الإرهاب الفكري

عناصر الخطبة

  1. مصطلح الإرهاب
  2. أزمة الأمة اليوم أزمة فكرية
  3. المقصود بالإرهاب الفكري
  4. نماذج من الإرهاب الفكري
  5. موقف الإسلام الإرهاب الفكري.
اقتباس

إن (الإرهاب الفكري) يقوم دائماً في كل زمان ومكان على تجميع المتملقين والمتمصلحين والغوغاء والرعاع؛ لقمع الرأي الذي لا يراه، ولقطع اللسان الذي لا يعجبه منطقه الصحيح، حتى يخيل للعالم قاطبة أن الناس قد أجمعوا على قوله، واتحدوا على فكره، ووافقوه على هواه واتحدوا جميعاً على مناصرته وتأييده ضد خصومه ومناوئيه، والحقيقة هي عكس ذلك تماماً….

الخطبة الأولى:

الحمد لله واضع الموازين ارتضى لنا الإسلام دين، حث عباده على العدل والإحسان، ونهاهم عن الظلم والاعتداء والطغيان، ووعد عباده المؤمنين المتبعين لنهجه القويم وصراطه المستقيم بالتمكين في الأرض والأمان، وصلى الله وسلم على النبي المصطفى العدنان، وعلى آله وصحبه أولي الفضل والعرفان.

أما بعد:

أيها المسلمون: من المصطلحات الخطيرة التي راجت وانتشرت في عصرنا هذا وأصبح الكل يتداولها ويروج لها -سواء بعلم لمعناها أو في كثير من الأحيان بغير علم لمفهومها وأبعادها- مصطلح الإرهاب.

لقد تغير مفهوم (الإرهاب) في العصر الحديث تغيرا كبيراً، وأصبح لهذه الكلمة في معناها المعاصر وقعٌ سيء جداً؛ لأن هذه الكلمة ارتبطت في أذهان الناس بمعنى ترويع الآمنين، وتخريب العمران، بغض النظر عمن توجه إليهم الضربات الإرهابية وتفزعهم، مع أن الله -سبحانه وتعالى- قد ذكر هذا المصطلح في كتابه العظيم على سبيل الأمر والحث، ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ [الأنفال : 60].

إن هذا المصطلح مصطلح كبير وواسع، وله أنواع عديدة ومختلفة، ونريد اليوم في هذه الخطبة أن نسلط الضوء على نوع من هذه الأنواع، أحببنا تركيز الضوء عليه لأنه يلامس كثيراً واقعنا المعاصر، إنه الإرهاب الفكري.

لقد عانت الأمة الإسلامية طويلاً من أزمات حضارية متنوعة، كانت سبباً رئيسياً في تخلفها وضعفها، وهيمنة أعدائها عليها، وتسلطهم على مقدراتها، وجوهر هذه الأزمات الحضارية الخانقة التي تمر بها الأمة تكمن في الفكر لا في الوسائل.

إن الأمة الإسلامية تمتلك الكثير من وسائل النهضة، وأدوات الحضارة التي تجعلها مؤهلة لقيادة العالم كما كانت سابقاً، وإنما ينقصها في كثير من الأحيان التفكير الصحيح والفهم الأمثل للتعامل مع الأزمات والسبل الصحيحة للخروج منها.

إن المقصود بالإرهاب الفكري أن تقوم جماعة أو منظمة أو حزب أو غيره بفرض أفكارهم الضالة عن طريق القوة، ويوجبوا على الناس إتباعهم على وجه الإلزام لا على سبيل الإقناع، وكل من خالفهم في فكر أو قام بالرد عليهم أو تخطئة فكرة من أفكارهم قاموا عليه وحاربوه، ومارسوا إرهابهم ضده.

لقد حارب الإسلام هذا النوع من الإرهاب الباطل وقاومه، ومن أجل هذا فرض الجهاد لرد عادية المعتدين الذين يواجهون الحق، ويحولون بين الناس وبين إتّباع الحق، ولا يعطون للناس حريتهم في الأخذ بالحق والتمسك به.

إن الإسلام لا يأمر أحداً بإتباعه بالقوة، ولا يلزم الناس بالدخول في الإسلام عنوة؛ لأن الله قال بكل وضوح: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة : 256].

ولكن الأمر الذي يكرهه الإسلام أن يقوم أحد في وجه الحق ويعلن الحرب عليه، ويسعى إلى منابذته، ولا يسمح للناس المقتنعين به بإتباعه والاهتداء به. ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(9)﴾ [الممتحنة 8: 9].

عباد الله: إن الإرهاب الفكري ناب حاد مزق فكر الأمة، ومخلب بشع جرَّح وجهها الحضاري، وما يزال العالم مثخن بالجراح من جراء آثاره الخطيرة وتبعاته المدمرة.

إنه (الإرهاب الفكري) الذي قمع كل قول يخالف سلطته الدينية، أو ينازع قوته السياسية، كما مارسه الإرهابيون الأوائل عندما قالوا لنبي الله نوحاً -عليه الصلاة والسلام-: ﴿لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ﴾ [الشعراء: 116].

إنه ذلك الأسلوب نفسه الذي يمارس تسفيه وتحقير كل رأي لا يوافق هوى آبائه، أو لا يناسب ذوق أجداده، أو يناقض الفكر الباطل لأصحابه فلا يقدرون على مواجهة الحجة إلا بالقوة والشدة والتسلط.

إنه الأسلوب الذي يغتصب العقول قسراً، ويرغمها على موافقة عقله، وتأييد رأيه, فلقد قال أستاذه سلفاً: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص: 38] وقال: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ [غافر : 29]. فالرأي رأيي، والقول ما قلت أنا لا ما قال غيري، ومن خالفني في رأي أو فكرة فمصيره القتل والسجن والمطاردة، يقول الله -جل جلاله- حاكياً عن فرعون: ﴿قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى﴾ [طه : 71].

إذا قالت حذام فصدقوها *** فإن القول ما قالت حذام

إذا قالت حذام الصبح ليل *** فقولوا الشمس تطلع في المساء

إن (الإرهاب الفكري) يقوم دائماً في كل زمان ومكان على تجميع المتملقين والمتمصلحين والغوغاء والرعاع؛ لقمع الرأي الذي لا يراه، ولقطع اللسان الذي لا يعجبه منطقه الصحيح، حتى يخيل للعالم قاطبة أن الناس قد أجمعوا على قوله، واتحدوا على فكره، ووافقوه على هواه واتحدوا جميعاً على مناصرته وتأييده ضد خصومه ومناوئيه، والحقيقة هي عكس ذلك تماماً.

وهذه الحقيقة تظهر بشكل جلي وواضح عندما يزول الإرهاب وتنكشف الحقائق، فتجده سرعان ما يتهاوى، وينقلب عليه أتباعه، ويبقى وحيداً فريداً لا يألوا على شيء، ولا يجد حوله أحداً ممن كان يتملق له ويتبعه، ويرقص حوله.

لقد رقص أتباع فرعون وقارون وهامان لهم، وتغنوا باسمهم، وسبحوا بحمدهم، ثم تركوهم لوحدهم يصارعون الموت ويواجهون المصير المحتوم، ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ(82)﴾ [القصص 81: 82].

إن المسلم المستسلم لله حقاً يذعن للحق ويستجيب له، ويدعو من حوله إليه، ولكنه لايمارس الإرهاب الفكري على الآخرين ولا يلزمهم بشيء من دينه إلا إذا قاموا بحربه وحالوا بين الآخرين وبين دعوته ووقفوا ضده، فهنا يجب عليه أن يدافع عن دينه ونفسه ضد من يسعى إلى إفشاله، ووقف مدّ دعوته، ويحاول تقليصها ومحاربتها.

قلت ما سمعت، واستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه فإن التائب من الذنب كمن لاذنب له.

الخطبة الثانية:

لقد نفَّر الإسلام من الإرهاب الفكري حتى مع المخالفين له، وهذا القرآن الكريم مليء بالمناظرات العلمية مع خصومه في جو تسوده الحرية والأمن الفكري. يقول الله -سبحانه وتعالى-: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64].

بل نهى الله المؤمنين عن أدنى درجات (الإرهاب الفكري) في مناظراتهم لأهل الكتاب، إذ يقول: ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إلَيْنَا وَأُنزِلَ إلَيْكُمْ وَإلَهُنَا وَإلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [العنكبوت: 46].

لقد ذم علماء الإسلام الفكر الاعتزالي أو “المعتزلة” لأنهم مارسوا على الأمة إرهابهم الفكري، وأرغموا الجميع على القول بأن القرآن مخلوق، مع أن القرآن هو كلام الله -سبحانه وتعالى- غير مخلوق، لأنه كلام الخالق فكيف يكون كلامه مخلوقاً؟ ولكنهم فرضوا هذا الفكر بالقوة، وألزموا الناس وخاصة العلماء على القول به، فاشتدت المحنة على علماء الأمة آنذاك، وابتلوا ابتلاء شديداً، وزلزلوا زلزالاً عظيماً، وكان من أعظم من واجه هذا الإرهاب الفكري يوم ذاك إمام أهل السنة أبو عبد الله أحمد بن حنبل -رحمه الله-.

واليوم يأتي الغرب والشرق يريد أن يفرض على أمة الإسلام إرهابه الفكري بحجة مكافحة الإرهاب، أو محاربة الفكر التكفيري المتشدد، أو غيرها من الدعاوى التي يراد من ورائها الشر والباطل.

ولكن لابد أن نعلم أنه مهما اشتد المكر، وانتشر الشر، ومارس الإرهابيون إرهابهم الفكري على الأمة، فإن نور الله ظاهر، وحجته دامغة، وقوله قاطع، وشمس الحق ستسطع بإذن الله في كل مكان فتملأ الآفاق، ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف : 21].

يقول الله -تبارك وتعالى- في ثلاث آيات متشابهات في اللفظ والمعنى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [التوبة : 33]. ويقول: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [الفتح : 28]. ويقول: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [الصف : 9].

روى أحمد عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: “لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلاَ يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلاَمَ، وَذُلاًّ يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ” [أحمد (16957)].

صلوا وسلموا على من أمركم الله -جل جلاله- بالصلاة والسلام عليه فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:56].

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ , وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.