تلاوة القرآن وتدبره

عناصر الخطبة

  1. في مدح القرآن الكريم
  2. أثره على النفس
  3. هجراننا له
  4. صرف أعدائنا لنا عنه
  5. وجوب تدبُّر معانيه
  6. الهدي النبوي في تدبره والتأثر به
  7. من آثاره على السلف وغيرهم
اقتباس

إن كتاب الله -عزّ وجلّ- بمثابة الروح للحياة، والنور للهداية؛ فمَن لم يقرأْه ويعمل به، فما هو بحيٍّ بل هو ميّت، وإن تكلّم أو عمل أوغدا أو راح! ومن لم يؤمن به ضلّ وما اهتدى، وإن طار في السماء، أو غاص في الماء! (أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا) ..

الحمد لله هادِ العباد، الرقيبِ على خلقه، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، أحمده سبحانه حمدَ عبدٍ خافه ورجاه، حمداً واجباً على العبد لمولاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ندّ له في جلاله وكماله وعلاه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صفوة الخلق، وأفضل الهُداة إلى صراط الله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه ومن سار على طريقه واتّبع هداه.

أما بعد: فأوصيكم -أيّها الناس- ونفسي بتقوى الله -عزّ وجلّ- فإنها الزاد، وبها المعاد، زاد المبلّغ، ومعاد المُنْجِح، دعا إليها أسمع داع، واستجاب لها خير واع، فأسمع داعيها، وفاز واعيها.

أيها الناس: لئن كان شهر رمضان المبارك شهر صيام وصدقة وجود وقيام، فإنه كذلك شهر القرآن والفرقان، ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ [البقرة:185]، ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدر:1]، ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾ [الدخان:3].

أنزل الله القرآن نورًا لا تُطفأ مصابيحه، وسراجًا لا يخبو توقّده، ومنهاجًا لا يضلّ نهجه، وعِزًّا لا يهزم أنصاره؛ فهو معدِن الإيمان، وينبوع العلم… جعله الله ريًّا لعطَش العلماء، وربيعًا لقلوب الفُقهاء، ودواءً ليس بعده داء.

هو حبل الله المتين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، فيه نبأ مَن قبلنا، وخبر ما بعدنا، وفصل ما بيننا، هو الحقّ، ليس بالهزل، بالحقّ أنزله الله، وبالحقّ نزل. مَن عمِل به أُجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم. من طلب الهدى منه أعزّه الله، ومَن ابتغى الهدى من غيره أذلّه الله، يرفع الله به أقوامًا، ويضع آخرين، ويأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه.

قال عنه -صلى الله عليه وسلم-: "مَن قرأ حرفًا من كتاب الله تعالى فله حسنة، والحَسنة بعشر أمثالها، لا أقول ﴿الم﴾ حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف" رواه الترمذي.

إن كتاب الله -عزّ وجلّ- بمثابة الروح للحياة، والنور للهداية؛ فمَن لم يقرأْه ويعمل به، فما هو بحيٍّ بل هو ميّت، وإن تكلّم أو عمل أوغدا أو راح! ومن لم يؤمن به، ضلّ وما اهتدى، وإن طار في السماء، أو غاص في الماء! (أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا) [الأنعام:122].

إن الإنسان بلا قرآنٍ كالحياة بلا ماء ولا هواء، بل إن الإفلاسَ متحقِّقٌ في حِسِّهِ ونفسه؛ ذلك أن القرآن هو الدواء والشفاء، ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الإسراء:82]، ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُه أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ [فصلت:44].

شفاء للقلوب، وشفاء للأبدان، شفاء للمرء وأنيس كلما ضاقت أمامه مسالك الحياة وشعابها، وافتقد الرائد عند الحَيْرة، والنور عند الظلمة، يجد القرآن خير جليسٍ لا يملّ حديثه وترداده، يزداد فيه تجمّلاً وبهاءً.

وبه تنضبط النفس المتردّدة أمام الزوابع والأعاصير، فلا تغرق في لجّة المهالك، ولربّما ضاقت بالمرء الضوائق، ومارت في وجدانه المخاوف، ويسدّه ألمه، فلا يجد إلا أن ينشد راحته في بضع آيات من القرآن يردّدها: ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً﴾ [الإسراء:45]، ﴿وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾ [يس:9].

يقرأ المسلم القرآن فإذا بالسكينة والطمأنينة يعمران قلبه وجوارحه، ثم تقدُم النفس بعد ذلك لا تبالي ما يحدث لها، وهي تقرأ قول ربّها: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا﴾ [التوبة:51] وبذلك تتبخّر وساوس السوء، ووساوس الضعف، ويظهر للنفس أن الإنسان يبتلى بالأوهام أكثر مما يبتلى بالحقائق، وينهزم من داخل نفسه قبل أن تهزمه حقائق الحياة.

﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(175)﴾ [آل عمران:173-175].

عباد الله! لا يُعرفُ مظلومٌ تواطأ الناس على ظلمه، وزهدوا في إنصافه، مثل القرآن، فلله! ما أقلّ عارفيه! وإنّ أحدنا لو ذهب يبحث عن العاملين بما فيه بحقّ وصدق في أغلب ما يرى ويسمع، لأعياه، اتخذ الناس هذا القرآن مهجورًا إلا من يرحم ربي، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير! صحف ومجلات، وحكايات وثقافات تموج بها الدنيا صبح مساء! ﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ﴾ [الأنعام:116]، ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾ [يونس:36].

إن المرء المسلم لَيَعْجَبُ مِن مواقفِ كثيرٍ من الناس أمام كتاب الله تعالى، وقد أحاط بهم الظلام من كل جانب، فتخبّطوا فيه خبط العشواء! أفلست النظم، وتحطم كثير من المجتمعات، وتدهورت القوميات والعالميات، وأنتنت الحريّات اللادينية المزعومة، فالعجب كل العجب أن يكون النور بين أيديهم ثم هم يلحقون بركاب الأمم الكافرة في كل نهج ومسلك، فلا يستطيعون سبيلاً إلى الهداية، كَالْعِيسِ فِي البَيْداءِ يَقْتُلُها الظَّمَا *** والماءُ فوقَ ظهورِها مَحْمُولُ

والواقع -أيّها المسلمون- أن أهل الكفر والإلحاد شغلوا المسلمين عن نورهم عن مصدر العزّة، وأغروهم بطيف أنوارٍ زعموها بالسياسة تارة، وبالعلوم الدنيوية أخرى، وثالثة بالمال والأهل والجبروت، ورابعة بالغزو الأخلاقي والثقافي المترجم عبر وسائل متناثرة تتلقّفها أبصار المسلمين ومجتمعاتهم إلا من رحم ربي! ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾[الروم:7].

لقد قصّر جمعٌ من المسلمين مع كتاب ربهم، حتى إن الواحد منهم ليختم القرآن كله ثم يخرج منه بمثل ما دخل فيه، ما فهم من معانيه شيئًا! ولقد قصّر جمع من المسلمين بالقرآن حتى قصر بِرّهم به على أن تتقن مخرج حروفه فحسب! وتفتتح وتغلق معقوبًا بسخط وعطب من أغانٍ ماجنة ومشاهد مضللة! ويردَّد في المآتم، ويُعلَّق في المجالس، ويُسأل به المال والجاه، ويعلّق تميمة على الرقاب، أو يلصق بالصدور!

قال الفاروق -رضي الله عنه-: يا أيها الناس! إنه أتى عليّ حينٌ وأنا أحسِب أن من قرأ القرآن إنه إنما يريد به الله وما عنده، ألا وقد قيل لي: إن أقوامًا يقرؤون القرآن يريدون به ما عند الناس! ألا فأريدوا الله بقراءتكم، وأريدوه بأعمالكم.

فلله كم من قارئٍ يقرأ القرآن والقرآن يلعنه! وكم من ظالم أفاك متجبّر يقرأ القرآن فيلعن نفسه! ﴿أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾[هود:18]، ﴿فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ [آل عمران:61].

أيها المسلمون: ليس شيءٌ أنفعَ للعبد في معاشه ومعاده، وأقربَ إلى نجاته وسعادته من تدبّر القرآن، وإطالة النظر فيه، وجمع الفكر على معاني آياته، فإنها تُطْلِع العبد على معاني الخير والشر، وعلى حال أهلهما، وتريه صورة الدنيا في قلبه، وتحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم، فيرى غرق قوم نوح، ويعلم صاعقة عادٍ وثمود، ويعرف غرق فرعون، وخسف قارون.

بتدبّر القرآن يعيش المرء مع الآخرة حتى كأنه فيها، ويغيب عن الدنيا حتى كأنه خارج عنها، فيصير في شأن والناس في شأن آخر ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال:2].

لقد أنزل الله القرآن من فوق سبع سماوات للتدبّر والتعقّل، لا لمجرد تلاوته والقلب لاهٍ غافل: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [ص:29]، ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ [المؤمنون:68]، ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً﴾ [النساء:82]، ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد:24]. قال الحسن البصري -رحمه الله-: أُنْزِل القرآن ليُتدبّر ويُعْمل به، فاتخذوا تلاوته عملاً!.

عباد الله: يقول الله -عزّ وجلّ-: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾[الحديد:16]. يقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: ما كان بين إسلامنا وبين أنْ عاتبَنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين! وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن.

فما بال قلوبنا يا عباد الله؟! فما بال قلوبنا يا عباد الله؟! ما هذه القسوة عند تلاوة كلام الله؟! ما هذه الأقفال التي على القلوب؟! مواعظ تُتلى، وعبر تُسمع، وسور تُقرأ، ولكنها تدخل من اليمنى، وتخرج مع اليسرى! مَن مِنّا بكى عند قراءة الحاقة؟! ومن ارتجف حين سمع الزلزلة؟! ومن تاب يوم أن قرأ القيامة؟! ما هذا الران الذي على القلوب؟! أفَقُدَّت قلوبنا من حجر؟! أفَقُدَّت قلوبنا من حجر؟!.

أما إنه لو أنزل هذا القرآن على جبل لخشع وتصدّع من خشية الله! ولكن قست القلوب ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة:74]، أعاذنا الله وإياكم من القسوة والغفلة.

اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدرونا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا، وسائقنا ودليلنا إليك، وإلى جناتك جنات النعيم.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفّارًا.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد: يقول الله -جلّ وعلا-: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر:23]، وأيم الله! لقد كان خوف المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وخشوعه وبكاؤه عند تلاوة القرآن لا يوصف ولا يجارى! فقد صحّ عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يصلي وفي صدره أزيزٌ كأزيز المِرْجَل من البكاء! رواه أبو داود والترمذي.

وثبت عند الترمذي والحاكم على شرط البخاري أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "شَيَّبَتْنِي هودٌ والواقعةُ والمرسَلاتُ وعَمَّ يتسألون وإذا الشمس كوّرت". وقد قرأ عليه ابن مسعود -رضي الله عنه- سورة النساء، فلما بلغ قول الله: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً) [النساء:41] قال: "حسبُكَ الآن!" فإذا عيناه تذرفان! متّفق عليه.

وقد قال مرة لعائشة -رضي الله عنها-: "يا عائشةُ، ذَريني أتعبّد لربي". قالت: قلت: والله إني لأُحِب قربك! وأحب ما يسرّك!، قالت: فقام فتطهّر، ثم قام يصلي، فقرأ القرآن ثم بكى، حتى رأيت دموعه قد بلغت حقويه! قالت: ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه، ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت حجْره، قالت: ثم اتّكأ على جنبه الأيمن، ووضع يده تحت خدّه، ثم بكى، حتى رأيت دموعه قد بلغت الأرض، فدخل بلالٌ عليه فآذنه بصلاة الفجر، وقال: ما يُبكيك؟ قال: لقد نزلت عليّ الليلة آياتٌ، ويلٌ لمن يقرأْها ولم يتفكر فيها ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ…﴾ [آل عمران:190]. رواه ابن حبان بإسناد جيد.

وكان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- رجلاً أسيفًا، لا يستطيع القراءة من كثرة البكاء! وقد خرج الفاروق -رضي الله عنه- ليلة يعدّ، فسمع قارئًا يقرأ ﴿وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ(8)﴾ [الطور:1-7]، فقال -رضي الله عنه-: قسَمُ حقٍّ وربّ الكعبة! وخرّ مغشيًّا عليه! فحُمل إلى بيته، وبقي مريضًا ثلاثين يومًا يعوده الناس!.

بل إن القرآن -أيّها المسلمون- كان يصل إلى قلوب الكافرين وهم أبعد خلق الله عن الله وعن كتاب الله! فهذا عتبة بن الربيعة، وهو من المشركين، استمع إلى قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- من سورة فُصِّلت، فلما قام عتبة إلى أصحابه قال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به! ثم قال لهم: قد سمعتُ قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالسحر ولا هو بالشعر ولا بالكهانة!.

وما كان من النجاشي وقومه حين سمعوا سورة مريم يقرؤها جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- إلا أن فاضت أعينهم من الدمع، فأنزل الله فيهم: ﴿وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ [المائدة:83].

الله أكبر! هذا كلام ربّ البشر، أدهش العقول، وأبكى العيون، وأحيا القلوب والأفئدة، وعنت له رؤوس أهل الكفر، بل لقد أدهش الجنَّ وحرّك ألبابهم حين سمعوه من المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وكادوا يكونون عليه لِبَدًا! ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا(2)﴾ [الجن:1-2].

أيّها المسلمون: ذلكم هو واقع القرآن مع الناس، مؤمنهم وكافرهم، أنسهم وجنّهم. وهذا كتاب الله يُتلى به بين أظهركم ويُسمع، ومع هذا، قلّت العيون التي تدمع! والقلوب التي تخشع! عيون خلت من الدمع، فهي خراب بَلْقَعْ!.

تتلى آيات الله، فلا الشاب منّا ينتهي عن الصبوة! ولا الكبير منّا يلتحق بالصفوة! ولقد فرّطنا في كتاب ربّنا في الخلوة والجلوة، وصار بيننا وبين الصفاء أبعد ما بين الصفا والمروة! فلا حول ولا قوة إلا بالله!.

هذا، وصَلُّوا -رحمكم الله- على خير البرية، وأزكى البشرية، محمد بن عبد الله، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ به بنفسه، وثنّى بالملائكة المسبّحة بقدسه، ثم بكم -أيّها المؤمنون- فقال -جلّ وعلا-: ﴿أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [الأحزاب:56].

اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر صحابة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، واخذل الشرك والمشركين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفِّس كرب المكروبين، واقضِ الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم آمنّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق وليّ أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم اجعل مواسم الخيرات لنا مربحًا ومغنمًا، وأوقات البركات والنفحات لنا إلى رحمتك طريقًا وسلّمًا، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنْزِلْ علينا الغيث ولا تجلعنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجلعنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجلعنا من القانطين، اللهم لا تحرمنا خير ما عندك بشر ما عندنا يا ذا الجلال والإكرام، اللهم ما سألناك من خير فأعطنا، وما لم نسألك فابتدئنا، وما قصرت عنه آمالنا من الخيرات فبلِّغْنا.

سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.