قصة إبراهيم عليه السلام (أ)

عناصر الخطبة

  1. نشأة نبي الله إبراهيم الأولى
  2. دعوته للتوحيد
  3. معالم تربوية في دعوته لأبيه
  4. محاجة نبي الله إبراهيم لقومه وكيف ردوا عليه
  5. أهمية الولاء والبراء
اقتباس

ابتعث الله إبراهيم عليه السلام بالرسالة، وهو في بابل، فقام بالواجب الذي أمره الله به خير قيام، وصبر على الأذى والابتلاء، وقابل التهديد والوعيد، بعزيمة أشد رسوخاً من الجبال، وعندما تأكد من إعراض قومه عن دعوته، هاجر في أرض الله الواسعة، يبذر بذور الإيمان في كل أرض تطأه قدماه، فاستحق ..

أما بعد: قصتنا لهذه الجمعة، سوف تكون مع خليل الله، إبراهيم عليه السلام، وُلد إبراهيم عليه السلام، كما ذكر ابن كثير بأرض بابل، وكانت ولادته بعد أن بلغ والده من العمر خمس وسبعين سنة، وكان اسم والده آزر، كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام: 74]. 

وكان مولد خليل الرحمن، إبراهيم عليه السلام، في عهد النمرود، وكان النمرود حاكماً مستبداً جباراً، كانت رعيته تتقلب في دياجير الجهل والضلالة، كما كانوا يعبدون الحجارة الصماء، والتماثيل البكماء. وقد استخف النمرود بقومه، فنصب نفسه إلهاً لهم، ودعا الناس إلى عبادته، فأطاعوه، وفي هذه البيئة الفاسدة، ولد خليل الرحمن، إبراهيم عليه السلام.

وكان أبوه آزر، من ألد أعدائه، وكذلك كان أقرباؤه وأشقائه وأترابه، وهذا يعني أنه كان غريباً بين أهله وذويه، ولما شب إبراهيم عليه السلام، تزوج بامرأة تسمى سارة، وكانت عقيماً لا تلد. وقد عَرَف إبراهيم عليه السلام، منذ نعومة أظفاره، بصائب رأيه، وثاقب فكره: أن الله واحد أحد، ليس له شريك في الملك، وألقى الله في قلبه كره الأصنام، التي كان يعبدها قومه؛ لأنها لا تجلب لهم نفعاً ولا تدفع عنهم ضراً.

عباد الله: ابتعث الله إبراهيم عليه السلام بالرسالة، وهو في بابل، فقام بالواجب الذي أمره الله به خير قيام، وصبر على الأذى والابتلاء، وقابل التهديد والوعيد، بعزيمة أشد رسوخاً من الجبال، وعندما تأكد من إعراض قومه عن دعوته، هاجر في أرض الله الواسعة، يبذر بذور الإيمان في كل أرض تطأه قدماه، فاستحق بصبره ورأيه، أن يكون أباً للأنبياء، وإماماً للأتقياء، وقدوة للموحدين الأمناء.

أيها المسلمون: ونظراً لأهمية الدور الذي قام به إبراهيم عليه السلام، فقد ذُكرت قصته في خمس وعشرين سورة، وفي ثلاث وستين آية من القرآن.

عباد الله: إن البيئة التي نشأ فيها إبراهيم عليه السلام، سيطر عليها تعدد الآلهة، ونصبت فيها التماثيل لعبادتها، لذلك عزم إبراهيم عليه السلام، على هداية قومه، وتخليصهم من هذه الأباطيل، وهذا ما يذكره الله لنا بقوله: ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ(56)﴾ [الأنبياء: 51- 56].

كان تعليل هؤلاء القوم لعبادتهم الأصنام، هو أنهم وجدوا آباءهم عابدين لها فافتدوا بهم، فإبراهيم عليه السلام، أراد أن يحرر قومه من عبادة الأصنام، وما يستتبع ذلك من الاعتقاد بالخرافات والأساطير، قال تعالى: ﴿قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ(82)﴾ [الأنبياء: 75- 82].

هذا هو إيمان إبراهيم عليه السلام يا عباد الله، إنه إيمان المستسلم لربه في كل جارحة من جوارحه، إنه الإيمان الذي ينزع من النفس همومها وأحزانها، ويسبغ عليها طمأنينة وسعادة، إنه الإيمان الذي يخلّص النفس من الاستسلام للخرافات، فلا رازق ولا شافي، ولا محي، ولا مميت، ولا غافر للذنب إلا الله رب العالمين.

أيها المسلمون: كان والد إبراهيم في مقدمة عابدي الأصنام، بل كان ممن ينحتها ويبيعها، وقد عزّ على إبراهيم فعل والده وهو أقرب الناس إلى قلبه، فرأى من واجبه أن يخصه بالنصيحة، ويحذره من عاقبة الكفر.

ولكن بأي أسلوب خاطب إبراهيم أباه؟ لقد خاطبه بلهجة تسيل أدباً ورقة، مبيناً بالبرهان العقلي بطلان عبادته للأصنام، قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا(48)﴾ [الأنبياء: 41- 48].

هذا كلام يهز أعطاف السامعين انظر كيف استهل إبراهيم كلامه عند كل نصيحة، بقوله يا أبت، توسلاً إليه واستعطافاً لقلبه، مع استعمال الأدب الجم.

ومن ناحية أخرى يحاول إبراهيم أن يكسر بذلك الأسلوب الجذاب، حدة أبيه، حتى يستطيع أن يبلغه رسالة الله، وهذا أمر معلوم، فإن غالب الآباء هداهم الله، لا يمكن أن يقبل شيئاً من ولده لأنه يرى أنه أقل منه، وأنه خرج أساساً من صلبه، فلا يمكن أن يصل إلى مستواه، وهذا الذي كان يفكر فيه والد إبراهيم عليه السلام.

ولا شك أن هذا، تفكير غير صحيح، فقد يكون الوالد صالحاً، ويخرج أولاده على غير صلاح الأب، والعكس أيضاً أمر وارد، فيكون الولد مهتدياً بنور الله عز وجل ويكون الأب يعيش، في ظلمة الجهل والهوى، كما كان حال إبراهيم مع أبيه فحاول إبراهيم أن يقيم الحجة على أبيه وهو هادئ غير ثائر، بعد أن ناداه بذلك الأسلوب الموجب للحنان والعطف، ﴿يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا﴾ [الأنبياء: 42].

كيف تعبد يا أبت إلهاً لا يسمعك إذا ناديته ولا يبصرك إذا اقتربت منه، ولا يجلب لك نفعاً أو يدفع عنك مكروهاً. ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا﴾ [الأنبياء: 43].

لم يبدأ إبراهيم عليه السلام، حواره مع أبيه، بالحديث عن غزارة علمه، وقوة حجته، وشدة ذكائه، كما أنه لم يصف أباه بالجهل، ولو قال ذلك لكان صادقاً، وهذا ما يجب أن يتنبه إليه الأبناء، وهم يواجهون من هم أكبر منهم، سواء كانوا الآباء، أو من القرابات والأرحام، فإن طبيعة النفوس لا تقبل النصحية ممن هو أصغر منك، ولو كان على علم ودراية.

لكن كيف كانت مقابلة الوالد لولده إبراهيم لم يتقبل النصيحة، وصار يُهدد إبراهيم عليه السلام: ﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾ [الأنبياء: 46]. لئن لم تنته يا إبراهيم عن ضلالك، وتعود عن باطلك، لأرمينك بالحجارة، وما عليك الآن إلا أن تخرج من داري وتعتزل مجالسي.

وهكذا طرد إبراهيم عليه السلام، من منزل أبيه؛ لأن ذلك الوالد، لم يرد الهداية، ولا يريد أن يكون ولده محافظاً على أوامر الله عز وجل أمامه، والأب يخالف الله، فأفضل حل أن يطرده ولا يراه أمامه.

بماذا قابل إبراهيم معاملة أبيه القاسية؟لم يقابل والده إلا بقوله "سلام عليك". كما قال تعالى: ﴿قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾ [إبراهيم: 47] أي لن يصلك مني أي مكروه، ولن ينالك مني أذى، بل أنت سالم من ناحيتي، وفوق كل هذا، سأدعوا الله أن يغفر لك مع أنه عاص له، بألا يعاقبك. عندها خرج إبراهيم عليه السلام من عند أبيه، واعتزل القوم كلهم، كما قال سبحانه: ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا﴾ [الأنبياء: 48].

اعتزل إبراهيم أباه وقومه، فكان لا يحضر في أفراحهم ولا أعيادهم وندواتهم، ومع ذلك كان يدعوا لأباه في ظهر الغيب، عسى الله أن يهديه، ولكن هذه الدعوة لم تستمر، فبعد أن علم أن أباه لا يمكن أن يهتدي، وأنه سوف يلقى الله عز وجل وهو كافر، أمره الله عز وجل أن يتبرأ منه، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [التوبة: 114].

أيها المسلمون: بعد ذلك، عزم إبراهيم عليه السلام، على تحطيم أصنام القوم، ورأى أنها هي الطريقة العملية، لإقامة الحجة عليهم، بأن هذه الأصنام لا تضر ولا تنفع، فالبرهان العملي له في النفس البشرية، وقع كبير، أشد أثراً من الوعظ والإرشاد.

تحين إبراهيم الفرصة المناسبة لتحقيق ما عزم عليه، حتى صار يوم عيد عندهم، خرج معهم إبراهيم عليه السلام، ثم انتهز فرصة غفلتهم، ورجع أدراجه نحو المكان الذي فيه أصنامهم، وكان قد صمم على تحطيمها، وصل إبراهيم عليه السلام إلى الهيكل الذي أقيمت فيه أصنامهم، وكان بعضها إلى جانب بعض، يتصدرها كبيرها، ورأى أمامها ما تركه القوم، قرباناً لها من الطعام والشراب، لتأكله في زعمهم، فخاطبها إبراهيم ساخراً، ألا تأكلون، فلما لم يجبه أحد، قال ما لكم لا تنطقون، ثم انحنى عليها ضرباً بيده فكسرها كلها بفأس كان معه، وجعلها قطعاً صغيرة، أما الصنم الكبير فأبقاه ولم يكسره، وهو أكبر الآلهة عندهم، وعلق الفأس بيده ثم غادر الهيكل.

قال سبحانه: ﴿فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ(93)﴾ [الصافات: 90 – 93] وجاء في آية أخرى: ﴿وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ(61)﴾ [الأنبياء: 57- 61] فإبراهيم عليه السلام، أراد بتحطيمه لهذه الأصنام أن يقيم دليلاً حسياً لقومه، على بطلان عبادة الأصنام، فلو كانت آلهة حقيقة لدافعة عن نفسها.

بارك الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله:

أما بعد أيها المسلمون: رجع القوم بعد أن احتفلوا بعيدهم، فرأوا ما حل بأصنامهم، فراعهم ذلك، وتساءلوا فيما بينهم، عن الفاعل الذي نال من مقدساتهم، فقال بعضهم، سمعنا فتاً يذكر هذه الأصنام بسوء يسمى إبراهيم، كان من عادته أن يعيبها ويستهزئ بها، وهو الذي نظنه فعل بها هذا الفعل، وصل الخبر إلى الحكام، فقالوا لجنودهم، أحضروه لنحاكمه على مشهد من الناس، جيء به عليه الصلاة والسلام.

فسأله الحكام ﴿قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ﴾ [الأنبياء: 62] عندها وجد إبراهيم الفرصة سانحة ليبلغ قومه ويوصلهم إلى الحقيقة، فقال: ﴿فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾ [الأنبياء: 63] عندها أدرك القوم، فأطرقوا رؤوسهم من الخجل، لكنهم بكفرهم وعنادهم عادوا إلى مجادلة إبراهيم قائلين، إنك تعلم أن هذه الأصنام لا تتكلم، فكيف تطلب منا أن نسألها، عندما برزت حجةُ إبراهيم مدوية مجلجلة، تقرع آذانهم، في مثل قوله تعالى: ﴿قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ(67)﴾ [الأنبياء: 66- 67].

وبعد ما رأى القوم أنه لا يمكن مناظرة إبراهيم عليه السلام بالحجة، استخدموا القوة معه، فأصدروا حكمهم عليه بالموت حرقاً، كما قال تعالى: ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: 68] وهذا هو سلاح أهل الباطل، الذي يلجأون إليه دائماً في كل عصر، فأجمع القوم على إحراقه بالنار، ولكن أي نار، بل بنوا بنياناً شاهقاً، ووضعوا فيه كميات كبيرة من الحطب، شارك القوم كلهم في جمعها.

قال تعالى: ﴿قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ﴾ [الصافات: 97] قال ابن اسحاق: وجمعوا من الحطب، شهراً ثم أوقدوها، فاشتعلت النار واشتدت حتى إن الطائر ليمر بجنباتها فيحترق من شدة وهجها، وعندما أرادوا حرق إبراهيم عليه السلام، لم يستطيعوا الاقتراب من النار لشدة حرها، فوضعوه في المنجنيق، وألقوه من بعيد، وهو مكتفاً مغلولاً.

وفي تلك اللحظات كان إيمان إبراهيم بربه أشد رسوخاً من الجبال الرواسي، وكان ثقته بنصر الله وتأييده أقوى من الأرض ومن عليها، ولهذا لم يكترث لجماهيرهم المحتشدة، ونيرانهم الملتهبة، وكلماتهم النابية. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار: حسبي الله ونعم الوكيل".

وقالها أيضاً رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، حين قالوا: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ(174)﴾ [آل عمران: 173- 174]، وكذلك إبراهيم انقلب بنعمة من الله وفضل لم يمسسه سوء.

فوالله إنها لكلمة نافعة في مواقف الضيق وعندما يشتد الكرب بالمسلم، لو قالها من قلب صادق موقن بنصر الله عز وجل حسبنا الله ونعم الوكيل. عندها نزلت رحمة الله عز وجل على نبيه، ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء: 69] فسُلبت النار الخاصية التي أعطاها الله عز وجل وهي الإحراق، لتكون بأمره عز وجل برداً وسلاماً: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: 82]. خرج خليل الرحمن من النار سليماً معافى، وقومه يشاهدونه ولا يتعظون؛ لأن الله قد كتب عليهم الهلاك بكفرهم وعنادهم ﴿وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ﴾ [الأنبياء: 70].

ومن سنن الله أن ينصر رسله إذا بلغت الشدة بهم منتهاها، ويخذل أعداءه قال تعالى: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) [يوسف: 110].

أيها المسلمون: نود أن نقف وقفة بسيطة، مع حرق نبي الله إبراهيم عليه السلام بالنار، فنختار لكم قصة الوزَغ. روى البخاري في صحيحه، عن سعيد بن المسيب، عن أم شريك رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ، وقال "كان ينفخ على إبراهيم عليه السلام" وفي رواية لأحمد، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اقتلوا الوزغ فإنه كان ينفخ النار على إبراهيم". قال فكانت عائشة تقتلهن.

وفي رواية أخرى لأحمد، أن امرأة دخلت على عائشة رضي الله عنها، فإذا رمح منصوب، فقالت ما هذا الرمح، فقالت نقتل به الوزغ ثم حدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن إبراهيم لما ألقي في النار، جعلت الدواب كلها تطفئ عنه إلا الوزغ، فإنه جعل ينفخها عليه".

سبحانك يا رب، أي دين أعظم من هذا الذي هديتنا إليه ورزقتنا اتباعه، أية مشاركة وجدانية، تلك المشاركة التي أوجدها الإسلام بين أفراده. منذ آلاف السنين، وكلما رأى المسلمون وزغاً سارعوا إلى قتله؛ لأنه كان ينفخ النار على أبينا إبراهيم عليه السلام، ولأن عدو إبراهيم عدو لكل مسلم، وسيبقى المسلمون على ذلك، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فلا ودّ ولا مصالحة، مع أعداء الله ولو كانوا حيوانات صغيرة كالأوزاغ.

وقضية الوزغ وغيره، يعرفها خاصة المسلمين وعامتهم، فلو رأى فتى صغير في قرية نائية وزغاً، لسارع إلى قتله؛ لأنه رأى أهله يقتلونه، وسمع منهم، أنه كان ينفخ النار على خليل الرحمن عليه السلام.

ومن المحزن حقاً، أن هذه المشاركة الشعورية بين أعضاء الجسد الإسلامي الواحد، أصابها كثير من الضعف والفتور في زماننا هذا، فكم يصاب المسلمون، في أقاصي الأرض، بشتى المصائب، فلا نقول يتحرك المسلمون برد هذه المصيبة أو الكارثة، بل ولا حتى التأثر القلبي، حتى هذا، نزع من قلوب المسلمون، وإن تأثروا، فيكون تأثرهم عابراً كسحب الصيف، ولهذا أصبحت عمليات إبادة المسلمين، في أي بقعة من الأرض، قضية لا تستحق اهتماماً.

فنسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى….