مقاصد سورة البروج

عناصر الخطبة

  1. أوجه التناسب والتشابه بين "سورة البروج" والسور التي قبلها
  2. المقصود ب "البروج" ولماذا أقسم الله بالسماء ذات البروج؟
  3. شرح تفصيلي لآيات "سورة البروج" وبيان مقاصدها وأهدافها
  4. الحث على قراءة القرآن وتدبره وتعليمه
اقتباس

“سورة البروج” ولكن الله في أولها يقسم قائلا: ﴿وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ﴾ [البروج: 1]، ليعلن الله من أولها أن له بروجا في خلقه، ليس ملوك الأرض فقط هم أصحاب البروج، بل لله بروج، وبروج الله أعلى وأرفع، وبروج الله أعظم وأكبر، بروج البشر تتهدم وتتساقط، وبروج الله باقية، فإنها ملازمة للسماء، والسماء باقية إلى قيام الساعة حتى يستبدل الله بها سماءً أخرى.

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين، نحمده -سبحانه وتعالى- ونستعينه ونستهديه، ونتوب إليه، ونستغفره، ونعوذ به -سبحانه- من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ولن تجد له وليا مرشدا.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تبقى أبراجه عالية تنادي بقدرته، وتشير إلى قوته، وتتساقط وتتهاوى أبراج ملوك الأرض واحدا تلو الآخر: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص: 88].

وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه وخليله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، صلوات ربنا وتسليماته على هذا النبي الكريم، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها الإخوة الأحباب: فهذا حديثنا عن مقاصد سور القرآن الكريم، ونعيش هذه اللحظات مع سورة “البروج”، والتي تربطها روابط شديدة بالسورة التي قبلها على سنة الله -تعالى- في التناسب بين سور القرآن، فقد نزلت سورة بمكة وسورة بالمدينة، وجاور الله -تعالى- بينهما في ترتيب المصحف، ومع ذلك تناسب كلام الله، وارتبطت جمله وسوره، وذلك من إعجاز الله في القرآن العظيم، فإن سورة “الانشقاق” قد سبقت بقول الله -تبارك وتعالى-: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ﴾ [الانشقاق: 19] أي لتتغيرن أحوالكم حالا بعد حال، ولتتقلبن في قالب بعد قالب، ودوام الحال من المحال، والذي يقلبكم إنما هو الله -عز وجل-، فهذه سنته في الخلق، وسنته التي أقام عليها الحياة الدنيا، كل شيء يتقلب ويتغير، ولا ثابت إلا الله -سبحانه وتعالى-.

وأقسم الله على ذلك بالقسم المتعدد تشديدا للأمر وتنبيها عليه.

“سورة البروج” تشير إلى واقعة من وقائع التغيير في الخلق وفي العباد والبلاد حيث سقطت أبراج ملك ظالم كان يستعبد الناس من دون الله، ويصور لهم أنه الرب والإله، زاد في طغيانه حتى أسقطه الله -تعالى-، وليس ذلك الملك هو وحده تحت هذه السنة الربانية، وإنما شاهدت الدنيا ورأت الأيام عديدا من هؤلاء من الذين يظلمون ويستبدون، من الذين يظلمون ويستحلون الظلم، ويستشرون به في العباد والبلاد، ويتمادون في هذا الطريق المظلم، حتى يبلغوا النهاية التي وضعها الله بسنته، وعندها يسوقون وينتزع الله منهم الملك انتزاعا.

وأجرم جريمة يجرمها هؤلاء جميعا وأمثالهم إنما هي: إيذاء المؤمنين، ومحاربة المسلمين الموحدين لله -عز وجل-، والصد عن سبيل الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ [البروج: 10]، من يحدث فتنة بين العباد وبين ربهم وهم الذين يعبدونه؟ إن الذين يفتنون عباد الله عليه حتى يعبدوا غيره، ويحتكموا إلى غير شرعه أولئك شر العباد، اقتربت نهايتهم، وتأتيهم خاتمتهم التي يلقون فيها حتفهم وهلاكهم، وصغارهم وذلهم، سنة لله ماضية أخبر الله عنها في السورة الماضية، ويعطي لها مثالا من التاريخ السابق في هذه السورة المباركة.

كما أن “سورة البروج” التي  نعيش معها اليوم تؤكد على ما ذكره الله -تعالى- في السورة السابقة عن الكافرين أنهم يكذبون بدين الله، هناك سبق معنا قول الله -تعالى-: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ(23)﴾ [الانشقاق: 22 – 23]، ويأتي في هذه السورة: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ(20)﴾ [البروج: 19 – 20].

والتناسب كثير، ولكن هذا على سبيل المثال، ومن تدبر وجد أكثر، هكذا سمى الله هذه السورة بهذا الاسم: سورة “البروج”، والبروج جمع برج، وهو البناء العالي الرفيع، تلكم الأبنية العالية الرفيعة إنها من شأن أهل العلو في الدنيا والسلطان والمال، هم الذين يترفعون بأبنيتهم ، ويعلون في الأرض بسلطانهم؛ كما قال ربنا: ﴿وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ﴾ [يونس: 83]، فالأبراج إشارة إلى القوة، ولا أقوى في البلاد وبين العباد من ملوكهم ورؤسائهم وأمرائهم وكبرائهم بما يظلمون.

السلطان يعطيه الكبر في النفس إلا من رحم الله، فيترفعون على العباد، ويتعالون عليهم، ويظنون أنهم أصحاب أبراج وأبراجهم مانعتهم من الله، حتى إذا اكتمل شرهم أخذهم الله ﴿أَخْذَةً رَّابِيَةً﴾ [الحاقة: 10].

“سورة البروج” ولكن الله في أولها يقسم قائلا: ﴿وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ﴾ [البروج: 1]، ليعلن الله من أولها أن له بروجا في خلقه، ليس ملوك الأرض فقط هم أصحاب البروج، بل لله بروج، وبروج الله أعلى وأرفع، وبروج الله أعظم وأكبر، بروج البشر تتهدم وتتساقط، وبروج الله باقية، فإنها ملازمة للسماء، والسماء باقية إلى قيام الساعة حتى يستبدل الله بها سماءً أخرى.

وحين يقسم الله فإنما يعلمنا أن لا نقسم إلا بأعظم الأشياء، فلا نقسم إلا بالله؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلمَ-: “من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت“، والله حين يقسم بشيء من الأشياء يقسم بأعظمها.

إذاً، البروج التي أقسم بها غير البروج التي في الأرض، إنها بروج أعظم بروجه هو سبحانه وتعالى.

ولأن هذه السورة تحكي واقعا من واقع الظلم، وحادثة من حوادث محاربة دين الله، ومعارضة شرع الله؛ لأن كفار مكة من البداية رفضوا أول الأمر أن تكون حكومة مكة وحكمها إسلامية تكون مرجعيتها إلى دين الله، إلى حكم الله، رفضوا ذلك، وأبوا عليه، وعارضوا النبي -صلى الله عليه وسلمَ- وأذوه وحاربوه، وأخرجوه من مكة إلى المدينة، فهذه السورة تكلمهم وتخاطبهم وتعلمهم وتذكرهم وتنذرهم، لذلك سورتنا المباركة سورة مكية نزلت قبل هجرة المصطفى -صلى الله عليه وسلمَ- إلى المدينة، لتذكر ظلمة قريش ومكة كلها بأن عاقبة الظالمين هكذا مهما علت وارتفعت أبراجهم، مهما عظمت وكبرت قواتهم، فهذه نهايتهم، فاحذروا على أنفسكم.

تربية نفسية، علمية، واقعية من أول مجيء هذا الدين إلى الدنيا يتربى عليها كل من أراد: ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾ [المزمل: 19]، فالسورة نزلت قبل الهجرة، ولكنها صالحة لكل زمان ومكان، ومتى عمل بها ملك من الملوك في الأرض وفي زمان من الزمان انتفع وارتفع، وثبت ملكه، ودام عرشه وسلطانه؛ لأنه يحكم بما حكم الله به، ومتى خالفها من ظالم، فإن ظهره مقصوم، وإن أمره معدوم، وإن سلطانه لذاهب، ولا بقاء له، وتلك سنة الله -تعالى- في خلقه.

سياق هذه السورة كالسور المكية بدأت بالقسم؛ لأن المخاطب بها يومها كان مكذبا، وإلى اليوم هناك من يكذب القرآن فيقسم الجليل له، وماذا إذا أقسم الله وقوله لا يحتاج إلى قسم: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً﴾ [النساء: 122]، ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا﴾ [النساء: 87]، وليس الكلام من عندنا، فما أدرانا أن السماء فيها أبراج، ما وصل عالم حتى الآن إلى السماء ليرى فيها أبراجها، إنما نرى نجوما لامعة، نقطة بيضاء في خلفية زرقاء يقال عنها: النجوم، والعلماء يصفون بعض ما رأوا من أحوال تلك النجوم، ولكن لا يعرفون أن للسماء أبراجا.

وما هو اليوم الموعود؟ قالوا: هو يوم القيامة، وما الشاهد والمشهود؟ اختلفت كلمة العلماء فيه؛ لأن الله -تعالى- لم يحدثه، الواحد منا يصلح أن يكون شاهدا في القضية، وأحيانا يكون مشهودا عليه، وذلك اليوم مشهود، يوم الجمعة يوم مشهود، يوم القيامة يوم مشهود، وكل من حضر تلك الأيام العظيمة فإنه شاهد، من الشاهد إذاً على وجه التحديد ومن المسؤول؟ لا علم لنا، فكيف نتكلم بكلام واضح ولكن لا ندري ما المراد به.

