احفظ الله يحفظك

عناصر الخطبة

  1. حاجتنا إلى حفظ الله تعالى وعنايته
  2. حفظ الأوامر والحدود طريق لحفظ الله للعبد
  3. كيف يحفظ المؤمن ربه؟!
  4. كيف يحفظنا الله عز وجل؟!
اقتباس

ما أحوجنا لحفظ الله ورعايته وصيانته في وقت كثرت فيه الفتن من شهوات وشبهات ومغريات، أمام طوفان هذه المغريات والفتن نحتاج أن نحتمي بحمى الحفيظ العليم -سبحانه وتعالى-: ﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾، ولكن كيف نحتمي بحماه؟! وكيف ندخل تحت حفظه سبحانه وتعالى؟! دونك وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- الشهيرة التي ألقاها من فوق دابة ..

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)﴾ [الأحزاب: 70، 71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

إخوة الإسلام: ما أحوجنا لحفظ الله ورعايته وصيانته في وقت كثرت فيه الفتن من شهوات وشبهات ومغريات، أمام طوفان هذه المغريات والفتن نحتاج أن نحتمي بحمى الحفيظ العليم -سبحانه وتعالى-: ﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [يوسف: 64]، ولكن كيف نحتمي بحماه؟! وكيف ندخل تحت حفظه سبحانه وتعالى؟! دونك وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- الشهيرة التي ألقاها من فوق دابة، لم يلقها في فندق ضخم، ولا صالة كبيرة، ألقاها من فوق ظهر دابة بكلمات موجزة فيها قواعد مهمة، يقول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه الترمذي في سننه وصححه جمع من أهل العلم منهم المحدث الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى-، يقول -عليه الصلاة والسلام- لابن عباس: "إني أعلمك كلمات"، كلمات محدودات، والنبي أُعطي جوامع الكلم، تجدها كلمات ملغومة بمعانٍ كبيرة تعجز الأذهان عن تفسير ما فيها من معان عظيمة، "إني أعلمك كلمات"، والمقصود بالتعليم هنا ليس مجرد الثقافة، والتزود بالمعلومات، إنما ترجمتها إلى واقع، لذلك تعوذ النبي -صلى الله عليه وسلم- كما روى مسلم في صحيحه من حديث زيد بن أرقم: "تعوَّذ من علم لا ينفع"، بل ربما يكون العلم وبالاً، لا يتعدى فقط أنه لا ينفع، بل يتجاوزه أن يكون وبالاً على صاحبه، والقرآن حجة لك أو عليك. رواه مسلم.

والقرآن هو أساس العلم.

"إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك"، هذا الذي يهمنا من الحديث، والحديث بإمكاننا تسنيده إن شئتم، "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك"، وفي رواية عند أحمد صحيحة: "تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة". هذه رواية أحمد. "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف".

فضاء كوني شرعي محسوم لا يقبل التغير: ﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [ق: 29]، احفظ الله يحفظك، أسأله -سبحانه وتعالى- أن يبارك في هذه الدقائق لنقل ما خلف هذه الكلمة من معانٍ عظيمة.

احفظ الله يحفظك، يقول -سبحانه وتعالى- ممتدحًا العفيفات حفيظات الفروج: ﴿حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ﴾ [النساء: 34]، في قراءة: (لما حفظ الله)، أي إن الله حفظهن بحفظ الله لهن، وبتفسيرها بقراءة أخرى ثابتة كذلك أي بسبب توحيدهن وحفظهن التوحيد بلا رياء ولا سمعة حفظهن الله -عز وجل-.

﴿حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ﴾: حافظات أزواجهن في غيباهن، لم يقربن الزنا ولم يطلعن لشخص آخر في حفظ الله لهن، في قراءة الضم.

"احفظ الله يحفظك"، إذن حفظ الله -سبحانه وتعالى- ليس في حفظه ذاته، فالله هو الحفيظ: ﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ نحفظ ماذا؟! نحفظ شرعه، نعظم دينه، نحفظ أوامره، نحفظ قلوبنا عن أن تفسد بالمعاصي، هذا هو حفظ الله -سبحانه وتعالى-.

