من محراب العبادة إلى ميدان المعاملة

عناصر الخطبة

  1. فضائل السلوك الحسن والمعاملة السليمة للخلق
  2. الغاية المنشودة من العبادات في الإسلام
  3. ثمرات العبادات في الإسلام
  4. دعوة الإسلام إلى المعاملة الحسنة حتى في الحروب
  5. الانفصام في حياة المسلمين
  6. الإفلاس الحقيقي
  7. الدين المعاملة
اقتباس

المسلم الذي يضع جبهته في المسجد ساجدًا لله يستحي من الله أن يغش خلقه، والأمة التي يعيش أبناؤها على الخيانة والغش أمة معرضة للانهيار والسقوط. لقد جاء الإسلام ليهذّب السلوك والأخلاق، ويدعو المسلم إلى حسن التعامل مع من حوله بطريقة حسنة وراقية وحضارية، وجعل ذلك التعامل الحسن من ..

الحمدُ للهِ مدبِر الليالي والأيام، ومصرف الشهور والأعوام، الملكِ القدُّوس السلام، المُتفرِّدِ بالعظمةِ والبقاءِ والدَّوام، المُتَنزِّهِ عن النقائصِ ومشابهَةِ الأنام، يَرَى ما في داخلِ العروقِ وبواطنِ العظام، ويسمع خَفِيَّ الصوتِ ولطيفَ الكلام، إِلهٌ رحيمٌ كثيرُ الإِنعَام، ورَبٌ قديرٌ شديدُ الانتقام، قدَّر الأمورَ فأجْراها على أحسنِ نظام، وشَرَع الشرائعَ فأحْكمَها أيَّما إحْكام، بقدرته تهبُّ الرياحُ ويسير الغمام، وبحكمته ورحمته تتعاقب الليالِي والأيَّام، أحمدُهُ على جليلِ الصفاتِ وجميل الإِنعام، وأشكرُه شكرَ منْ طلب المزيدَ وَرَام، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله الَّذِي لا تحيطُ به العقولُ والأوهام، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه أفضَلُ الأنام، صلَّى الله عليه وعلى سائر آلِهِ وأصحابِه والتابعين لهم بإِحسانٍ على الدوام، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. 

وبعد:

عباد الله: من محراب العبادة والطاعة والمناجاة ومعاملة الخالق -سبحانه وتعالى- ينطلق المسلم إلى محراب الحياة وميدانها ليتعامل مع الخلق، وهذه سنة الله في خلقه؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات:13]، فكان من لوازم معاملة العبد لربه وقيامه بواجباته التعبدية، والتزامه بشرعه: أن يُحسن معاملة خلقه، فالسلوك الحسن والمعاملة السليمة عنوان على صاحبها، وبرهان على صدق إيمانه، وعمق إسلامه، ومدى تخلُّقه بأخلاق الإسلام، ومبادئه السمحة.

ثم إن الغاية المنشودة من العبادات في الإسلام هو أن تتزكى النفس الإنسانية، وتتوثق صلة الإنسان بخالقه، وبالناس من حوله، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فلا تعدٍّ ولا ظلم ولا بغي، قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: 45].

وبالزكاة تترعرع الألفة بين القلوب، وينمو الإحسان بين الناس، وتتطهر النفس، قال تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [التوبة:103]، وبالصوم يتمرس الإنسان على الصبر وسائر خصال التقوى والبر، وبالحج تتم سائر الفضائل الدينية التي تغرسها مناسكه في قلب المسلم، قال تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة:197]، وكذلك ذِكْر الله، وقراءة القرآن والدعاء وغيرها من العبادات تربط المسلم بخالقه، وتزيد في تقوية إيمانه وتهذيب سلوكه وتزكية أخلاقه.

وهكذا تثمر العبادات في الإسلام ثمرتها، وتُؤتي أُكلها إذا صدقت نية صاحبها، وارتوت منها أحاسيسه، ولهذا يقول الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله-: "فالصلاة والصيام والزكاة والحج، وما أشبه هذه الطاعات من تعاليم الإسلام، هي مدارج الكمال المنشود، وروافد التطهر الذي يصون الحياة، ويعلي شأنها، ولهذه السجايا الكريمة التي ترتبط بها أو تنشأ عنها أُعطيت منزلة كبيرة في دين الله، فإذا لم يستفد المرء منها ما يزكّي قلبه وينقّي لبّه، ويهذّب بالله وبالناس صلته، فقد هوى".