الصحابة -رضي الَله عنهم- لم تتفق كلمتهم على المراد بذلك الشاهد وهذا المشهود، مما يدل على أن هذا القرآن ليس من عندهم، ولا من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- ذاته، وإلا لقالوا: المراد كذا، والمراد، والمقصد كذا، فعدم الاهتداء إلى مراد معين، وكل يقول كلاما صحيحا ينطبق عليه الشاهد والمشهود دل ذلك على أن القرآن من عند ربنا المعبود -سبحانه وتعالى-.

يقسم الله، وماذا بعد القسم أنكذبه بعد ذلك؟ أنرفض شرعه بعد ذلك؟ أنكذب آياته ونترك أحكامه بعد ذلك؟! والله إنه لسوء أدب.

﴿وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ﴾ [البروج: 1]، قالوا: البروج هي نجوم السماء؛ لأنها نجوم عظيمة ليست كما نراها إنما هي رؤية عيننا، أما حقيقتها فهي عظيمة كبيرة، وعندنا مثالا وشاهدا ومشهودا من الدنيا: الطائرة أمام الإنسان كالعمارة طويلة فخمة عريضة واسعة، ويراها هناك في السماء نقطة سوداء في صفحة بيضاء، فهذه تحمل مئات الناس، ومئات الحقائب، غير وزنها، وتشق الهواء، والطريق بمسافة مئات الكيلومترات، إنها ثابتة أمام نظري، عينك ترى شيئا لكن المرئي والمشهود شيء آخر، فالنجوم كبيرة ضخمة هائلة لا يعمل حدودها إلا الله -تعالى-.

﴿وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ﴾ [البروج: 2] هو يوم القيامة، ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ [البروج: 3]، بقسم الله بالشاهد والمشهود؛ لأنه موقف عظيم، طالما اليوم الموعود هو يوم القيامة فلا داعي أن نترك هذه الصورة، وهذا المشهد العظيم، إنه مشهد اليوم الموعود، شاهد وأحداث المشاهدة، الشاهد هو الإنسان، كل إنسان يوم القيامة يشاهد أحوال القيامة من الحشر والعرض والحساب والجنة والنار والصراط والميزان، يرى كل هذا، كل إنسان يراه، المؤمن يرى النار ولا يدخلها، والكافر يرى الجنة ولا يدخلها، حتى ما لا يناله ولا تناله فيراه.

هذا هو الشاهد، ليشهد أن الله حق، ليشهد أن ما وعده الله على ألسنة رسله -عليهم الصلاة والسلام- كان صدقا، ولذلك يوم القيامة المؤمنون ينادون على الكافرين، أصحاب الجنة ينادون على أصحاب النار: ﴿أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [الأعراف: 44]، أقر الجميع في شهادتهم على ذلك اليوم: أن وعد الله الذي كان مجرد كلام في الدنيا صار الآن حقا واقعا وصدقا مطابقا لما سمعنا في الدنيا.

والمشهود هو أحداث القيامة، هذا من أرجح ما قيل، ولا مانع من قبول أقوال أخرى في ذلك.

يقسم الله بهذا القسم العظيم على ماذا؟ ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ﴾ [البروج: 4]، لعنوا؛ لأن الله أهلكهم، ورأينا هلكة أمثالهم، وإن لم يحدثنا القرآن كيف أهلك الله تلك الأمة الكافرة حدثنا عن هلكة فرعون وقومه، هلكة عاد، هلكة ثمود، هلكة قوم لوط، هلكة قوم نوح.

إذاً، هي مثلها كلها كما تقرأه في سورة الحاقة أخذة كبيرة، طاغية رابية زائدة عن الحد المطلوب، ليعلن الله -تعالى- قدرته العظيمة التي تكفي الحدث وتغطيه، وتفيض عنه لأمثاله، فهما كان القوم الكافرون أكبر أو أكثر أو أعلى من ذلك، فالله أكبر وأعلى من ذلك.

﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ﴾ [البروج: 4]، ﴿الْأُخْدُودِ﴾ هي حفر تحفر في الطريق بطوله، كانت أمة كافرة وعليها رجل أين كان اسمه؟ كان ملكا كافرا كفرعون استعبد الناس وعلمهم أنه هو الإله حتى أخرج الله من هذه الأمة شابا صغيرا أو قل غلاما يافعا أقل من الشاب، وأخذه الملك يربيه لنفسه، ولمصلحته، يعلمه السحر على يدي ساحر له، وكم يتخذ الكبراء هؤلاء من سحرة يدبرون لهم بعض الأمور، هذا شأن معروف.

فاتخذ الملك هذا الغلام ليعلمه السحر على يدي ساحره الكبير، حتى إذا مات الكبير قام الصغير مكانه، فالملك هو الذي يربيه وينفق عليه، ويغدق عليه العطايا، وهو الذي يعلمه هذا العلم الذي يفرق عقله من الحقيقة، ويملأه بالخيال والتخييل، كما ربى أناس شبابا على التفريغ الذهني والقلبي من كل شيء، مهم، فهم الذين قاموا له هذا الغلام هو الذي قام للملك.

