لها عبر الأثير والفضاء، فينبغي العلم والحذر من تشرب هذه المحدثات أو الانسياق وراءها.

بارك الله ..

الخطبة الثانية:

المسألة السابعة: التنبيه على بعض الأحاديث في شهر رجب

يكثر في هذا الشهر تناقل بعض الأحاديث المنسوبة إلى النبي ?–صلى الله عليه وسلم-، وهي لم تثبت عنه عبر رسائل الجوال والبريد الإلكتروني أو في المنتديات والمجالس، وينبغي للمسلم ألا ينشر حديثًا حتى يتأكد من ثبوته وصحته، فمن ذلك على سبيل المثال:

1- حديث: كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم-? إذا دخل رجب قال: " اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان "، فهذا حديث ضعيف رواه هب في شعب الإيمان.

2- حديث: "رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي" وهذا ضعيف أيضا، أخرجه الأصبهاني في "الترغيب" (الضعيفة) رقم 4400.

3. حديث: "فضل شهر رجب على سائر الشهور كفضل القرآن على سائر الأذكار"، وهذا حديث موضوع كما نبَّه عليه ابن حجر في (تبيين العجب بما ورد في شهر رجب) ص10.

عباد الله .. احذروا من ارتياد البدع أو استحسانها، والتزموا كتاب الله وهدي نبيه –صلى الله عليه وسلم-، ففيهما الكفاية والنجاة، واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.

أيها الإخوة: تبين مما سبق أن فضيلة شهر رجب أنه أحد الأشهر الحرم الأربعة التي يشرع تعظيمها بتعظيم حرمات الله فيها والكفِّ عن المعصية والظلم ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة: 36].

وفي شهر رجب تتشوق نفوس المؤمنين لرمضان وتهب عليهم نسائمه ويستشعرون قربه، قال أبو بكر الوراق: "شهر رجب شهر الزرع، وشعبان شهر السقي للزرع، ورمضان شهر حصاد الزرع".

 وجدير بمن سود صحيفته بالذنوب أن يبيضها بالتوبة في هذا الشهر، وبمن ضيع عمره في البطالة أن يغتنم فيه ما بقي من العمر:

بيِّض صحيفتك السوداءَ في رجب *** بصالح العمل المنجي من اللهب

شهرٌ حرامٌ أتي من أشهر حرم *** إذا دعا اللهَ داع فيه لم يخب

طوبى لعبد زَكَى فيه له عملٌ *** فكف فيه عن الفحشاء والريب

اللهم جنبنا الآثام والابتداع، وأحينا على السنة والاتباع، وتوفنا على ذلك وأنت راض عنا، اللهم أصلح قلوبنا وأعمالنا، ..