أثر الإيمان بالغيب في النفوس

عناصر الخطبة

  1. الإيمان بالغيب من أهم صفات المؤمنين
  2. مقتضيات الإيمان بالغيب
  3. تعهد النفس بتذكر الآخرة
  4. القبر مقدمة لما ينتظر العبد من عذاب أو نعيم
  5. أهوال يوم الحشر
  6. حرمان أناس من ورود الحوض
  7. وفود الله ووفود يدَعُّون إلى جنهم دعًّا
اقتباس

وإنه ليجدر بالمؤمن -الذي وفَّقه الله للإيمان بذلك- أن يتعاهد نفسه بين الفينة والأخرى بتذكر الآخرة.. بتذكر أهوال ومشاهد يوم القيامة؛ ليعالج به غفلة قلب أو نقصان استعداد، ابتداءً بتذكر الاحتضار ومكابدة سكرات الموت والانتقال من الدنيا إلى الآخرة.

الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وهو العزيز الغفور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أرجو بها النجاة يوم يبعثر ما في القبور، ويحصَّل ما في الصدور، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله القائل: "إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع؛ يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال". متفق عليه. وفي لفظ لمسلم: "إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير…". صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، الذين يخشون ربهم بالغيب، وهم من الساعة مشفقون، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون: لقد أنزل الله القرآن الكريم شفاءً وهداية ورحمة، وحجة وعظة وذكرى، ولقد أنزل الله تعالى فيه في ثاني سورة في المصحف الشريف آية صُدِّرت بها صفات المؤمنين الخُلَّص الذين وعِدُوا الظفر بالمقصود والفوز بالموعود؛ ليتذكر المؤمنون مدلولها كثيرًا، ولِيُذَكِّروا بها من يخشى؛ هي قوله سبحانه: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة: 3]، ومقتضى الإيمان بالغيب، التصديق الكامل بكل ما أخبر الله به، وما أخبر به رسوله -صلى الله عليه وسلم- على وجه لا يرد عليه تأويل يخرجه عن مدلوله ومقتضاه، ولا تشكك أو تزعزع أو تردد، تصديق متلوّ بالأقوال والأعمال الصادقة المخلصة المظهرة لآثاره في واقع حياة المؤمن؛ فالإيمان بالمغيبات الصادق تنبثق منه الخشية الحقَّة لله؛ قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28]، وقال: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ﴾ [المائدة: 83].

وفي مقدمة ذلك الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والقدر -خيره وشره- والبعث بعد الموت، والحساب والجزاء والثواب، والجنة والنار.

وإنه ليجدر بالمؤمن -الذي وفَّقه الله للإيمان بذلك- أن يتعاهد نفسه بين الفينة والأخرى بتذكر الآخرة.. بتذكر أهوال ومشاهد يوم القيامة؛ ليعالج به غفلة قلب أو نقصان استعداد، ابتداءً بتذكر الاحتضار ومكابدة سكرات الموت والانتقال من الدنيا إلى الآخرة؛ قال تعالى: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ [ق: 19]، وقال: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ﴾ [الجمعة:8]، ثم ما بعد الموت: من تلكم الحفرة التي يفترش أحدنا فيها التراب ويلتحفه، والتي أُمرنا بأن نستعيذ بالله من عذابها في كل صلاة بعد التشهد وقبل السلام؛ حتى لا يغيب ذلك الهول عن أذهاننا، والتي هي أولى منازل الآخرة، فإن نجا منها الإنسان فما بعدها أيسر:

فإن تنجُ منها تنجُ من ذي عظيمة *** وإلا فإني لا إخـالك نـاجيًا

روى البخاري ومسلم -رحمهما الله- في صحيحيهما عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي؛ إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة".

أيها الإخوة: تذكروا أن تلكم الحفر التي يقضي فيها الموتى حياتهم البرزخية هي مقدمات نعيم أو مقدمات جحيم، ينتهي دورها عندما يأذن الله بالحشر، ويتحقق تأويل قوله الله جلَّ شأنه: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾ [الزمر: 68]، ﴿يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ﴾ [ق: 44]، ﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ(44)﴾ [المعارج: 43-44].

روى البخاري ومسلم -رحمهما الله- عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يحشر الناس حفاة عراة غرلاً"، فقلت: الرجال والنساء جميعًا ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال: "الأمر أشد من أن يهمهم ذلك".

ويعظم الهول، ويشتد الخطب على أرض قد بُدِّلت وغُيِّرت لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا؛ ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً﴾ [طـه: 108]، وينادي منادٍ: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غافر: 16]، وتتطاير الصحف: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ [الإسراء: 13]، وتدنو الشمس من الناس، ويلجمهم العرق، ويشتد الظمأ؛ فيردون على حوض نبينا الذي ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل -أعطيه تكريمًا وتشريفًا له؛ يقول الله جل شأنه: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ [الكوثر: 1]- فيرد عنه أناس بظمئهم؛ إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك..

ويوضع الميزان الذي قال الله فيه: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء: 47]، وينصب الصراط على متن جهنم، فيمر الناس عليه، تجري بهم أعمالهم، فناجٍ مسلَّم، ومخدوش مكردس، ويوقف الناس على قنطرة بين الجنة والنار، فيُقتص لبعضهم من بعض؛ روى الإمام مسلم -رحمه الله- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لتؤدُّن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة؛ حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء".

وينقسم الناس -بعدُ- قسمين: قسم وفود على الله، تحيتهم يوم يلقونه سلام، وقسم يُدَعُّون إلى نار جهنم دعًّا؛ هذه النار التي كنتم توعدون، قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ(16)﴾ [الروم: 14-16].

فاتقوا الله -أيها المؤمنون-، وتذكروا تلكم المواقف تَذَكُّرَ متعظٍ مستعدٍ مستزيدٍ من الخير، مبتعد عن الشر.. تذكروها بحق وصدق يخففِ الله عليكم شدائدها وأهوالها، فإنها لمواقف عسيرة على الكافرين، يسيرة على المؤمنين؛ قال تعالى في حق الكافرين: ﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً﴾ [الفرقان: 26]، وقال في حق المؤمنين: ﴿إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً(11)﴾ [الإنسان:11].