سورة الفاتحة

عناصر الخطبة

  1. أسماء سورة الفاتحة
  2. تفسيرها
  3. بيان اشتمالها على مقاصد الدين
اقتباس

فالحمد أوسع الصفات، وأعم المدائح، والطرق إلى العلم به في غاية الكثرة، والسبل إلى اعتباره في ذرات العالم وجزئياته، وتفاصيل الأمر والشيء واسعة جداً؛ لأن جميع أسماء الله تبارك وتعالى حمد، وصفاته حمد، وأفعاله حمد، وأحكامه حمد، وعدله حمد، وانتقامه من أعدائه حمد، وفضله في إحسانه إلى أوليائه حمد، والخلق والأمر إنما قام بحمده، ووجد بحمده، وظهر بحمده، وكان الغاية هي حمده؛ فحمده سبب ذلك، وغايته، ومظهره، وحامله ..

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلّ له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، وأطيعوه، واقرؤوا كتابه، وتدبَّروه، واعملوا به؛ وسنتحدث في هذا اليوم -إن شاء الله- عن فاتحة الكتاب: سورة الفاتحة.

وفاتحة الشيء أوَّلُه وابتداؤه، وسورة الفاتحة افتُتِح التنزيل الكريم، القرآن، بها، إما بتوقيف من النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو باجتهاد من الصحابة.

وفاتحة الكتاب صارت علماً بالغلبة لسورة الحمد، وقد يطلق عليها الفاتحة وحدها، وقال أبو جرير: سُمِّيَت فاتحة الكتاب لأنها يُفتتَح بكتابتها المصاحف، ويقرأ بها في الصلوات، فهي فواتح لما يتلوها من سور القرآن الكريم في الكتابة والقراءة.

وقد تسمى (أم القرآن) لتقدمها على سائر سور القرآن وتأخر ما سواها خلفها في القراءة والكتاب، تقدُّمَ الأم والأصل، أو لاشتمالها على ما فيه من الثناء على الله بما هو أهله، والتعبد بأمره ونهيه، وبيان وعده ووعيده، أو جملة معانيه من الحِكَم النظرية، والأحكام العملية التي هي سلوك الصراط المستقيم، والاطلاع على معارج السعداء، ومنازل الأشقياء.

وتسمى أيضاً (السبع المثاني)؛ لأنها سبع آيات تُثَنَّى في الصلاة، أي تُكرَّر فيها، وأكثر المفسِّرين على أن سورة الفاتحة مكية، وأنها سبع آيات.

وأصل معنى السورة لغة: المنزلة من منازل الارتفاع، ومن ذلك سور المدينة للحائط الذي يحويها، وذلك لارتفاعه على ما يحويه.

وأما الآية: فتأتي بمعنىً؛ لأنها علامة يُعرف بها تمام ما قبله وابتداؤه، فالآية التي تكون دلالة على الشيء يُستدَل به عليه؛ وإما بمعنى القصة، فيكون معنى الآياتِ القَصَص، أي قصة تتلو قصة.

وقد ابتدأت هذه السورة بقوله تعالى: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [1]، فالله -عز وجل- أدب نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم- بتعليمه تقديم ذكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله، وجعل ذلك سنة لأمته، فباسم الله يفتتحون كل شيء في رسائلهم وكتبهم وحاجاتهم. والمعنى: اقرأ بتسمية الله وذكره، وافتتح القراءة بتسمية الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا.

﴿والله﴾ عَلَمٌ على ذاته -سبحانه وتعالى-، قال ابن عباس -رضي الله عنه-: هو الذي يألهه كل شيء ويعبده، وأصله ﴿إلاه﴾ بمعنى مألوه، أي معبود.

والرحمن الرحيم أسماء مشتقة من الرحمة، إلا أن الرحمن اسم مخصص بالله لا يجوز أن يسمى به غيره، قال تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ﴾ [الإسراء:110]، فعادَلَ به الاسم الذي لا يشركه فيه غيره.

وجمهور المفسرين على أن معنى الرحمن المنعم بجلائل النعم، ومعنى الرحيم المنعم بدقائقها، وبعضهم يقول: إن الرحمن: هو المنعم بنعم عامة تشمل الكافرين مع غيرهم، والرحيم: المنعم الخاصة بالمؤمنين.

﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [2] أي: الثناء بالجميل، والمدح بكلمات ثابتة لله دون سائر ما يعبد من دونه، ودون كل ما برأ من خلقه.

واللام في ﴿الحمد﴾ للاستغراق، أي استغراق جميع أجناس الحمد، وثبوتها لله تعالى تعظيماً وتمجيداً كما في الحديث: "يا الله لك الحمد كله، ولك الملك كله".

فالحمد أوسع الصفات، وأعم المدائح، والطرق إلى العلم به في غاية الكثرة، والسبل إلى اعتباره في ذرات العالم وجزئياته، وتفاصيل الأمر والشيء واسعة جداً؛ لأن جميع أسماء الله تبارك وتعالى حمد، وصفاته حمد، وأفعاله حمد، وأحكامه حمد، وعدله حمد، وانتقامه من أعدائه حمد، وفضله في إحسانه إلى أوليائه حمد، والخلق والأمر إنما قام بحمده، ووجد بحمده، وظهر بحمده، وكان الغاية هي حمده؛ فحمده سبب ذلك، وغايته، ومظهره، وحامله.

فحمد الله روحٌ لكل شيء، وقيام كل شيء بحمده، فكل صفة عليا واسم حسن وثناء جميل وكل حمد ومدح وتنزيه وتقديس وجلال وإكرام فهو لله -عز وجل-، على أكمل الوُجوه وأتمـــِّها وأروعها، سبحانه وبحمده، لا يحصى أحد من خلقه ثناء عليه.

﴿رب العالمين﴾ الرب: تطلق على السيد المطاع، وعلى المصلح، وعلى المالك، ويجوز أن يكون مصدراً بمعنى التربية، وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئاً فشيئاً.

والرب باللام لا يقال إلا لله -عز وجل-، وهو في غيره على التقييد بالإضافة، كرب الدار، أي: صاحبها أو سيدها، ومنه قوله تعالى: ﴿ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ﴾ [يوسف:50] (أي سيدك)، وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ [يوسف:23]، أي: سيدي، وهو العزيز.

(والعالمين ) جمع عالَم، وهو الخلق كله وكل صنف منه، وإتيانه بصيغة الجمع لبيان شمول ربوبية الله تعالى لجميع الأجناس.

﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [3] إيرادهما عقب وصف الربوبية من باب قرن الترغيب والترهيب الذي هو أسلوب التنزيل الحكيم.

﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [4] وصف الله تعالى ذاته بأنه الملك يوم القيامة، ﴿والدين﴾ الحساب والمجازاة بالأعمال، ومنه: كما تدين تُدان.

فـ ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدَّينِ﴾ أي مالك أمور العالمين كلها في يوم الدين، وتخصيصه بالإضافة إما لتعظيمه وتهويله، وإما لبيان تفرُّدِه تعالى بإجراء الأمر وفصل القضاء فيه.

﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [5]: أي لك اللهمَّ نخشع ونذل ونستكين؛ إقراراً لك بالربوبية لا لغيرك؛ والعبودية عند العرب أصلها الذلة، ومنه سمي العبد ﴿عبداً﴾ لذلته لمولاه، وفيه إعلام بما صدع به الإسلام من تحرير الأنفس لله تعالى، وتخليصها لعبادته وحده لا شريك له، لا في محبته ولا في الخوف إلا منه ولا الرجاء إلا إليه، وفي التوكل عليه، والنذر له، والخضوع له، والتذلل والتعظيم والسجود والتقرب.

قال بعض السلف: الفاتحة سر القرآن، وسرها هذه الكلمة: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، فالأول تبرؤ من الشرك، والثاني تبرؤ من الحول والقوة، والتفويض إلى الله -عز وجل-؛ وفي الخبر الذي أخرجه الإمام أحمد وغيره: الشرك في هذه الأمة أخطر من دبيب النمل.

﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [6]، أي ألهِمْنا الطريق الهادي، وأرشدنا إليه، ووفِّقنا له، والهداية دلالة بلطف، والهداية هي الإرشاد إلى الخيرات قولا وفعلا،ً وهي من الله تعالى على منازلَ بعضُها يترتب على بعض ولا يصح حصول الثاني إلا بعد الأول، ولا الثالث إلا بعد الثاني.