يوم من الأيام تحركت سنة الله -تعالى- في إيقاف هذا الظالم عن ظلمه، فأسمع الغلام كلاما من أحد الرهبان، سمع كلاما جميلا غير كلام السحر، فانفتح له قلبه، ودان به مع الراهب؛ لأنه يبين من الخالق لهذا الكون، ومن المدبر لهذا الكون، أحداثه ومجرياته، فعرف أن كلام الساحر خيال، وتكذيب ووهم وإيهام، وأن كلام العابد هذا حق يخالط القلب، يقنع العقل فآمن بكلام الراهب، أظهر الله على يديه بعض الحوادث التي تؤيده وتثبته، وذات يوم أظهر الله أثره في المجتمع الذي حوله أبرأ بسبب دعائه رجلا أعمى كان  وزيرا عند الملك، وفعل كذا وكذا، بعض الحوادث فتح للناس طريقا كان مغلقا في يوم من الأيام بقدرة الله، هو يريد أمرا يعطيه الله أمرا أكبر منه تأيدا له حتى أدرك أن كلام الراهب هو الكلام الحقيقي، أما كلام هذا الساحر فإنه وهم وكذب.

فعلم الملك بحال هذا الغلام فأراد قتله، فسلط عليه أمنه ورجال أمنه وعسكره، فأخذوه إلى شاهق جبل ليلقوه من فوقه، فيموت ويستريح الملك من شره، ولا يفتن عليه الناس، هناك الغلام فوق قمة الجبل دعا الله، فلا رب له سواه، فقد كفر بهذا الملك بعد أن ظهرت له الحقيقة، قال: “اللهم اكفنيهم بما شئت“، يعني اللهم اكف هؤلاء الجنود بما شئت.

الله قريب دعا دعوة ولكنها بإخلاص وتعلق فتزلزل الجبل تحت أقدامهم فسقطوا جميعا إلا الغلام، فعاد على قدميه يسعى إلى الملك، أين أصحابك؟ قال: قتلهم ربي وأنجاني، فبعث به من يأخذه إلى البحر، وفي وسط البحر وعمقه يلقونه حتى يموت، تكرر الموقف نفسه: “اللهم اكفنيهم بما شئت” أخذهم البحر وابتلعهم، وأنقذ الله الغلام.

عاد على قدميه إلى الملك، فجن الملك! هذا هو الغلام الذي رباه، هذا هو الغلام الذي فرغه من الحقائق، لكن الله أراده للحقيقة ولم يرده للوهم، فقال للملك كلاما أذهله وأدهشه: “أتريد أن تقتلني أيها الملك؟” قال: نعم.

وانظر إلى أن السلطان دائما بعنفوانه وكبريائه وتكبره غبيا ويزداد غباءً كلما تكبر وغلاما يضحك على ملك، غلام صغير يخادعه، ملك قال: إني أنا الإله، القوة في الظاهر غير متوازنة، ولكن الله ينصر من يشاء، فقال الغلام للملك: “إذا أردت أن تقتلني فاجمع الناس في الفناء“، ولم يسأل الملك: لماذا نجمع الناس ولكن أطاع؟ اجمع الناس في فناء القصر، وخذ سهما وارمني به، وقل: “بسم الله رب الغلام“، ولم ينتبه الملك أن في هذه الكلمة هدما لربوبيته المزعومة، ولإلوهيته المزعومة، وقضاءً على مكانته المرسومة خيالا ووهما في أذهان الناس، غبي يحفر قبره بيده ولم ينتبه “خذ سهما وارمني به، وقل: بسم الله رب الغلام، وأسمع الناس هذا الكلام“، فما كان من الملك إلا أن فعل، وقف الغلام واحتشد الناس، وأخذ سهمه، وقال: “بسم الله رب الغلام“، فأصاب السهم الغلام في خده فمات، عندها قال الجميع: آمنا بالله رب الغلام، أحيا أمة وافتداها بنفسه، أحيا الله دينه بغلام صغير من تربية الملك، ليس غلاما متطرفا، ليس غلاما موحدا ممن كان يحاربهم ويسجنهم ويعتقلهم ويعذبهم، إنما غلاما هو الذي رباه على يدي رجاله وفي داخل سلطانه، أقامه الله عليه، ونصره الله عليه، فجعل الناس جميعا يقولون: “آمنا برب الغلام“، وهذا ما يحذر الملك ويخاف، أراد أن يرد الناس على ما كانوا عليه من ملة سابقة فلم يستطع أمام هذه الهجمة الساحقة، الشعب كله يقول: ذهب الملك في الدنيا، وبقي الله، ونحن مؤمنون بالله رب الغلام.

سلط جنوده وأمنه أن يعبثوا في البلاد، وأن يقتلوا أولئك العابدين لله المصححين لعقيدتهم، فحفروا أخاديد في الطرقات حفرا كبيرة، وأبرموا فيها نارا عظيمة، وأمروا الناس بالقول والفعل أن يلقوا بأنفسهم في تلك النار، الموحدون سبحان الله! رغم أن إيمانهم وليد اللحظة عمره أياما أو يوما أو لحظات، لم يكن آباؤهم مسلمين ولا موحدين في معظم الشعب، وإنما كانوا مغلوبين على أمرهم، مكرهين على الكفر، فلم يروا إسلاما قبل ذلك، ما رأوا إلا هذا المشهد، ولم يسمعوا من الإيمان إلا هذا الكلمة، بعد كلمات قليلة متناثرة من الغلام هنا وهناك، فآمنوا إيمانا ولد من لحظات من ساعات، ورغم ذلك ألقوا بأنفسهم في النار هروبا من حال الكفار، ولئلا يدينوا لهذا الملك الظالم مرة أخرى.

وذكر في ذلك امرأة تحمل طفلا رضيعا بعد أن أقبلت على النار لتلقي نفسها، ذكرت غلامها فتراجعت، وكأنها خافت على وليدها، فأنطق الله الغلام وقال: “تقدمي يا أماه فإنك على الحق“، فألقت بنفسها ووليدها في النار.

هؤلاء هم الموحدون، الجنة هكذا لا تأخذ هكذا إلا بقوة، لا تأخذ إلا بثمن، لا تأخذ إلا بتضحية، ولو أحرقنا في الدنيا، ولكن انتهى عهد الدنيا ومن بقي من المؤمنين في هذه الأمة قام بإيمان جديد، وحياة جديدة، يوحد الله -تبارك وتعالى-، هذا تاريخ متكرر، حلقات في سلسلة واحدة، تمر في الأيام وحلقاتها، فاعتبروا بما ذكر الله في القرآن.

﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ(6)﴾ [البروج: 4 – 6]، الظلمة قاعدون على النار يضحكون ويفرحون بما يفعلون بالمؤمنين: ﴿النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ(7)﴾ [البروج: 5 – 7]، يعلمون أنهم لا ذنب لهم، ويشهدون تعذيبهم، بل بأيديهم يفعلونه: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ﴾ ما ذنبهم؟ ما ذنب هؤلاء المؤمنين؟ ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ﴾ أي وما أذنبوا وما أجرموا إلا ذنبا واحدا في نظر هؤلاء الظلمة، ولكن في الحقيقة ليس ذنبا: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ﴾ جريمتنا: أننا نؤمن بالله، جريمتنا أننا نريدها لله لا لأنفسنا، نقمتنا أننا نريدها من حكم الله ومن تشريع الله، لذلك فنحن إرهابيون ومتطرفون ومتكلفون، إلى آخره.

من الذي شرع المدنية؟ من الذي شرع الديمقراطية؟ من الذي شرع العسكرية؟ لا أحد، لا ندري إن كان فهو إنسان مخلوق جاهل قاصر في عقله وفكره، مهما بلغ علمه، ولكن الذي شرع الإسلامية والشرعية إنما هو الله -سبحانه وتعالى-، العليم الحكيم الخلاق الرزاق ذو القوة المتين.

﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [البروج: 8]، عزيز قوي، قوة لا تبارى ولا تسابق ولا تشابه، حميد مع قوته العظيمة التي لا نهاية لها، فلا تجد مذمة له بسبب قوته أنه ظلم فلان، أو ظلم كذا، أو ظلم كذا.

القوى عادة تدعوه قوته إلى ظلمه، ولذلك قالوا: “إذا دعتك قوتك إلى ظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك“، فالله بقوته المطلقة لا يظلم الناس شيئا، لا يظلم مثقال ذرة، ولذلك فهو  محمود بقوته، القوة فيه رمز للحمد وصفة ممدوحة هي من كمالاته سبحانه وتعالى.

والمقوم الأساس في أن يؤمن الناس بالله: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، حينما تكون في بيتي، وتخضع لنظامي في بيتي، وأنت ضيفي، أهذا يذم فيه؟! بل أنت بهذا مهذب على خلق تحترم المكان وصاحبه، وحينما أكون في بيتك فالأمر لك أنت، كلنا في بيت الله، كلنا في ملك الله، فإذًا الأمر لمن؟ ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [البروج: 9]، لا يظلم الظالم بعيدا عن عين الله، ولا يبغي الباغي بعيدا عن مراقبة الله، بل الله شهيد على كل شيء، وبالتالي لا بد أن يحاسب كلا على عمله، وأن يجازي كلا بكسبه، يجد الظالم نهايته، ويرفع عن المظلوم يوما ما ذلك الظلم الذي وقع عليه، فأبشر -أيها المظلوم- بفرج قريب: ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾.

ثم توعد الله بسنته الماضية في الخلق جميعا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ أحدثوا فتنة بين العبيد وبين ربهم، يريد الناس أن يؤمنوا، يريد الناس الدين والتدين، وهذه فطرة فينا، وهذه غريزة أغرزت فينا، وعندنا خلفية إسلامية من خلال آبائنا وأجدادنا، من خلال بيوتنا وأهلينا ربونا على ذلك، فالناس من داخلها تحب الدين، ولكن الظالمين يأبون عليهم ذلك فيفتنونهم عن دين الله، فيصورون لهم الالتزام بأنه تزمت، والتدين بأنه تخلف، والحجاب بأنه خيمة، واللحية بأنه عدم نظافة، والقميص الأبيض للرجال قميص رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- وقميص يوسف، وقميص فلان وفلان من الأنبياء، هذا ملبس الأنبياء يصورون أن هذا رجعية!