عباد الله: جاء الإسلام ليهذّب السلوك والأخلاق، ويدعو المسلم إلى حسن التعامل مع من حوله بطريقة حسنة وراقية وحضارية، وجعل ذلك التعامل الحسن من العبادات العظيمة، ورتّب عليها -سبحانه وتعالى- عظيم الأجر، وأجزل الثواب، ففي جانب الكلمة أمر الله تعالى عباده أن يتخيروا من الألفاظ أحسنها، ومن الكلمات أجملها عند حديث بعضهم لبعض؛ حتى تشيع الألفة والمودة، وتندفع أسباب الهجر والقطيعة والعداوة، فقال الله تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً﴾ [الإسراء:53]، ولم يبحِ الله -عز وجل- لعباده الجهر بالسوء إلا في أحوال محددة كحالة التظلم، فقال: ﴿لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً﴾ [النساء:148].

وفي التعامل الأُسري في البيت المسلم أمر الإسلام بالمودة والرحمة كأساس لبناء الحياة بين الزوجين والأبناء والآباء، قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21].

وفي جانب التعامل في المجتمع المسلم بين الجيران والأقارب والضيوف والأرحام جعل الإسلام المعاملة الحسنة علامةً على قوة الإيمان وقرب العبد من ربه، قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ". رواه البخاري.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن"، قيل: من يا رسول الله؟! قال: "الذي لا يأمن جاره بوائقه". رواه البخاري.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إني مجهودٌ". -والمجهود من أصابه الجهد والمشقة والحاجة والجوع- فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماءٌ. ثم أرسل إلى أخرى، فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهنَّ مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق. فقال: "من يُضيف هذا الليلة رَحمه الله؟!". فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله. فانطلق به إلى رحْلِهِ فقال لامرأته: هل عندك شيءٌ؟! قالت: لا إلا قُوتُ صِبياني. قال: فعلّليهم بشيء، فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج، وأريه أنّا نأكل، فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السِّراج حتى تُطفئيه. قال: فقعدوا، وأكل الضيف، فلما أصبح غدا على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة". رواه البخاري ومسلم.

فانظروا إلى هذا الكرم والتعامل الحسن كيف رفع منزلة أهل هذا البيت حتى أخبر الله نبيه خبرهم وعجب من صنيعهم!!

وفي جانب المعاملات المالية كانت دعوة الإسلام إلى التعامل الحسن من التسهيل والتيسير والأمانة والوضوح والصدق، فعنْ أبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ؛ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ"، وفي رواية لمسلم: "قال اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ، تَجَاوَزُوا عَنْهُ". رواه البخاري ومسلم.

يا الله لقد تجاوز الله عنه في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون؛ لتعامله الحسن مع الخلق، وقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "رحم الله رجلاً سمحًا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى". رواه البخاري:2076.

هذا الإمام أبو حنيفة النعمان -رحمه الله- يوصي عماله وغلمانه في متجره بأن يبينوا للناس عيوب بضاعته إذا وُجدت؛ لأن ذلك من الدين ومن المعاملة الحسنة التي أمر بها الإسلام، فالمسلم الذي يضع جبهته في المسجد ساجدًا لله يستحي من الله أن يغش خلقه، والأمة التي يعيش أبناؤها على الخيانة والغش أمة معرضة للانهيار والسقوط.

وفي يوم يشتري يهودي ثوبًا معيبًا، ولم يبين الغلام لليهودي العيب الذي فيه، ولما حضر الإمام أبو حنيفة سأل عن الثوب، فقال: بعته لليهودي بثلاثة آلاف درهم، قال: هل أخبرته بعيب الثوب؟! قال: لا، فأخذ يبحث عن ذلك اليهودي حتى أدركه، فقال لليهودي: يا هذا: لقد اشتريت ثوب كذا وكذا، وبه عيب، فخذ دراهمك وأعطني ثوبي، فقال اليهودي: ما حملك على هذا؟! قال أبو حنيفة: الإسلام، فقد نهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الغش، فقال: "من غشّنا فليس منا"، فقال اليهودي وهو يرى هذه المعاملة الصادقة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.

عباد الله: وفي جانب إدارة الأعمال والوظائف وتولي أمور الناس غرس الإسلام في نفوس أتباعه الرقابة الذاتية، ودعاهم إلى معاملة الخلق بسهولة ويسر وإرادة الخير لهم، فقال تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [التوبة:105]، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به". رواه مسلم.

فهذا الموظف أو المسؤول بمعاملته الحسنة دون محاباة أو ظلم أو تعدٍّ قد يبلغ درجة عظيمة عند الله لا يصل إليها غيره، وإنها لمن مكارم الأخلاق.

في سنن أبي داود عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن المؤمن ليدرك بحسن خُلقه درجة الصائم القائم"، فإذا تحولت المعاملة إلى استعلاء وتكبر وجفاء كان الجزاء من جنس العمل، عن أبي مريم الأزدي -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "مَن ولاه الله شيئًا من أمر المسلمين، فاحتجب عن حاجتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخَلته وفقره يوم القيامة". أخرجه أبو داود والترمذي.

وفي جانب الحروب والعلاقات الدولية دعا الإسلام أتباعه إلى المعاملة الحسنة، فأسّس الإسلام مبادئ ووضع آدابًا وضوابط للعلاقات وللحروب والغزوات لم تعرفها الأمم مسبقًا من الرحمة بالأسير، وعدم التمثيل بالمقتول وقبول الفداء، وعدم قطع الأشجار ولا قتل الشيوخ وهدم الصوامع؛ فلم نسمع أو نقرأ أن جنود الإسلام قد أقاموا المعتقلات، وصنعوا الأغلال والأصفاد للأسرى؛ لاستجوابهم والتحقيق معهم والتنكيل بهم، بل كان الأسير عند المسلمين يظل له كيانه الإنساني وحقوقه الفطرية من المطعم والأمان والكساء والدواء؛ لأن أبناء الإسلام منقذون ومصلحون لا مفسدون؛ وصانعون للحياة السعيدة لا مدمرون لها.

فهذا صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله- يسير ذات يوم في بعض طرقات مدينة بيت المقدس وقد نصره الله، فقابله شيخ مسيحي كبير السن، وقال له: "أيها القائد العظيم: لقد كتب لك النصر على أعدائك، فلماذا لم تنتقم منهم، وتفعل معهم مثل ما فعلوا معك؟! فقد قتلوا نساءكم وأطفالكم وشيوخكم عندما غزوا بيت المقدس"، فقال له صلاح الدين: "أيها الشيخ: يمنعني من ذلك ديني الذي يأمرني بالرحمة بالضعفاء، ويحرّم عليّ قتل الأطفال والشيوخ والنساء".

فقال له الشيخ: "وهل دينكم يمنعكم من الانتقام من قوم أذاقوكم سوء العذاب؟!"، فأجابه صلاح الدين: "نعم، إن ديننا يأمرنا بالعفو والإحسان، وأن نقابل السيئة بالحسنة، وأن نكون أوفياء بعهودنا، وأن نصفح عند المقدرة عمن أذنب". فقال الشيخ: "نِعْمَ الدين دينكم، وإن دينًا فيه مثل هذه الأخلاق يعلو ولا يُعلَى عليه". وأسلم الرجل وحسن إسلامه، وأسلم معه كثير من أبناء قومه.

يقول روجيه جارودي -وكان فيلسوفًا شيوعيًّا قبل إسلامه-: "كنت مع مجموعة الجنود الفرنسيين الذين كانوا يحاربون المسلمين الجزائريين في ثورة الجزائر عام 1960م، وتم القبض عليَّ بواسطة مجموعة من المجاهدين المسلمين، وسلموني إلى أحدهم ليتولى إعدامي في الجبل، وحين انفرد بي سألني: "هل معك سلاح؟! فقلت له: لا، ليس معي سلاح، فقال: وكيف أقتل رجلاً ليس معه سلاح؟! وأطلق سراحي. قال جارودي: وبقيَتْ هذه القصة تتفاعل في ضميري سنين كثيرة، حتى قمت بدراسة الإسلام فأيقنت أن هذا المجاهد كان ينطلق في تصرفه معي من واقع العقيدة والأخلاق الإسلامية، فكان لهذا الحادث أثره البالغ في إسلامي الذي هز العالم بأسره".

في جانب الدعوة والبلاغ تخيّر الإسلام للتعامل مع المدعوين أفضل الطرق وأرأفها وأرحمها، فقال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [النحل:125]، هذا هو الدين الذي ينبغي أن نلتزمه، وهذه هي المعاملة التي ينبغي أن نطبّقها سلوكًا في واقع حياتنا.

وإن الإسلام الذي ينتشر في قارات ودول العالم، ما كان له أن ينتشر بعد فضل الله وتوفيقه لو لم يكن أصحابه وحملة رسالته من الدعاة والعلماء والمجاهدين والتجار والمسافرين على قدر من الخلق الحسن والمعاملة الراقية والسلوك القويم، وإن الانحسار في فهم الدين، ووصفه بما ليس فيه، وصدود الناس عنه في كثير من مناطق العالم اليوم إنما يعود جزء من أسباب ذلك إلى تشويه أبنائه له بضعف الالتزام به تارة، وبسوء الخُلق والمعاملة غير الحسنة مع بعضهم ومع غيرهم تارة أخرى.

فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخطبة الثانية:

ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعدما رجع من حجة الوداع جعل مرض الموت يشتد عليه يومًا بعد يوم، وهو في كلمة يتكلمها، ونظرة ينظرها يودّع هذه الدار، ولما اشتدت عليه الحمى، وأيقن النقلة للدار الأخرى، أراد أن يودّع الناس، فعصب رأسه، ثم أمر الفضل بن العباس أن يجمع الناس في المسجد، فجمعهم، فاستند -صلى الله عليه وسلم- إليه حتى رقي إلى المنبر، ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد: أيها الناس: إنه قد دنا مني أجلي، ولن تروني في هذا المقام فيكم، ألا فمن كنت جلدت له ظهرًا، فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت أخذت له مالاً، فهذا مالي فليأخذ منه، ومن كنت شتمت له عرضًا، فهذا عرضي فليستقد منه، ولا يقولن قائل: إني أخشى الشحناء، ألا وإن الشحناء ليست من شأني ولا من خُلقي، وإن أحبكم إليّ من أخذ حقًّا إن كان له عليَّ، أو حللني فلقيت الله -عز وجل- وليس لأحد عندي مظلمة".

ثم نزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومضى إلى بيته، وبدأت الحمى تأكل جسده، وكان من آخر ما قال -صلى الله عليه وسلم-: "الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم". ثم مات -صلى الله عليه وسلم-.

لقد أعطانا رسول -صلى الله عليه وسلم- درسًا في غاية الأهمية، وعليه تدور سعادة المسلم في الدنيا والآخرة، فالمسلم بعد أن يؤدي ما عليه لربه ينطلق من محراب العبادة ومواسم الطاعات إلى الحياة يعمرها ويبنيها، ويسعى فيها كما أمره ربه، ولا بد له من التعامل مع من حوله تلك المعاملة الحسنة الراقية، والتي تحمل بين جوانبها الرحمة والرفق والتسامح واللين والصدق، والتواضع والاعتراف بالخطأ، وتقدير الآخرين، وحسن الكلام والنصيحة السليمة، وبذل المعروف وكف الأذى، وأداء الحقوق والقيام بالواجبات.

بل إن الإسلام يسمو بالمسلم في علاقاته مع الخلق أجمعين، حتى مع الحيوان، فكانت الجنة جزاء امرأة بغي من بني إسرائيل رقَّ قلبها رحمة، فسقت كلبًا أوشك على الموت عطشًا، بينما كانت النار مصير امرأة أخرى، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عنها: "دخلت امرأة النار في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض". رواه الشيخان.

ولو كان الدين إيمانًا وعقيدة وعبادات وطاعات وقربات فحسب دون اعتبار للمعاملة والسلوك، ما كان لدعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- جاذبية ولا أثر على الناس، وهم أهل مآرب دنيوية في مجتمع تحكمه علاقات وتفاعلات ومصالح. لذلك يثني القرآن الكريم عليه بقيمة وفاعلية أخلاقه بينهم وهي مناط الإقناع والتأثير: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر﴾ [آل عمران:159].

فالإسلام ينبغي أن نفهمه على أنه عقيدة راسخة، وعبادة صحيحة، ومعاملة حسنة، سواء بسواء، ومتى ما طغى جانب على حساب جانب آخر ظهر الانفصام في حياة المسلمين، فيكون المسلم في وادٍ والإسلام في واد آخر، فيحدث الخلل وتظهر التناقضات وتسود الفوضى، ويحل الشقاء، ويظهر الإفلاس الحقيقي؛ إفلاس القيم والأخلاق والمعاملة الحسنة، عندها لا تنفع صلاة ولا زكاة ولا صوم ولا حج ولا غير ذلك من العبادات إذا فسد سلوك الفرد وساءت معاملته للآخرين.

‏عَنْ ‏أَبِي هُرَيْرَةَ‏، عَنْ النَّبِيِّ -‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ‏‏قَالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مَنْ ‏الْمُفْلِسُ؟!"، قَالُوا‏: الْمُفْلِسُ فِينَا -يَا رَسُولَ اللَّهِ- مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ. قَالَ‏: "‏إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصِيَامٍ وَصَلاةٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ عِرْضَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، فَيُقْعَدُ‏، ‏فَيَقْتَصُّ ‏‏هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْخَطَايَا أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ". رواه مسلم 2581.

فلنحسن علاقتنا بربنا، ولنتعامل بأخلاق ديننا، ففي ذلك الفلاح في الدنيا والآخرة، ولنحذر من سوء المعاملة، فإنها تُفسد العمل مهما عظم.

هذا، وصلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، والحمد لله رب العالمين.