فأول المنازل: إعطاؤه العبد القوي التي يهتدي بها إلى مصالحه، إما تسخيراً وإما طوعاً، كالمشاعر (الحواس) الخمسة، والقوة الفكرية.

وثانيهما: الهداية بالدعاء، وبعثة الأنبياء -عليهم السلام-، ومنه قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ [السجدة:24]، ومنه هداية القرآن، قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء:9].

وثالثهما: هداية يوليها صالحي عباده بما اكتسبوه من الخيرات، وهي الهداية المذكورة في قوله -عز وجل-: ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾ [الحج:24].

والمنزلة الرابعة من الهداية، هداية التمكين في مجاورته في دار الخلد، والتي عناها بقوله تعالى: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف:43].

ونكمل بمشيئة الله في الخطبة الثانية، وأسأل الله أن ينفعنا بالقرآن الكريم، وبسنة خاتم المرسلين، أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: عباد الله: إكمالاً لحديثنا عن سورة الفاتحة، نقول، وبالله التوفيق، إكمالاً لمعنى ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾: فمن معانيها وفِّقْنا لطريقة الشرع، أو احرسنا من استغواء الغواة، واستهواء الشهوات، واعصمنا من الشبهات، وغيرها من المعاني.

والصراط المستقيم قيل فيه: إنه هو كتاب الله القرآن الكريم واتِّباعه، وقيل دين الإسلام، وقيل هو السنة والجماعة، وقيل هو العمل بطاعة الله تعالى.

ومن كلام ابن تيمية -رحمه الله- في هذه الآية: كل عبد مضطر دائماً إلى مقصود هذا الدعاء، وهو هداية الصراط المستقيم؛ فإنه لا نجاة من العذاب إلا بهذه الهداية، ولا وصول إلى السعادة إلا بها.

فمَن فاته هذا الهدى فهو: إما من المغضوب عليهم وإما من الضالين، وهذا الاهتداء لا يحصل إلا بهدي الله القائل: ﴿مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا﴾ [الكهف: 17].

والصراط المستقيم أصله الطريق الواضح الذي لا إعوجاج فيه ولا انحراف.

﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [7]، أي: بطاعتك وعبادتك، والذين أنعم الله عليهم هم المذكورون في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء:69].

والمراد بالمغضوب عليهم والضالين هم كل من حاد عن جادة الإسلام من أي فرقة ونحلة، ويقول ابن أبي حاتم في تفسيره: لا أعلم بين المفسرين اختلافاً في أن المغضوب عليهم هم اليهود والضالين النصارى.

ويستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها: ﴿آمين﴾، ومعناه: اللهم استجب، أو كذلك فليكن، أو كذلك فافعل.

وآمين ليس من القرآن بدليل أنه لم يثبَّتْ في المصحف، والدليل على استحباب التأمين هو ما رواه الإمام أحمد وغيره من وائل بن حجر قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ: ﴿غير المغضوب عليهم ولا الضالين﴾ فقال: ﴿آمين﴾ مَدَّ بها صوته، وقال الترمذي هذا حديث حسن.

عباد الله: لقد اشتملت سورة الفاتحة على الترغيب في الأعمال الصالحة ليكونوا مع أهلها يوم القيامة، والتحذير من مسالك الباطل لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة، وهم المغضوب عليهم والضالون، أمرنا بقراءتها في كل ركعة من الصلاة فرضاً أو نافلة، فلنحرص على أن نفهم معانيها ونتدبرها ونعمل بها.

وسورة الفاتحة -على قصرها- حوت معاني القرآن الكريم، واشتملت على مقاصده بالإجمال، فهي تتناول أصول الدين وفروعه، وتتناول العقيدة والعبادة والتشريع، والاعتقاد الجازم باليوم الآخر، وإفراد الله -عز وجل- بالعبادة، والاستعانة به، وطلب الهداية منه.

وصلُّوا -عباد الله- على من أنزل الله عليه فاتحة الكتاب والقرآن العظيم، نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.