ما ينفعك يا بني إلا جمل تركب عليه؟! وما المانع؟ ويوم أن يذهب بترولكم وطاقتكم هذه، يوم أن يذهب الله بها كما فتحها عليكم ماذا تركبون يومها؟ سيعود الناس إلى التاريخ الأول وتدور الدنيا إلى بدايتها الأولى، ويركب الناس الخيل والبغال والحمير حيث لا يجدون وقودا لتلك الآلات الحديثة، ويرجع الناس يتقاتلون بالسيف بعد ما كانوا يتقاتلون بالكمبيوتر، وما إلى ذلك. ما العيب في هذا؟ ولكن ما قلنا هذا ولا ادعيناه، بالقميص، ونركب السيارات، بالقميص ونتكلم في التلفونات، بالقميص ونجاري الحياة في تصورها ونستعملها ما كان منها حلالا موافقا لشرع الله، وما كان حراما فنحن منه براء ولا نريده.

﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ [البروج: 10]، وفي مقابلها أولئك المظلومون: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾ [البروج: 11]، ليس الفوز الكبير في الدنيا بأخذ الأموال والأطيان وحيازة الأراضي الكبيرة ظلما وعدونا وبغيا أو حقا وصدقا، ليس الفوز في هذا، ليس الفوز لمن أحرز أهدافا في العرضة الخشبية، ولكن الفوز الحقيقي من فاز بالجنة ولو بأي تقدير ولو بأي شكل ولو بأي مكان منها: ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: 185].

﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ [البروج: 12] إعلان عظيم مخيف مرعب، لمن سمعه، لمن فهمه: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ [البروج: 12] ضربته قوية: ﴿إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ﴾ [البروج: 13]، ﴿يُبْدِئُ﴾ كل أمر وينهيه، ومنه بداية الخلق ونهايته، ﴿يُبْدِئُ﴾ الدنيا وينشأ الآخرة، ويعيد الناس فيها مرة أخرى، ﴿يُبْدِئُ﴾ للظالم مقاما فإن ظلم فيه ولم يتق الله ولم يتب، فالله -تعالى- ينهيه ويعيده على ما كان عليه من قبل من خزي وهوان وذل وفقر، يعيد كل أمر بدأه قادر على كل شيء.

﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ﴾ [البروج: 14] مع قدرته العظيمة وبروجه الشديدة إلا إنه غفور يغفر الذنب ويستره، ودود يتودد إلى عباده بنعمه وستره عليهم، والإملاء لهم، أن يمد لهم في آجالهم وأعمارهم وأقواتهم لعلهم يتوبون، فمن تاب تـاب الله عليه: ﴿وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الحجرات: 11].

﴿إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ(15)﴾ [البروج: 13 – 15] ﴿فَعَّالٌ﴾ ليس فاعلا فقط، بل ﴿فَعَّالٌ﴾ إذًا، يفعل كل شيء يفعل ما أراد: ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ [البروج: 16].

﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ﴾ [البروج: 17] أمثلة على فعل الله -تعالى- ، هل سمعت خبر الأقوام السابقة؟ ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ(18)﴾ [البروج: 17 – 18]، نعم جاءنا الخبر في سور أخرى، وقرأنها مفصلا، كيف أهلك الله قوم ثمود بصيحة من ملك، صرخ فيهم صرخة فصعقوا جميعا، رأينا كيف أهلك الله فرعون بكل قوته في البحر في لحظة.

﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ﴾ [البروج: 19]، بل يعني الحقيقة وواقع الأمر أن الذين كفروا في تكذيب، في السور السابقة كانوا مكذبون حالها، ولكن هم على ذلك دائما: ﴿فِي تَكْذِيبٍ﴾ تفيد إغراقهم وسقوطهم، فكأن حياتهم كلها في وسط أكذوبة، هذا القرآن ليس من عندي، هذا كلام الله من ألف وأربعمائة عام، الظالم يعيش داخل أكذوبة، وعشنا تلك الأكذوبة ورأينا تلك الأكذوبة، كل ما فيها كذب إلى آخر لحظة، وانكشف الأمر! سبحان الله!

كون الكافر يكون في تكذيب، فهذا متوقع منه الكفر لا ينتج إلا التكذيب والبهتان، أما أن واحدا مما يزعم الإسلام ويدعيه يجعل حياته كحياة الكافرين، فتلك سقطة كبيرة، تلك نهاية وخيمة لا يدري مداها إلا الله -سبحانه وتعالى-، فلذلك يحكم بعض العلماء على مثل ذلك بالكفر، كفر؛ لأنه فعَل فِعل الكافرين والله أعلم بعباده، الأمر صعب، مسلم وتفعل مثل الكافرين تفتن المؤمنين والمؤمنات.

احذر -يا أيها الأب-، احذر -يا أيها الإنسان- ولدك يريد الالتزام ابن أو بنت، زوجتك تحت إمرتك تريد الالتزام بدين الله، وترفض عليهم، وتأبى عليهم وتمنعهم! احذر، ليس مثلك من يفعل هذا. محافظ، وزير، أعلى.. على أي موقع كنت احذر أن تفتن من تحت يدك على ربهم، وأن بينهم وبين طاعة الله -عز وجل-، بزعم أنك صاحب القوة هنا وصاحب الأمر هنا وأنت الذي تقول وأنت الذي تقرر، وأنت.. وأنت، ما أنت إلا خليفة لله في أرض الله على شرع الله، مستخلف في الأرض بنظام إن أقمته أقامك الله، وإن هدمته فالنهاية معروفة: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ [البروج: 12].

﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ(20)﴾ [البروج: 19 – 20] بقدرته وعلمه فلا يفلتون منه أبداً مهما علا سلطانهم، مهما بعد جاههم، مهما.. مهما، فالله يستطيع أن يأتي بهم مهما كان، من وصايا لقمان -رحمه الله-: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ﴾ مثقال أي وزن ﴿حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ﴾ لماذا؟ وكيف؟ ﴿إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان: 16] يعلم الصغائر الدقائق اللطائف، ويعلم الكبائر العظيمة، لا يغيب عن علمه وعن قدرته شيء.

﴿مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ(21)﴾ [البروج: 20 – 21] هذا الكلام الذي نقرأه، هذا الكلام الذي نعيش في ظلاله، هذا الكلام الذي يصدع أذان وقلوب الكافرين اليوم وكل يوم ولا يؤمنون به، هذا الكلام الذي نريده أن نحكمه فينا وفي الجميع: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ﴾ [البروج: 21]، ليس لنا دورا فيه، من أول رسول الله -عليه الصلاة والسلام- إلى آخر مسلم في الدنيا، ليس لنا دورا فيه إلا أننا نقرأه فقط، نقرأ ونتدبر ونتعلم، أما إنتاجه، أما التكلم به، أما ترتيبه واختيار حروفه وكلاماته، وجمله وآياته وسوره، فإنما كل ذلك لله وحده لا شريك له.

﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ﴾ [البروج: 21] باق، ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، لا يعطله شيء، ولا يمنعه شيء، ولا يمحوه شيء، فإنه محفوظ في السطور فإن محيت السطور من الأوراق، فإنه ثابت ومحفوظ في الصدور، ولا يذهبه منها شيء.

﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ(22)﴾ [البروج: 21 – 22] حتى وإن عبث الناس في المصاحف، وقتلوا حفظة القرآن في الأرض، فإن القرآن ثابت في اللوح المحفوظ في البيت المعمور في السماء السابعة، فليرينا أي قوي كيف يصل إلى هناك؟ وقد قال الله -تعالى-: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ) [الواقعة: 77 – 79] مجرد المسيس، مس، لمس، ممنوع: ﴿لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ(80)﴾ [الواقعة: 79 – 80].

هذا هو سياق السورة، وكما يبدو لنا من خلال استعراضها أن هدفها الإشارة إلى أن قوة الله، وبروج الله؛ أعظم من كل بروج تقام في الدنيا بقوة، فمهما كانت لك بروج -أيها الإنسان- وكان لك في الدنيا بروج فاعلم أن الله أقوى، وأن الله أعلى، وأن الله أكبر، وأن الله أحكم، ولعله بذلك شرع الأذان خمس مرات في اليوم، وربما أكثر من ذلك، فكانوا قديما على عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- كلما أراد النبي -صلى الله عليه وسلمَ- لأمر، أو لجمع ما، يأمر بلالا أن يؤذن فيهم، فإذا أذن بلال في وقت غير وقت الصلاة لا يقولون: أخطأ بلال، ولكن يعلمون أن النبي يريدنا لأمر جامع، فهيا بنا إلى النبي -صلى الله عليه وسلمَ-.

في كل هذه المرات على طول اليوم الذي يعيش فيه الناس مستيقظين، وكانوا ينامون بعد صلاة العشاء بقليل، إنما طول نهارهم إلى دخول ليلهم: الله أكبر، الله أكبر، وهناك الله أعظم، الله أعز، الله أمجد، الله أحق.. ولكن هي: الله أكبر فقط هذه هي التي يسعى إليها كل مؤذن، وينطق بها كل مؤذن، فهذه الكلمة تذكر بعظم الله وقوته سبحانه وتعالى، وأنه لا كبير مثله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: 11].

أقول قولي هذا، وأستغفر الله -تعالى- لي ولكم فاستغفروه دائما إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

أما بعد:

فأوصيكم -عباد الله- بتقوى الله العظيم، ولزوم طاعته، وأحذركم ونفسي من عصيانه، ومخالفة أمره، فهو القائل سبحانه وتعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: 46].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله، اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون -عباد الله-: أوصي نفسي وإياكم بقراءة القرآن الكريم، وتدبر آياته، كما أمرنا ربنا، ودعانا إلى ذلك، لنتعلم ولنعرف سننا ثابتة لله -تعالى- تمضي في القلب، وبعلم هذه السنن يعيش المؤمن على أمل جميل، على أمل حق، على أمل صادق، الله هو الذي أعطاه هذا الأمل حينما قص عليه قصة قوم كذا، وقصة الطاغية فلان، وقصة الظالم فلان.. هذا القصص يعطينا الأمل بانفراجة يوم من الأيام ندركها نحن أو أبناؤنا من بعدنا؛ لأننا لا نريدها انفراجة لأنفسنا وذواتنا إنما نريد انفراجا عن حكم الله، حكم الله المأثور، حكم الله الممنوع، حكم الله المبغوض جهلا وعدوانا ينبغي أن يخرج إلى الوجود.

وأقولها مكررا: الخلق لله، والملك لله، والعباد لله، فلا يحكم فيهم إلا الله، والله قالها على أجمل وقالها على أفضل من ذلك، قالها الله على ما يعجز القائلين جميعا مهما كانوا بلغاء، قالها الله في كلمات معدودات: ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾ [الأعراف: 54].

وديننا ما ترك أحدا إلا وشرع له ما يقيم إنسانيته، ديننا أو حكم ربنا -سبحانه وتعالى- حفظ للمسلم حقه، وحفظ للكافر حقه، وحفظ لأهل الكتاب حقهم، كلا له معاملة، وكلا له حق في الحياة، وحق في الأرض، وحق في الأمن، وحق في المعاش، نحن لا نضيق على غيرنا، نحن لا ننكر الآخر، بل نعبد الله -تعالى- بأداء حقه له، هذا حكم الله، إنما لا نشرع من عند أنفسنا ولا نريدها لأنفسنا، فليقم بها من يقم، ولكن على شريطة أن يطبق حكم الله، هذا هو الحق الذي ينبغي أن يعرف، وابسطوه وانشروه مهما استطعتم من ذلك سبيلا، ليعلم الكل؛ لأن أعظم ما يحزن النفس أن المسلمين هم الذين ينادون بغير ذلك، يضاهؤون قول الذين كفروا من قبل، مسلم ولا يريدها شرعية، ولا يريدها إسلامية؛ لأنه لا يدري ما معنى مدنية؟ ما المقصود وراءها، ما معنى إسلامية؟ ما معنى ديمقراطية؟ وينبغي أن ندرك أن كل هذه الدعاوى فهي تشريع بشر، تجربة بشر جربوها قبلنا، ونريد أن نخوض الطريق وراءهم مع علمهم أنها فشلت بهم، وفشلوا بها، والغرب اليوم لعلكم قرأتم وسمعتم وعرفتم بما ملأ الأسماع: أن الغرب اليوم مع الأزمة الاقتصادية والانهيار الاقتصادي السابق القريب منا بدؤوا يجربون على طريقتهم: النظام الاقتصادي الإسلامي! الكافر يجرب الدين، والمسلمون لا يريدون أن يجربوا الدين! كان يقول الداعية المجاهد الكبير الشيخ كشك -رحمة الله تعالى عليه- كان يقول: جربتم الاشتراكية والشيوعية والديمقراطية، وكذا.. وكذا، ورأيتم عوارها ونقصانها وأضرارها وسلبياتها، فلتجربوا الإسلام مرة، جربوه من باب التجربة فإن حلى لكم تحقق لكل ذي حق حقه فبها ونعمت، وإلا حق لكم ساعتها أن تغيروا، ولكن جربوه بحق، جربوه بصدق، جربوه بدون تزييف أو تغيير فيه، جربوه بما أنزل الله، وإن كانت كلمة: “جربوه” هذه جريمة أن نجرب حكم الله، أن نفتش وراء حكم الله، أن نحاول أن ننظر ما العيوب التي تظهر لنا في دين الله، فإن الله قالها من أول كلمة في القرآن بعد الفاتحة: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: 2] الكثيرون يعرف ﴿لاَ رَيْبَ﴾ بمعنى لا شك، لا خطأ، ﴿لاَ رَيْبَ﴾ يعني لا طعن فيه، لا نقص فيه، ليس فيه مكان ترتاب فيه، تتشكك شكا تصاحبه تهمة فتتهم القرآن، إلا أن نكون نحن الذين لم نفهم فلو عاودنا القراءة والتدبر والنظر والبحث وجدنا القرآن هو الحق، وأن أفكارنا هي التي أخطأت، وأن نظرتنا هي التي أخطأت، وإنما كتاب الله بما احتوى عليه من شريعة: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2].

نسأل الله -تعالى- أن يجلي ذلك للخلق جميعا، وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه.