مظاهر الأدب مع الله

عناصر الخطبة

  1. أهمية الأدب مع الله
  2. بعض فضائل الأدب مع الله
  3. مظاهر الأدب مع الله
  4. بعض صور سوء الأدب مع الله
اقتباس

أعظم الأدب وأجله: الأدب مع ربنا -جل وعلا-، وكل أدب دونه فالأمر يسير.وإذا خلا العبد من التأدب مع الله، لم يكن له أدبا صحيحا نافعا في أي مجال من المجالات، فالأدب مع الله أصل كل خير وأساسه، ولهذا الأدب فضائل عديدة؛ فمن تأمل كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- رأى لهذا الأدب منزلة في…

الخطبة الأولى:

إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه، ونستغفرُه، ونتوبُ إليه، ونعوذُ به من شرورِ أنفسِنا؛ ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه صلَّى الله عليه، وعلى آلهِ وصحبِهِ، وسلَّمَ تسليماً كثيراً إلى يومِ الدين.

أمَّا بعد:

فيا أيُّها النَّاسَ: اتَّقوا اللهَ -تعالى- حَقَّ التقوى.

عباد الله: منزلة الأدب من أعظم المنازل والمقامات، وأعظمها شأناً وأكبرها قدرا، إذ هي جامعة لخصال الخير من كل قول وفعل حسن.

وأعظم الأدب وأجله: الأدب مع ربنا -جل وعلا-، وكل أدب دونه فالأمر يسير.

وإذا خلا العبد من التأدب مع الله، لم يكن له أدبا صحيحا نافعا في أي مجال من المجالات، فالأدب مع الله أصل كل خير وأساسه، ولهذا الأدب فضائل عديدة؛ فمن تأمل كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- رأى لهذا الأدب منزلة في الإسلام.

فأعظم فضائل الأدب مع الله:

تجديد التوحيد له -جل وعلا-: بأن تفرده بجميع العبادة، وتعتقد حقا أن الله وحده المعبود بحق، وأن كل ما سواه بالباطل عبد: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ﴾ [الحـج: 62].

وأن لا تجعل معه شريكا في عبادته؛ لأنه لا شريك له في خلقه، فلا شريك له في عبادته: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ﴾ [الروم: 40].

ومن مظاهر توحيده: إيمانك الحق بكل اسم سمى به نفسه، أو سماه به رسوله -صلى الله عليه وسلم-، أو كل صفة وصف بها نفسه، أو وصفه بها نبيه -صلى الله عليه وسلم-، تثبت ذلك حقا على ما يليق بجلال الله، من غير تكييف ولا تمثيل: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: 11].

ومن مظاهر أدبك مع الله: محبتك لله -جل وعلا-: المحبة الصادقة من أعماق قلبك، وذلك أن تتصور أن الله -جل وعلا- أنعم عليك بنعم عظيمة، أوجدك من العدم، ورباك بالنعم، وأحسن خلقك فجعلك في أحسن تقويم، وأمدك بالسمع والبصر والفؤاد، وأصبغ عليك نعمه ظاهرة وباطنة، فكلما تدبرت نعم الله عليك وإفضاله وإحسانه؛ ازددت حبا لله -جل وعلا-، قال جل وعلا: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ﴾ [البقرة: 165].

فهم يحبون الله محبة من أعماق قلوبهم، يقول صلى الله عليه وسلم: "ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بهن حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا".

ومن لازم هذه المحبة: أن تحب الأنبياء والرسل جميعا، فتحب جميع الرسل، وتحب محمدا -صلى الله عليه وسلم- محبة صادقة، قال جل وعلا: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [آل عمران: 31].

تحب أولياء الله، وأهل طاعته، تحب أوامر الله فتمتثلها، وتكره نواهي الله وتجتنبها، كل ذلك من محبتك لربك -جل وعلا-.

ومن مظاهر أدبك مع الله: أن تخلص العبادات كلها لله، من صلاة وزكاة وصوم وحج، وغير ذلك من الأعمال الصالحة، تؤديها خالصة لله، تبتغي بها وجه الله، والدار الآخرة، لعلمك أن غير الله لا يصرف شيء من ذلك، فتصلي لله، وتتصدق لله، وتعمل الصالحات لله، ترجو بكل عمل ثواب الله، فتخلص العمل لله؛ لأن الله يقول: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110].

وفي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: "قال الله: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِى تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ".

وفي لفظ: "وأَنَا مِنْهُ برئ".

ومن مظاهر أدبك مع الله: أن تعظم شعائر الله وحرمات الله، قال الله -جل وعلا-: ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ﴾[الحـج: 30].

وقال: ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحـج: 32].

فتعظم الأزمنة والأمكنة والأشخاص الذين أمرت بتعظيمهم، تعظم الأشهر الحرم، تعظم رمضان، تعظم يوم الجمعة، تعظم أماكن العبادة، تعظم الحرمين الشريفين، والمسجد الأقصى، تعظيما لله لها، فتعظم ما عظم الله، ولهذا تعظم شرع الله ودينه، وتعظم أولياء الله، تعظم الكبير، وتقدره وتحسن إليه، كل ذلك من تعظيم حرمات الله.

ومن مظاهر أدبك مع الله: أن تستلم للنصوص الكتاب والسنة، وتنقاد لها، دون أي اعتراض على ذلك، أو الشك في ذلك، بل تعلم أن ما قضى به رسول الله-صلى الله عليه وسلم -، فحق وعدل، ورحمة وإحسان، فلا اعتراض؛ فعليك القبول والتسليم، قال تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65].

ومن مظاهر أدبك مع الله: أن لا تقول في شرع الله إلا بما تعلم، فلا تفتي برأي، أو ظن، أو تخرص، قال الله -جل وعلا-: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾[الأعراف: 33].

وقال: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ﴾ [النحل: 116].

فكل من أفتى بغير علم فقد كذب على الله، ولم يتأدب مع الله.

فمن أدب المسلم مع ربه: أن لا يفتي في دينه إلا بما هو عالم به وبدليله، ليكن بذلك على بصيرة من أمره.

ومن مظاهر أدبك مع الله: أن تشكر الله -جل وعلا- على عموم نعمه التي أنعم بها عليك ظاهرا وباطنا، تشكره على عظيم نعمه وامتنانه، وتثني عليه، تشكره بقلبك، فتعتقد أن هذه النعم فضلا من الله عليك لا بحولك ولا بقوتك، تشكره بلسانك، فتثني عليه وتعظمه وتحمده على كل نعمة.

إن الله يرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها.

تشكره بجوارحك، وتؤدي ما أوجبه الله عليك، شكرا لله على نعمه، قال جل وعلا عن نبيه سليمان لما أنعم عليه من النعم: ﴿وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ [النمل: 19].

ومحمد -صلى الله عليه وسلم- قام الليل حتى تفطرت قدماه، فقيل له، فقال: "أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا".

ومن مظاهر أدبك مع الله: مراقبتك لأمر الله، وعلمك الحق أن الله مراقب أعمالك وأقوالك، لا يخفى عليه شيء من حالك، في حضورك وغيبتك، راءك الناس أم غابوا عنك: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [يونس: 61].

﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [الملك: 12].

فتراقب الله، وتعلم أنه مطلع عليك في كل أحوالك: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[الشعراء: 218-220].

ومن مظاهر أدبك مع الله: أن تستحي من الله، وتخجل منه: تسحتي أن يراك حيث نهاك، أو يفقدك حيث أمرك، تستحي من ربك لعلمك باطلاعه عليك، وعظيم فضله وستره عليك، فتستحي منه، فتتوب إليه وتنيب، يقول صلى الله عليه وسلم لما سأل الرجل يا رسول عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: "احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلاَّ مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ" قال: يا رسول الله الرجل يكون خاليا؟ قال: "اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْ الناس".

ومن مظاهر أدبك مع الله: توبتك إليه، وإنابتك إليه، عندما تزل القدم، وتقع في المخالفات، تنيب إلى ربك، وتتوب وتعتذر وتستعتب، وتتوب إليه جل وعلا: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ﴾[الشورى: 25].

﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53].

﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [النساء: 110].

وقال عن أولياءه المتقين: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ﴾ [آل عمران: 135].

ومن مظاهر أدبك مع الله: خوفك من الله، وإشفاقك من الله، قال الله -جل وعلا-: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 175].

﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ(47)﴾[النحل: 45-47].

(أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ)[الأعراف: 97- 99].

ومن مظاهر أدبك مع الله: الرغبة فيما عند الله، والرهبة والخشوع له، قال جل وعلا في وصف بعض الأنبياء: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء: 90].

ومن مظاهر أدبك مع الله -جل وعلا-: إخلاصك الدعاء له، بأن تدعوه -جل وعلا- مخلصا موقنا بالإجابة، مدركا أنه سميع عليم، سيستجيب دعوتك، قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة: 186].

وقال: ﴿ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ(56)﴾[الأعراف: 55-56].

وأخبرنا أنه قريب يجيب دعوة الداعي، قال الله -جل وعلا-: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60].

فتدعو الله وترجوه، بأدب واحترام، وذل وخضوع له، من غير رفع صوت، وإنما بينك وبين الله؛ سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه يكبرون ويهللون، قال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، إِنَّهُ مَعَكُمْ، إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، أقرب إلى أحدكم من شراك نعله".

أيها المسلم: ومن مظاهر أدبك مع الله: تسليمك للقضاء والقدر، وإيمانك بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، تؤمن بقدر الله الذي قدره، خيره وشره.

فاعلموا أن الله علم الأشياء، ثم كتب ذلك العلم قبل أن يخلق الخليقة بخمسين ألف سنة، وشاءه وقدره، تؤمن بهذا حق الإيمان.

ومن مظاهر أدبك مع الله: حسن ظنك بربك، فتعتقد أن قضاء الله وقدره مبني على حكمة الرب، وكمال عدل الرب، وكمال رحمته، وكمال علمه ورحمته وعدله، ترضى بذلك، لا تسيء الظن به، يفقر من يشاء، ويغني من يشاء، يعز من يشاء، يذل من يشاء، كل ذلك على كمال الحكمة والعدل: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ(39)﴾[الدخان: 38-39].

ليس لسفه ولا لباطل ولكنه حق وعدل.

﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ(27)﴾[آل عمران: 26-27].

أحسن الظن بربك فيما قضى وقدر، واعلم أنه حكيم عليم، لا اعتراض عليه: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: 23].

ومن مظاهر أدبك مع الله: إتيانك الصلاة على أحسن حال، في طهورها، ولباسك وحسن ذلك: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31].

ومن مظاهر أدبك مع الله: خشوعك في صلاتك وسكونك فيها، وإتيانها بأركانها وواجباتها ومستحباتها، على أحسن حال، مع الإخلاص لله في ذلك.

ومن مظاهر أدبك مع الله: إمساك اللسان عن الأقوال البذيئة، والأقوال الساقطة، تبتعد عنها طاعة لله، فإنك مسئول عن كل ألفاظك: ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18].

فاحذر -أخي المسلم- من مزلات اللسان، فإنها خطيرة جدا، في الأثر: "إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله بها سخطه إلى يوم يلقاه".

فتأدب مع الله في الأقوال والأفعال، هذا الواجب علينا.

نسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد.

أقولٌ قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنَّه هو الغفورٌ الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه كما يُحِبُّ ربُّنا ويَرضى، وأشهد أنْ لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن محمَّدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه، وعلى آله وصحبه وسلّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ.

أما بعدُ:

فيا أيُّها الناس: اتَّقوا اللهَ -تعالى- حقَّ التقوى.

عباد الله: إن من سوء الأدب مع الله ما يجري على بعض ألسنة الناس؛ من سخرية بهذه الشريعة، واستهزاء بها، وبأحكامها، ومن المتمسكين بها، وإساءة الظن بذلك.

تلك من أخلاق المنافقين الذين تفوح ألسنتهم بمن انطوت عليه قلوبهم من الخبث، قال الله -جل وعلا-: ﴿وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ﴾[محمد: 30].

وقد حذر من ذلك، فقال: ﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ(66)﴾[التوبة: 64-66].

فالسخرية بهذا الدين، والاستنقاص منه، والتشكيك في عموم الشريعة وشمولها وكمالها، أو اعتقاد أنها غير صالحة، وغير مواكبة للعصر وضرورياته، كل هذا من الاستهزاء بالدين، والسخرية به، والنظر إليه نظرة الدون، كل هذا من النفاق -نسأل الله السلامة والعافية-.

ومن سوء الأدب مع الله: السخرية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومناهج التعاليم الإسلامية، والحط من قدرها، أو التشكيك في حفظة القرآن، أو المناهج الإسلامية الطيبة، والدعوة إلى ما يبعد الناس عن تعاليم دينهم وشريعتهم.

ومن سوء الأدب مع الله: أن تستمر في طغيانك، وتلج في هواك وضلالاتك من غير خوف من الله، قال جل وعلا: ﴿وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ(22)﴾[فصلت: 19-22].

ذلك أوقعهم في الطغيان والمعاصي، فلو كمل علمهم باطلاع الله عليهم، وأن الله لا يخفى عليه شيء من أعمالهم: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف: 49].

﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾[يــس: 65].

﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ(25)﴾[النــور: 24-25].

ومن سوء الأدب: ظلم الناس في أموالهم وأعراضهم ودماءهم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، في الحديث: "إِنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، قوله: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هود: 102]".

فعلينا جميعا التأدب مع الله، ومع نبيه، ومع دينه، وأن نتلقى ذلك بالسمع والطاعة والقبول.

أسأل الله أن يثبتنا وإياكم على دينه، وأن يتوفنا وإياكم مسلمين، إنه على كل شيء قدير.

واعلموا -رحمكم الله-: أنّ أحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ اللهِ على الجماعةِ، ومن شذَّ شذَّ في النار.

وصَلُّوا -رحمكم الله- على عبد الله ورسوله محمد؛ كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].

اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائه الراشدين الأئمة المهدين أبي بكر، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعَن سائرِ أصحابِ نبيِّك أجمعين، وعن التَّابِعين، وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعنَّا معهم بعفوِك، وكرمِك، وجودِك وإحسانك يا أرحمَ الراحمين.

اللَّهمَّ أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمَّر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين، واجعل اللَّهمّ هذا البلاد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.

اللَّهمَّ آمنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمرنا.

اللَّهمّ وفقهم لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين.

اللَّهمّ وفِّقْ إمامَنا إمامَ المسلمينَ عبد الله بن عبد العزيز لكل خير، سدده في أقواله وأعماله، وامنحه الصحة والسلامة والعافية، إنك على كل شيء قدير.

اللَّهمّ ووفق ولي عهده لما يرضيك، والنائب الثاني، واجعلهم جميعا على البر والتقوى، إنك على كل شيء قدير.

﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحشر: 10].

﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: 23].

﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [البقرة: 201].

عبادَ الله: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 90].

فاذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكُرْكم، واشكُروه على عُمومِ نعمِه يزِدْكم: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ [العنكبوت: 45].