الخشوع في الصلاة (2)

عناصر الخطبة

  1. آكد أركان الإسلام بعد التوحيد
  2. منزلة الصلاة في الإسلام
  3. روح الصلاة ولبها
  4. معنى الخشوع وفضله
  5. الوسائل المعينة على الخشوع
  6. خشوع النفاق وخشوع الإيمان.
اقتباس

الخشوع سكونٌ واستكانةٌ وعزوف عن التوجه إلى العصيان والمخالفة في الصلاة وبعدها.. وإذا خشع قلب المصلي استشعر الوقوف بين يدي خالقه وعظمت عنده مناجاته، فمن قدّر الأمر حق قدره واستقرت في جنابه عظمة الله عز وجل، وامتلأ قلبه بالخوف، خشع في صلاته، وأقبل عليها بروحه، وسكنت جوارحه فيها، فاستحق…

إن الحمد لله..

أما بعد: قال الله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ(2)﴾ [المؤمنون: 1- 2].

عباد الله: الصلاة آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين، لها في الدين المكانة العظمى، والأهمية الكبرى، هي الفاصل بين المسلمين والكافرين، وهي العهد الذي بين المؤمنين، من تركها كفر، ومن حفظها وحافظ عليها، حفظ دينه وعصم دمه وحسابه على الله تعالى، ومن ضيّعها وفرط فيها فهو لما سواها أضيع.

الصلاة أولُ ما يُحاسَب عليه العبد من عمله، وهي آخر ما يفقد الناس من دينهم، والخشوع فيها من المطالب الشرعية النفيسة، والأمنيات الإنسانية العزيزة، فقد أخذ عدو الله إبليس العهد على نفسه بإضلال بني آدم وإغوائهم، وأهم مداخله عليهم إشغالهم عن صلاتهم حتى ترى المسلم يقوم في الصلاة مكبراً وينتهي منها مسلماً وربما لا يدري أخمساً صلى أم أربعاً.

الخشوع عباد الله: روح الصلاة ولبّها، صلاة بلا خشوع كالجثة الهامدة بلا روح. الخشوع: حالة في القلب تنبع من أعماقه مهابةً لله، وتوقيراً له، وتواضعاً في النفس وتذللاً.

الخشوع: يورث انكساراً بين يدي الرب، وحُرقةً من المعاصي والسيئات؛ لأن القلب إذا خشع سكنت خواطره، وترفعت عن الأمور الدنيئة همته، وتجرد من اتباع الهوى مسلكه.

الخشوع: يجعل العبد ينكسر ويخضع لله، ويزول ما فيه من التعاظم والترفع، والتعالي والترفع، والتعالي والتكبر، وتلك درجات في قلوب الناس تتفاوت بتفاوت الإيمان في قلوبهم، وسيطرة الإسلام على نفوسهم.

الخشوع: هو السكون والطمأنينة والتؤدة والوقار والتواضع والخضوع. والحامل عليه: الخوف من الله ومراقبته في السر والعلن. فالخشوع هو قيام القلب بين يدي الله تعالى بالخضوع والذل. والأعضاء كلها تابعة للقلب فإذا فسد خشوعه بالغفلة والوساوس فسدت عبودية الأعضاء والجوارح.

أيها المسلمون: إن الخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرّغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، وحينئذٍ تكون له راحةً وقرة عينٍ، كيف لا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وجُعلت قرة عيني في الصلاة". رواه الإمام أحمد بسند صحيح.

لقد ذكر الله الخاشعين والخاشعات في صفات عباده المتقين الذين أعد الله لهم المغفرة والأجر العظيم، وأخبر سبحانه وتعالى عن أعظم فائدةٍ للخشوع وهي تخفيف أمر الصلاة على العبد وجعلها عوناً له على الطاعة، وحفظ الجوارح عن الحرام والفواحش قال الله تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(46)﴾ [البقرة: 45- 46].

وفي فضل الخشوع ووعيد تركه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "خمس صلوات افترضهنّ الله تعالى، من أحسن وضوءهنّ، وصلاتهنّ لوقتهنّ، وأتم ركوعهنّ وخشوعهنّ كان له على الله عهدٌ أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له على الله عهدٌ، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه" رواه أبو داود وهو صحيح.

وقال صلى الله عليه وسلم: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى ركعتين يُقبل عليهما بقلبه ووجهه". وفي رواية: "لا يحدث فيهما نفسه، غُفر له ما تقدم من ذنبه". وفي لفظٍ: "إلاّ وجبت له الجنة". رواه البخاري.

أيها المسلمون: لقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من نقر الصلاة، وعدم الخشوع فيها؛ لأن ذلك لا يُغني عن العبد شيئاً، فإن الإنسان ليس له من صلاته إلا ما عقل منها، وإن العبد ليصلي الصلاة ثم ينصرف منها ما يكتب له منها إلا عشرها، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها. رواه الإمام أحمد وهو صحيح.

وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " مثل الذي لا يتم ركوعه، وينقر في سجوده مثل الجائع يأكل التمرة والتمرتين لا يغنيان عنه شيئاً " رواه الطبراني بإسناد حسن.

الخشوع: عباد الله واجبٌ من واجبات الصلاة، عظيم شأنه، سريع فقده، نادرٌ وجوده، لاسيما في آخر الزمان مع فساد الأحوال، وقد ورد أن الخشوع أول ما يُرفع من الأرض، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أول شيء يُرفع من هذه الأمة الخشوع، حتى لا ترى فيها خاشعاً" رواه الترمذي وأحمد والدارمي.

قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: " أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون الصلاة، ورب مصلٍ لا خير فيه، ويوشك أن تدخل المسجد فلا ترى فيهم خاشعاً ".

الخشوع: عباد الله ليس بإطالة الركوع والسجود، وليس الخشوع بخضوع المنكبين وحني الظهر، وإنما هو خضوع الجوارح بين يدي الله تعالى وخروج القلب عن التعلق بغير الله، واستحضار عَظمة الصلاة وعظمة من يقف العبد بين يديه، والتعقّل والتفهّم لكل حركةٍ وسكنةٍ في الصلاة، وإن كانت إطالة الركوع والسجود من صفات الخاشعين، لكنها وحدها ليست كافية ما لم تتوج بخضوع القلب وطمأنينة النفس.

إن كثيراً من الناس يتساءلون وحُق لهم أن يتساءلوا ما بال بعض الناس يؤدون الصلاة فلا تأمرهم بمعروف ولا تنهاهم عن منكر وفحشاء، وقد قال الله سبحانه: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ [العنكبوت: 45].

الجواب في خلاصة وجيزةٍ: أنهم يؤدون صلاةً بلا روح، لا خشوع فيها ولا طمأنينة، قد استحوذ على نفوسهم الهوى والشيطان، فلم يرو من صلاتهم إلاّ أجساداً تَهوي إلى الأرض خفضاً ورفعاً، قلوبهم خاويةٌ، وأرواحهم بالدنيا متعلقةٌ، ونفوسهم بالأموال والأهلين مشغولةٌ، لا في ركوع يعتدلون، ولا في سجود يطمئنون، ولا بآية يتعظون.

لما سمع بعض السلف قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ [المائدة: 43] قال: " كم من مصلٍ لم يشرب خمراً، هو في صلاته لا يعلم ما يقول، قد أسكرته الدنيا بهمومها ".

وقال آخر: " الصلاة كجارية تُهدى إلى ملكِ الملوك، فما الظنّ بمن يُهدى إليه جاريةً شلاّء، أو عوراء، أو عمياء، أو مقطوعة اليد أو الرجل، أو مريضة، أو دميمة، أو قبيحة، حتى يُهدي إليه جاريةً ميتةً بلا روح، فكيف بالصلاة يُهديها العبد ويتقرب بها إلى ربه تعالى، والله طيب لا يقبل إلا طيباً، وليس من العمل الطيب صلاةٌ لا روح فيها".

فأين الخشوع عباد الله: ممن ينقر صلاته نقر الغراب، يتأمل في الجدران، ويهيم في الوديان، قلبه معلق بالدنيا، لا يُبرم حساباتِه ولا يقضي أشغاله، ولا يجهز خططه وأفكاره لأمور دنياه إلا وهو واقف بين يدي الله في الصلاة، فإذا سلّم الإمام من الصلاة خرج من المسجد مسرعاً كأنما أطلق سراحه من سجن طويل، لا يذكر الله بعد صلاته، ولا يستغفر لتقصيره فيها، فضلاً عن أن يأتي بسنن الصلاة ورواتبها.

ألا فاتقوا الله عباد الله في صلاتكم، واعلموا أن الخشوع سكونٌ واستكانةٌ وعزوف عن التوجه إلى العصيان والمخالفة في الصلاة وبعدها، والخاشعون والخاشعات هم الذين ذللوا أنفسهم وكسروا حدّتها وعوّدوها أن تطمئن إلى أمر الله وذكره، وتطلب حسن العاقبة، ووعد الآخرة، ولا تغتر بما تزينه الشهوات الحاضرة والملذات العابرة. وإذا خشع قلب المصلي استشعر الوقوف بين يدي خالقه وعظمت عنده مناجاته، فمن قدّر الأمر حق قدره واستقرت في جنابه عظمة الله عز وجل، وامتلأ قلبه بالخوف، خشع في صلاته، وأقبل عليها بروحه، وسكنت جوارحه فيها، فاستحق الأجر، والثناء الجميل في الآخرة، قال الله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [مريم: 90].

بارك الله …

الخطبة الثانية:

الحمد لله..

أما بعد: اعلموا رحمني الله وإياكم أن هناك أموراً تعين على الخشوع في الصلاة وهي عديدة، من أبرزها: تذكر الموت في الصلاة، وأن يعتقد المسلم أنه لن يصلي بعدها غيرها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه: " اذكر الموت في صلاتك، فإن الرجل إذا ذكر الموت في صلاته لحريّ أن يحسن صلاته، وصلّ صلاة رجل لا يظنّ أنه يصلي غيرها" رواه ابن ماجه وغيره بسند حسن.

ومما يعين على الخشوع أيضاً: تدبر الآيات المقروءة ومعرفة معاني ألفاظ الصلاة ما معنى: والعاديات ضبحًا، فالموريات قدحًا، لا تدري؟ ما معنى: التحيات لله والصلوات والطيبات؟ لا تدري، ما معنى: وتعالى جدك؟ لا تدري، هذه ألفاظ وتلك آيات أنت تقرأها وتتلفظ بها ولا تعرف معناها، فمن أين يأتي الخشوع. إذن من العلاج معرفة معاني ألفاظ الصلاة وتدبر آيات القرآن.

ومما يعين على الخشوع في الصلاة: مدافعة الشواغل والموانع التي تصرف عن الخشوع، فلا يصلي في مكان مزعج أو أمام نقوش وتصاوير وألوان وكتابات، ولا يصلي بحضرة طعام يشتهيه، ولا يصلي وهو حاقنٌ أو يدافعه الأخبثان، أو قد غلبه النعاس؛ لأن هذه الأمور كلها صوارف وشواغل تحول بين المصلي وصلاته.

ومما يعين على الخشوع في الصلاة إن لم يكن في مقدمتها: هو أن تغير منهج حياتك، ويكون همك الدار الآخرة، وأن تسخر حياتك كلها لخدمة هذا الدين يكون قيامك وقعودك وذهابك وإيابك في سبيل الله. كن من هذا الصنف من الناس ثم انظر هل تخشع أو لا تخشع. سيكون حتى خواطرك وشواردك في الصلاة تكون خواطر شرعية. ولهذا ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "والله إني لأجهز الجيش وأنا في الصلاة ". حدثوني من منا إذا قام يصلي صار يفكر في أمور دينية شرعية، قليل منا نسأل الله العافية.

وما المرء إلا حيث يجعل نفسه *** ففي صالح الأعمال نفسك فاجعل

فلو كان هم الإنسان وحياته، الآخرة، والدعوة، والعبادة، والأعمال الصالحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتغيير واقع الناس، وإصلاح المجتمع، لو كان هذا هو همّ الواحد منا، لتغيرت صلاتنا وخشعت قلوبنا.

مثل هذا الإنسان، حتى وهو في أعمال الدنيا، وهو في وظيفته يكون أحياناً شارد الذهن، فلو سألته في ماذا تفكر، لأجاب: أفكر في هموم المسلمون، أفكر في علماء المسلمين، أفكر في تسلط اليهود على المسلمين وغيرها من القضايا الشرعية التي تهم أصحاب الهمم العالية.

كن من هذا الصنف تكن بإذن الله من الخاشعين. أما وأنت تحشر نفسك مع عوام الناس يكون همك كهمهم، زوجة وبيت وعمل وسيارة، وغيرها من الأمور الحياتية المعيشية التي هي الشغل الشاغل للناس. أما وأنت تنازع كلاب الدنيا على الدنيا فمن أين يأتي الخشوع . ولقد صدق الشافعي رحمه الله عندما قال: ومن يذق الدنيا فإني طعمتها *** وسيق إلينا عذبها وعذابها فما هي إلا جيفة مستحيلة *** عليها كلاب همهن اجتذابها فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها *** وإن تجتذبها نازعتك كلابها

عباد الله: وإذا كان الخشوع في الصلاة مطلوباً وواجباً من واجباتها فإن هناك نوعاً آخر من الخشوع حذّر منه السلف وهو خشوع النفاق. قال حذيفة رضي الله عنه: "إياكم وخشوع النفاق، فقيل له: وما خشوع النفاق؟ قال أن ترى الجسد خاشعاً والقلب ليس بخاشع ".

وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: " كان يُكره أن يُرى الرجل من الخشوع أكثر مما في قلبه ".

ورأى بعضهم رجلاً خاشع المنكبين والبدن، فقال: يا فلان ! فقال له: "الخشوع ها هنا، وأشار إلى صدره، وليس ها هنا، وأشار إلى منكبيه".

ونظر عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى شابٍ قد نكسّ رأسه فقال له: " يا هذا ارفع رأسك، فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب ".

وقد فرّق العلامة ابن القيم رحمه تعالى بين خشوع النفاق وخشوع الإيمان فقال: " خشوع الإيمان هو خشوع القلب لله بالتعظيم والإجلال والوقار والمهابة والحياء، فينكسر القلب لله كسرةً ملتئمةً من الوجل والخجل والحب والحياء، وشهود نعمة الله وجنايات العبد فيخشع القلب لا محالة، فيتبعه خشوعُ الجوارح، وأما خشوع النفاق فيبدو على الجوارح تصنعاً وتكلفاً والقلب غير خاشع ". انتهى..

أيها الأحبة: لقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها ". رواه مسلم.

اللهم ارزقنا الخشوع في قلوبنا وجوارحنا، اللهم اجعلنا ممن يخشع لك قلبه وسمعه وبصره ويده ورجله.

اللهم رحمة اهد بها قلوبنا، واجمع بها شملنا، ولم بها شعثنا، ورد بها الفتن عنا.

اللهم صل على محمد …