فإذا حَفِظْنَا الله -عز وجل- حَفِظَنَا الله، عهد وميثاق، والله قال: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ [البقرة: 40].

"احفظ الله يحفظك"، فالله لا يخلف الميعاد، والمنافقون يخلفون الميعاد، إذا وعد أخلف، والله إذا وعد وفّى سبحانه وتعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾، ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾، يقول: اذكروني فقط وأنا أذكركم، بالحفظ بالرعاية بالتوفيق بالتسديد، لذلك قال بالمعنى العام: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: 97]، حفظه الله بحياة علم وسعادة، حياة طيبة بما تحمل الكلمة من معنى، ليست حياة رخيصة ذليلة: (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ –هذا في الدنيا– أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). رزقنا الله وإياكم حفظه.

نحفظه بماذا؟! نحفظه بالتوحيد كما سمعتم، الحافظ الله، حفظنا الله بالتوحيد، اللهم -سبحانه وتعالى- استأمنا على التوحيد، أعظم حفظ نحفظه أن نحفظه بالتوحيد، لذلك جعله عهدًا وميثاقًا في صُلب أبينا آدم وأخذ علينا العهد: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف: 172].

إذًا عهد التوحيد، لذلك ضمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، في حديث معاذ وعند غيره "أن من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة"، توحيد نقي، ما فيه ملوثات، ليس توحيدًا منقوصًا ربما يورث المفاسد والمهالك، نعوذ بالله.

حفظ التوحيد أن نعظم الله، أن نعرف قدر الله، أن لا نخشى إلا لله، أن لا نصدق إلا لله، أن لا نصلي إلا لله.

نحفظ الله -سبحانه وتعالى- بعد التوحيد في الصلاة، أكثر من آية في موضوع الصلاة من أشهرها: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ(2)﴾ [المؤمنون: 1، 2]، ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ [المؤمنون: 9]، ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ [البقرة: 238]، ففي حديث الترمذي الشهير: "خمس صلوات فرضها الله علينا في اليوم والليلة، من حافظ عليهن كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليهن لم تكن له نورًا ولا برهانًا ولا نجاة يوم القيامة، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه".

يتخلف عن الصلاة، تارة يصلي وتارة لا يصلي، أما الذي لا يصلي فهو كافر أصلاً، وإن سُمِّي عبد الله ومحمدًا فهو ليس من عباد الله، هو من عباد الشياطين، ليس قدوته محمدًا –صلى الله عليه وسلم، بل قدوته التافهون الذين يعيشون حياة رخيصة.

أنا أتكلم عن المحافظة الآن، حافظوا عليها بأركانها، بشروطها، بواجباتها، بروحها، بخشوعها، هؤلاء يحفظهم -سبحانه وتعالى-، وتكون لهم نورًا ومنهاجًا وطريقًا واضحًا ونجاة يوم القيامة، والصلاة الوسطى مخصوصة بالحفظ -صلاة العصر-، اللهم اجعلنا ممن يحافظون على صلواتهم.

الوضوء مقدمة الصلاة، يقول -عليه الصلاة والسلام-: "لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن"، فالعلماء حكموا على الوضوء تارة يكون واجبًا، وتارة يكون مستحبًا، الواجب أن تؤدي الصلاة في وضوء، أن تغتسل من الجنابة، وهذا هو الواجب، والمستحب أن تكون على وضوء دائمًا، تتوضأ عند نومك، عند سفرك، تتوضأ في الضحى وتصلي ما كُتب لك، هذا من المحافظة على الوضوء وليس واجبًا بل هو مستحب، فإذا لقي الله -عز وجل- يكون في أحسن أحواله، نسأله -سبحانه وتعالى- أن يجعلكم ممن يعنَوْنَ بطهارة الباطن والظاهر.

حفظ البطن وحفظ الرأس، يقول -عليه الصلاة والسلام- في حديث أحمد الصحيح: "الاستحياء من الله حق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى". حديث صحيح.

من يستطيع أن يحفظ رأسه وبطنه؟! إنه تحدٍّ كبير، النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: "من يحفظ ما بين فكيه -وفي رواية لحييه- وما بين رجليه دخل الجنة".

من يستطيع أن يحفظ ما بين فكيه؟! أن يحبس هذا اللسان، الذي قال الصديق قديمًا: "ما رأيت أحق بطول سجن من هذا اللسان". أحسن سجن هذا، سجن مبارك.

يقول -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي هريرة الثابت عن مسلم: "ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت". إذا ما قدرت أن تقول خيرًا فالله يعذرك، احفظ ما بين فكيك من الغيبة، من النميمة، من السخرية، من الكلام الفارغ الذي يولد المهالك، وقديمًا قال -صلى الله عليه وسلم-: "وإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفًا".

وعندما سأل معاذ أعلم الناس بالحلال والحرام عن أصول الإسلام سأل عن أشياء كثيرة، ثم أراد النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يودعه بوصية جامعة، قال: "أنا أخبرك بملاك ذلك كله"، فقال: بلى يا رسول الله، قال: "كف عليك هذا"، وفي رواية: "أمسك عليك هذا"، قال: أو نحن مأخوذون بما نتكلم به يا رسول الله؟! معاذ يسأل هذا السؤال، قال: "ثكلتك أمك يا معاذ"، يعني هلكت إن كنت لا تعرف هذا المعني، فقال: "وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم". نعوذ بالله.

من يحفظ لي ما بين فكيه وما بين رجليه دخل الجنة: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ﴾ [المؤمنون: 5]، نفس السياق، سياق سورة المؤمنون التي هي خاصة بالمؤمنين، الإيمان ليس شعار، ليس المؤمن عبد الله: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ -من هم يا ربي- الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) [المؤمنون: 1، 2]، ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(6)﴾ [المؤمنون: 5، 6].

إذًا ملومون في اللواط، في الزنا، في السحاق، في العادة السرية، هكذا علماء السنة، علماء الفقه، علماء الشريعة، وليس علماء الفضائيات، وليس كلهم في سلة واحدة، علماء السنة، علماء القرآن يقولون: كل من تعدى هذا المطلب الشرعي فهو معتدٍ: ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾ [المؤمنون: 7].

احفظ فرجك، لذلك قال -سبحانه وتعالى-: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ [النور: 30]، ليتك تحفظ فرجك وتغض بصرك، لا تحفظ mbc عندك الله يحفظك، الملابس الساخنة والقبلات الساخنة، أنت مخطئ، الله يقول: أنت مخطئ، والواقع والعقل يقول كذلك، أغلق هذا البصر عن مواقع النت الخبيثة والمواقع الإباحية، وأبشر بسكون الشهوات: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(6)﴾.

إذًا حفظ الفرج، حفظ اللسان، وحفظ البصر، وحفظ السمع، كل ذلك داخل في حفظ الله، مجمع الحواس، مجمع منافذ المعرفة، طل على القرآن، لا تطل على الفحشاء والمنكر، اسمع الكلام الطيب قبل أن تقول لو كنا نسمع الكلام الطيب ما كنا في أصحاب السعير: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 36].

حفظ اليمين: ﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾ [المائدة: 89]، الحديث عن اليمين يطول، ويحتاج إلى خطبة كاملة، وأسوأ اليمين ما فيه أخذ حق المسلمين، وما به كذب على رب العالمين، وهذا تعريف اليمين الغموس عند العلماء، الذي يؤخذ به الحقوق أو الذي يُكذب به على الله، يكذب ثم يحلف، والله صار كذا وما صار، ما أجرأ هؤلاء على الله!! يمين غموس تغمسهم في الإثم، تغمسهم في جهنم، اليمين الغموس غير الحلف على شيء مستقبل، والله إن حصل كذا لتأكلن ذبيحة، وهكذا، فهذا إن قام بها وإلا كفّر عن يمينه وانتهى الموضوع، لكن اليمين الغموس لا ينفع معها ألف كفارة ولا مليون كفارة؛ لأنه حلف على خلاف الواقع، تحتاج إلى توبة صادقة، فما إلا أن تقطع قلوبهم التوبة، تقطعها التوبة، يشعر بعظمة الجريمة كيف يحلف على كذب!!

﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾: مِنْ حِفْظ اليمين أن لا تحلف بكذب في قضية لا تحلف إلا في الحقوق، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: "لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر".

يقول: أنا أرفع الظلم عن نفسي، أنا أرفع الاتهام، أنا مضطر أحلف، هذا يدل على رقة الديانة، لا تعرض بالله إلا في أشياء توجب ذلك من تعظيم الله، من تعظيم شعائر الله، من تعظيم الأيمان.

﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾: وقال عنهم: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ﴾ نعوذ بالله من الحلف الكذب.

نسأله -سبحانه وتعالى- بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يحفظنا وإياكم بحفظه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

إذا حفظنا الله -عز وجل- حفظنا، في ماذا؟! يحفظنا في أنفسنا، يحفظنا في عقولنا، يحفظنا في أموالنا، يحفظنا في صحتنا، يحفظنا في ذريتنا، يحفظنا في دنيانا، في ديننا، في آخرتنا، لعموم قوله -صلى الله عليه وسلم-: "احفظ الله يحفظك"، النص مطلق، الحفظ فيه يتواصل حتى تصل إلى الجنة، أسأله -سبحانه وتعالى- أن يحفظنا وإياكم بحفظه.

لذلك فإن أحد شيوخ الإسلام المحب الطبري -وكان شيخًا كبيرًا قيل: وصل الثمانين وقيل: المائة- أراد أن يركب البحر، فقفز من الشاطئ إلى السفينة، فتعجب طلابه، قالوا: يا إمام: هذه قفزة شاب، قال: "هذه الجوارح حفظناها في الصغر فحفظها -عز وجل- في الكبر"، حُفظت بأن كانت تمشي إلى المساجد، ما كانت تمشي إلى أماكن أخرى!

الحفظ من كيد الأعداء، حفظ إبراهيم بحفظه للتوحيد: ﴿وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ﴾ [الأنبياء: 70]، بنى النمرود نارًا عظيمة عانقت رؤوس الجبال، ولم يكن إبراهيم بحاجة إلى هذه النيران، كانت تكفيه حزمة حتى يحترق، ولكنه الطغيان، ألقوه من بُعد وهو يهوي وينتظر أن تبتلعه ألسنة النار، ينزل عليه جبريل بأمر الله أعظم ملك، وسأله: تريد مني شيئًا؟! هل من حاجة؟! قال الموحد صاحب الحنيفية الذي ارتبط التوحيد باسمه: "أما منك فلا، أما من الله فنعم"، فأطلق الكلمة الملغومة بالتوحيد: "حسبنا الله ونعم الوكيل"، حسبك الله، فقال خالق النار وخالق الإحراق فيها: ﴿كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء: 69]، فيسقط في النار وألسنة النار بجانبه وهو في جو مشبع بالبرودة بأمر الله -سبحانه وتعالى-.

يحفظنا -يا إخواني- في أنفسنا، يحفظنا في عقولنا، أن تكون متزن الشخصية، يحفظنا من الشبهات التي أطلت عبر أذرع العولمة، هذا ليبراليي وهذا عقلاني وهذا وطني وهذا غارق في الوطنية على حساب العقيدة، وهذا يعبد الدينار وهذا يعبد الدرهم، لماذا؟! لأنه ما حفظ الله -عز وجل-، فاجتاحته الأفكار والآراء الفاسدة في زحمة الأفكار والطروحات، هذا أعظم حفظ، حفظ العقيدة، الحفظ من الشبهات، وهكذا يحفظه -عز وجل- من الشبهات.

يوسف -عليه السلام- تعرض للفتنة، يوسف لم يتعرض لكلمة ساقطة أسقطته في الزنا، أو نظرة خائنة جعلته يرتمي في مستنقع الفحش، مشوار موجع في الابتلاء، في قصر الإغراء، شاب يعيش الحرمان بعيدًا عن أهله ووطنه، جاهل، وامرأة ذات منصب وجمال، لا يخاف من العقوبة، وتتجمل المسكينة وتقول بدلال تعال: ﴿هَيْتَ لَكَ﴾، ما قال لها آسف: ﴿مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ [يوسف: 23]، معاذ الله أن أنزل هذا المستنقع: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾، هذه قامت مقام العلة، السر في أنه صانه وحفظه وصرفه عن السوء: ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾.

يحفظنا -سبحانه وتعالى- في ذريتنا، شخص يرتشي، يزور، يكذب، لماذا؟! قال: والله ودي أثبت للأولاد تجارة يؤون إليها، هذا رأيه، والله له حكم، يقول للمتخوفين على الذرية: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ [النساء: 9]، إذا كنت خائفًا عليهم فاتق الله، اتق الله في اللقمة، اتق الله في العمل، اتق الله في فرجك، في لسانك، والله أعطاك وعدًا فلا تخف، هل هناك دليل خاص غير الدليل العام؟! نعم هناك دليل خاص، قصة موسى والخضر أصرح من الصريح، حتى موسى لم يتسع صدره لبناء الجدار، أناس ما أضافوهم ولا أكرموهم ويصنع لهم معروفًا، فيقول الخضر: لماذا يا موسى؟! هؤلاء حقهم أن لا يعانوا فيقول الخضر بقول الله: ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾ [الكهف: 82]، والله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين، حافظهم ميت غائب، أكله الدود ولكن بقي حفظ الله، حفظهم لصلاح والدهم، فأمر الخضر أن يبني هذا الجدار قبل أن ينهار، ويكتشف الناس هذا الكنز المعد لهذين اليتيمين: "احفظ الله يحفظك".

وأعظم حفظ يحفظنا في مشاهد الآخرة: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ﴾ [إبراهيم: 27]. أخذنا أشواطًا في حفظ الدنيا، فدعونا الآن نحلق في سماء الآخرة؛ أول مشاهد الآخرة لحظة الموت، تأتي الشياطين تبرز الشبهات، تبرز الفتن نظرًا لعلاقته مع الله يقول: "أشهد أن لا إله إلا الله"، يودع الدنيا بالتوحيد، ومن ودع الدنيا بالتوحيد دخل الجنة، فقد صح في الحديث: "من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة".

لكن كما قال ابن الجوزي وغيره من أئمة السلف قديمًا وحديثًا، قل: لا إله إلا الله، فقال المحتضر: العشرة بخمسة عشرة، يودع الدنيا على العشرة بخمسة عشرة، فهو مُرَابٍ يأكل الربا، لا يفكر في هؤلاء المضعفين، لا يفكر ماذا في ميزان حسناته، يفكر ماذا في جيبه فقط، لذلك كان توديعًا مناسبًا لهذه الحياة الرخيصة، العشرة بخمسة عشر، ثم تفيض روحه الخبيثة، قل: لا إله إلا الله فيودع بالأغاني أعزك الله، صديق الـmbc وأخواتها أكرمك الله، ينام على الموسيقي، يصبح على الموسيقي، حافظ مقطوعات غنائية، فطبيعي أن يودع الدنيا بهذا الوداع التافه، يا رب تحسن ختامنا يا حي يا قيوم.

يحفظك في القبر، وبعد أن تسمع قرع نعالهم، وبعد أن تركوك، اقتسموا الأموال ونكحوا النساء، فيقعدك منكر ونكير -أسماء مرعبة- فضلاً عن الواقع، يقولان: من ربك؟! ربي الله، يعرف ربه، ليس ربه الدينار!! ربه الله ممتلئ به قلبه، ما دينك؟! ديني الإسلام، يعرف حدود الحلال والحرام، من نبيك؟! نبيي محمد، وليس الأسماء الساقطة المشهورة في الإعلام، مفتخر بمحمد معظم لشرع محمد –صلى الله عليه وسلم-، يقول بكل ثقة: نبيي محمد -صلى الله عليه وسلم-.

ويتواصل الحفظ على الصراط، وعند الميزان، وعند دخول الجنة، وعندما يرى المؤمنون الرعب والأهوال تتنزل الملائكة للحفظ والتثبيت، الملائكة الذين يحفظونك في الدنيا والآخرة: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ [الرعد: 11]، حافظون متعاقبون عليك، والحفظ يتواصل حتى الجنة، نسأله -سبحانه وتعالى- أن يرزقنا وإياكم الجنة، فعندما يرون الرعب والأهوال تتنزل عليهم الملائكة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ(31)﴾ [فصلت: 30، 31]. اللهم اجعلنا من أوليائك في الدنيا والآخرة.

هذا، وصلوا وسلموا على محمد بن عبد الله، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه.