الملك

عناصر الخطبة

  1. إنه الله
  2. تفرد ربنا بالكمال والجلال والعظمة
  3. ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها
  4. بعض معاني أسماء الله وصفاته
  5. أعظم الإيمان معرفة الله ومحبته وطاعته
اقتباس

إنه الله: أحق من ذُكر، وأحق من عُبد، وأنصر من اُبتغي، وأرأف من ملك وأجود من سُئل، وأكرم من قُصد، وأعدل من انتقم، حلمه بعد علمه، وعفوه بعد قدرته، ومغفرته عن عزته، ومنعه… يا من يرتكب المعاصي مختفياً عن الناس، أين الله ؟ إنك أحد اثنين: إما أنك ظننت أن الله لا يراك فقد كفرت. أو أنك تعلم أن الله يراك وتجترئ عليه، وتجعله أهون الناظرين إليك…

إن الحمد لله..

أما بعد: قال الله تعالى: ﴿وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [سورة الأعراف (180)] إن العلم بالله -سبحانه تعالى- والتعرف على أسمائه وصفاته، وعبادته بمقتضاها بعد معرفة معناها هو خلاصة الدعوة النبوية. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن لله تسعةً وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة»، ومعنى ذلك والله أعلم أي: من حفظها وفهم معانيها ومدلولها وأثنى على الله بها وسأله بها واعتقدها دخل الجنة، والجنة لا يدخلها إلا المؤمنون فعُلم أن ذلك أعظم ينبوع وخير مادة لحصول الإيمان وقوته وثباته.

فتعرفوا على الله سبحانه بمعرفة أسمائه وصفاته وما تقتضيها تلكم الأسماء والصفات من المعاني، قال ابن القيم -رحمه الله-: "فإن أعز أنواع المعارف معرفة الرب سبحانه بالجمال، وأتمّ الناس معرفة، من عرفه بكماله وجلاله وجماله سبحانه، ليس كمثله شيء في سائر صفاته، ويكفي في جماله أنه له العزة جميعاً والقوة جميعاً، والجود كله، والإحسان كله، والعلم كله، والفضل كله، ولنور وجهه أشرقت الظلمات، كما قال نبينا -صلى الله عليه وسلم-: «أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة».

ليس عند ربنا ليل ولا نهار، نور السموات والأرض من نور وجهه، ويوم القيامة إذا جاء لفصل القضاء أشرقت الأرض بنوره قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [سورة النور (35)].

أسماء الله الحسنى ينال بها كل مطلوب، ويُتوسلُ بها إلى كل مرغوب، وبملازمتها تظهر الثمرات، والاطلاع على أسرار المغيبات. فما أعظم الفاقة وأشد الحاجة إلى ما يُسكب في القلوب من عظمة علام الغيوب، سيما في هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن، وعظمت المحن، وتدفق سيل الشهوات، وكشّرت أنيابها الشبهات، وأُعلنت الحرب الشعواء على الفضائل، وصُوّبت السهام الرعناء على المكارم. ففي مثل هذه الحالة إذا استسقى القلب المحب ربه ومرّغ جبينه في محرابه، ونثر دموعه في ساحته، واستلهم معاني أسمائه وصفاته فسيمده مولاه بغيث الرحمة، وسقيا المعرفة، فإذا ضرب بعصاه الحجر انفجرت منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كل أناس مشربهم، عين الإخلاص، وعين الصدق وعين الحب، وعين اليقين، وعين التوكل، وعين المعرفة، وعين الرضى، وعين الصبر، وعين الأنس، وعين الافتقار، وعين الحياء، وعين الخوف، وسالت أودية بقدرها. إن عظمة أسماء الله أكبر من أن يُكشف عنها نقاب، أو يصل إلى حقيقتها وعظمتها أولو الألباب ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [سورة ص (39)].

أعظم أسمائه "الله" فما أحسن الاسم وما أجمل المسمى، كلمة حبيبة إلى القلب قريبة إلى النفس، منقوشة في الفؤاد، محفورة في الضمير، ممتزجة بالدماء. "الله" الذي تألهه القلوب بالمحبة والود والتعظيم، له الحمد كله، حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه، له الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، له الحمد حتى يرضى، وله الحمد بعد الرضى، له الحمد عدد خلقه وزنة عرشه ورضا نفسه ومداد كلماته.

لك الحمد طوعاً لك الحمد فرضا *** وثيقاً عميقاً سماءً وأرضا لك الحمد صمتاً لك الحمد ذكرا *** لك الحمد خفقاً حثيثاً ونبضا فأنت قوامي وأنت انسجامي *** مع الكون والأمر لولاك فوضى

إنه الله: أحق من ذُكر، وأحق من عُبد، وأنصر من اُبتغي، وأرأف من ملك وأجود من سُئل، وأكرم من قُصد، وأعدل من انتقم، حلمه بعد علمه، وعفوه بعد قدرته، ومغفرته عن عزته، ومنعه عن حكمته، وموالاته عن إحسانه ورحمته. هو الملك لا شريك له، والفرد الذي لا ند له، والغني فلا ظهير له، والصمد فلا ولد له، والعلي فلا شبيه له، كل شيء هالك إلا وجهه وكل مُلك زائل إلا ملكه، وكل ظل قالص إلا ظله، وكل فضل منقطع إلا فضله، لن يطاع إلا بإذنه ورحمته، ولن يعصى إلا بعلمه وحكمته، يطاع فيشكر، ويُعصى فيتجاوز ويغفر، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، القلوب له مفضية، والسر عنده علانية، والغيب لديه شهادة، أخذ بالنواصي، وسجل الآثار، وكتب الآجال ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [سورة يس (82)].

ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها: يجيب المضطر إذا دعاه، ويغيث الملهوف إذا ناداه، يفرّج الكربات، ويقيل العثرات، يهدي خلقه في ظلمات البر والبحر، ويرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته.

وهو الملك: ذو السلطان الكامل والمُلك الشامل، مالك العالم كله، علويه وسفليه، لا يتحرك متحرك إلا بعلمه وإرادته، المتصرف بخلقه كما يشاء من غير ممانع ولا مدافع، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، له المُلك المطلق، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير. يغني فقيراً، ويفقر غنياً، ويضع شريفاً، ويرفع وضيعاً، ويوجد معدوماً، ويعدم موجوداً، يقلب الليل والنهار بالرخاء والشدة، والأمن والمخافة، كل يوم هو في شأن، ملكه ظاهر في السموات والأرض، ويَظهرُ تماماً حينما يتلاشى الملك عن كل أحد، حينما يُعرض الخلائق عليه فرادى كما خلقوا أول مرة، يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء، لمن الملك اليوم، لله الواحد القهار.

وهو الجبار: يجبر الكسير والضعيف، ويأخذ القوي بالقهر المنيف. يقهر الجبابرة ويغلبهم بجبروته وعظمته، فكل جبار وإن عظم فهو تحت قهره وجبروته، وفي يده وقبضته. إن الذين ظلموا وفتكوا ودمّروا وقتلوا، فإن الله سينتقم منهم، فهو الجبار المنتقم، يمهل للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ولكن الله يصطفي من عباده من يشاء، ويتخذ منهم شهداء، ويبلو بكل ذلك العباد حتى إذا جاء اليوم الموعود كان عقابه العقاب الأليم. ألم تر أن الله جعل قرية عاليها سافلها، وأرسل حجارة من السماء، وفتح السماء بماء منهمر، وفجّر الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، فليبشر المؤمنون بنصر الله. إنه الجبار يجبر الضعيف بالغنى والقوة، ويجبر الكسير بالسلامة، ويجبر المنكسرة قلوبهم بإزالة كسرها وإحالة الفرج والطمأنينة فيها.

ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها.

إنه الرقيب: على عباده بأعمالهم، شاهد عليهم في جميع أحوالهم، وما يغيب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، إن رقابة البشر على البشر قاصرة، البشر: يغفُل، يسهو، ينام، يمرض، يموت. إذاً فلتسقط رقابة المخلوقين، وتبقى رقابة الله الكاملة المطلقة:

باري البرايا منشئ الخلائقِ *** مبدعهم بلا مثال سابقِ حيٌّ وقيوم فلا ينام *** وجل أن يشبه الأنام فإنه العليّ في دنوه *** وإنه القريب جل في علوه

يا من يرتكب المعاصي مختفياً عن الناس، أين الله ؟ إنك أحد اثنين: إما أنك ظننت أن الله لا يراك فقد كفرت. أو أنك تعلم أن الله يراك وتجترئ عليه، وتجعله أهون الناظرين إليك ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾ [سورة النساء (108)] يدخل بعض الناس غابة ملتفة أشجارها، أو شقة مفروشة مغلقة أبوابها، فيقول: لو عملت المعصية الآن فمن يراني؟ فيسمع هاتفاً يملأ عليه المكان: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [سورة الملك(14)].

فيا منتهكاً حرمات الله في الظلمات في الخلوات في الفلوات، بعيداً عن أعين المخلوقات، أين الله؟ هل سألت نفسك هذا السؤال؟ ثبت في الصحيح من حديث ثوبان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لأعلمنّ أقواماً من أمتي يوم القيامة يأتون بحسنات كأمثال الجبال بيضاء يجعلها الله هباءً منثورا» قال ثوبان: صفهم لنا، جلّهم لنا أن لا نكون منهم يا رسول الله، قال: «أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم يأخذون من الليل ما تأخذون، ولكنهم إذا خلو بمحارم الله انتهكوها».

إنه العليم: يعلم السر وأخفى، أحاط علمه بجميع المعلومات، من ماضٍ وآت وظاهر وكامن، ومتحرك وساكن، وجليل وحقير، عَلِم بسابق علمه عدد أنفاس خلقه، حركاتهم وسكناتهم، أرزاقهم وآجالهم، من هو منهم من أهل الجنة ومن هو منهم من أهل النار، ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [سورة الأنعام (59)]، ما من جبل إلا ويعلم ما في وعره، ولا بحر إلا ويدري ما في قعره، ﴿وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [سورة فاطر (11)].

ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها: إنه يملك السمع والأبصار والأفئدة، يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، يدبر الأمر، بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه، باري البريّات، وغافرُ الخطيئات، وعالمٌ بالخفيّات، المطّلع على الضمائر والنيات، أحاط بكل شيء علماً، ووسع كل شيء رحمة وحلما وقهر كل مخلوق عزةً وحُكما ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [سورة طه (110)]

لا تدركه الأبصار، ولا تغيّره الأعصار، ولا تتوهمه الأفكار ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ [سورة الرعد (8)]. لا تسكن الأرواح إلا بحبه، ولا تطمئن القلوب إلا بذكره، ولا تزكو العقول إلا بمعرفته، ولا تحيا النفوس إلا بنسيم لطفه وقربه، ولا يدرك النجاح إلا بتوفيقه، ولا يقع أمر إلا بإذنه، ولا يهتدي ضال إلا بهدايته، ولا يفهم أحد إلا بتفهيمه، ولا يُحفظ شيء إلا بكلاءته، ولا تنال سعادة إلا بطاعته، ولا طابت الجنة إلا بسماع خطابه ورؤيته.

ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها: فهو التواب الرحيم، ذو الفضل العظيم، الواسع العليم، العزيز الحكيم، السميع البصير: يسمع كل شيء ويرى كل شيء، لا يخفى عليه دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، إن جهرت بقولك سمعه، وإن أسررت به لصاحبك سمعه، وإن حدثتك به نفسك سمعه، وإن أخفيته في قلبك علمه.

وهو السميع يرى ويسمع ما *** في الكون من سر ومن إعلان ولكل صوت منه سمع حاضر *** فالسر والإعلان مستويان والسمع منه واسع الأصوات لا *** يخفى عليه بعيدها والداني  

إن فعلت فعلاً ظاهراً رآك، وإن فعلت فعلاً باطناً رآك، وإن تحركت بجميع بدنك رآك، وإن حركت عضواً من أعضائك رآك، وأبلغ من ذلك أنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

وهو البصير يرى دبيب النملة *** السوداء تحت الصخر والصوان ويرى مجاري القوت في أعضائها *** ويرى نياط عروقها بعيان ويرى خيانات العيون بلحظها *** ويرى كذاك تقلب الأجفان

ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها: فهو الرزّاق: عمّ برزقه كل شيء، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، رزق الأجنة في بطون الأمهات، ورزق الحيتان في قعار البحار، ورزق السباع في مهامه القفار، ورزق الطير في أعالي الأوكار، ورزق كل حيوان لتحصيل معاشه فأعطى كل شيء خلقه ثم هدى، ولو توكلنا على الله حق توكله، لرزقنا كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً.

ومن رزق الله تعالى ما يمنّ به على من يشاء من عباده من حسن الخلق، وسماحة النفس، ولين الجانب. ومن رزق الله تعالى ما يمنّ به على من يشاء من عباده من الإيمان الصحيح والعلم النافع والعمل الصالح وهذا أعظم رزق يمنّ الله به على عبده ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا(3)﴾ [سورة الطلاق (2-3)].

فهو المعطي المانع: فكم من سائل أعطاه سؤله، وكم من محتاج أعطاه حاجته ودفع ضرورته، وإنه سبحانه ليستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً. وكم منع سبحانه من بلاء قد انعقدت أسبابه، فمنعه عن عباده ودفعه عنهم، فلا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع.

وهو النافع الضار: إن جاءك نفع فمن الله، وإن وقع عليك ضر لم يكشفه سواه، ولو اجتمعت الأمة على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك. فالجأ إليه عند الشدائد تجده قريباً، وافزع إليه بالدعاء تجده مجيباً، وإذا عملت سوءاً أو ظلمت نفسك فاستغفره، تجد الله غفوراً رحيماً.

ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها: أعز جنده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. عالم بالخفيات، يفصل الآيات، تسبح له الأرضين ومن فيهن والسموات. رفع السموات بغير عمد، ولم يكن له كفواً أحد. شق البحار، وأجرى الأنهار ﴿يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ﴾ [سورة الزمر (5)]. يرسل الرعد، ويرينا البرق، وينشئ السحاب الثقال، فسبحانه من كبير متعال.

العزة له، والجبروت له، والعظمة له، والكبرياء له، والسلطان له، والملك له والحكم له، والقوة له، ما أعظم شأنه، وأعلى مكانه، وأقربه من خلقه، وألطفه بعباده، أشرقت لنوره الأرض والسموات، وأنار بنور وجهه الظلمات حُجب جلاله عن العيون، ونفذت إليه أبصار القلوب، وناجته ألسنة الصدور لا تراه العيون، ولا تخالطه الأوهام والظنون، ولا تغيّره الحوادث، ولا يحيط بصفاته الواصفون. عالم بمثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد قطر الأمطار وعدد ورق الأشجار، وعدد ما أظلم عليه الليل وأشرق عليه النهار.

فسبحانه ما أعظمه، هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء ﴿كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [سورة الشورى (11)].

قال ابن الجوزي -رحمه الله-: نظر بعين الاختيار إلى آدم، فحظي بسجود ملائكته، وإلى ابنه فأقامه في منزلته، وإلى نوح فنجاه من الغرق بسفينته، وإلى إبراهيم فكساه حُلّةَ خُلّته، وإلى إسماعيل فأعان الخليل في بناء كعبته، وافتداه بذبح عظيم من ضجعته، وإلى لوط فنجّاه وأهله من عشيرته، وإلى شعيب فأعطاه الفصاحة في خطبته، وإلى يوسف فأراه البرهان في همّته، وإلى موسى فخطر في ثوب مكالمته، وإلى داود فألان الحديد له على حدته، وإلى سليمان فسخّر له الريح يتنقل بها في مملكته، وإلى أيوب فيا طوبى لركضته، وإلى يونس فسمع نداءه في ظلمته، وإلى زكريا فقرن سؤاله ببشارته، وإلى عيسى فكم أقام ميتاً من حفرته، وإلى محمد -صلى الله عليه وسلم-، فخصه ليلة المعراج بالقرب من حضرته والوصول إلى سدرته.

وأعرض عن إبليس فخَزِيَ ببعده ولعنته، وعن قابيل فقلب قلبه إلى معصيته، وعن نمرود فقال أنا أحيي الموتى ببلاهته، وعن فرعون فادعى الربوبية على جرأته، وعن قارون فخرج على قومه في زينته، وعن أبي جهل فشقي مع سعادة أمه وابنه وابنته، هكذا جرى تقديره ولا اعتراض على قسمته ﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ﴾ [سورة الرعد (13)]انتهى..

ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها: فإذا امتلأ القلب بجلال معاني أسمائه، فستحلو الحياة، وتعذب الدنيا، وتستنير البصيرة، وتنكشف الهموم، وتهاجر الغموم. من استشعر معاني أسماء الله: أنس بالحياة، وسعد بالوجود، وتلذذ بالأيام، قلبه مطمئن، وفؤاده مستنير، وصدره منشرح، نقشت محبة الله في قلبه، وسكنت صفاته في ضميره، ومثلت أسماء الله أمام عينيه. وهذا لا يأتي بلا سبب، ولا يحصل بلا تعب، بل هو ثمرة للطاعة، ونتيجة للمحبة.

إذا كان حب الهائمين من الورى *** بليلى وسلمى يسلبا اللب والعقلا فماذا عسى أن يصنع الهائم الذي *** سرى قلبه شوقاً إلى الملأ الأعلى

بارك الله لي ولكم…

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه..

أما بعد: قال الله تعالى: ﴿وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [سورة الأعراف (180)].

اعلم يا عبد الله بأن الله هو الغفور: يغفر الذنوب وإن عظمت، ويستر العيوب وإن كثرت، وفي الحديث القدسي: «يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو أتيتني بملء الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بمثلها مغفرة» ما أعظم جودك يا الله، الخلائق لك عاصون وأنت تكلؤهم في مضاجعهم كأنهم لم يعصوك، تتولى حفظهم كأنهم لم يذنبوا، تجود على العاصي، وتتفضل على المسيء، من ذا الذي دعاك فلم تجبه؟ ومن ذا الذي سألك فلم تعطه؟ فأنت الجواد ومنك الجود، وأنت الكريم ومنك الكرم.

ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها: كان بعباده خبيراً بصيراً، وخلق كل شيء فقدره تقديراً، وأنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً. هدى من الضلالة، وأنقذ من الجهالة، وأنار الأبصار، وأحيا الضمائر والأفكار. غافر الذنب، قابل التوب، شديد العقاب. محسن يحب المحسنين، شكور يحب الشاكرين، جميل يحب الجمال، طيب يحب كل طيب، تواب يحب التائبين، يستحي أن يعذب ذا شيبة شاب في الإسلام، فتكثر الذنوب، وتعظم العيوب وتقسو القلوب، فيخشى الإنسان من الخسران، ويخاف الحرمان، فيناديه ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ [سورة الزمر (53)].

إنه الغفور الرحيم، التواب الكريم، ينادي عبده نداء المتلطف، ويدعوه دعاء المشفق عليه: «يا عبدي: وعزتي وجلالي لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني لغفرت لك ولا أبالي».

من تقرب إليه شبراً تقرب إليه ذراعاً، ومن تقرب إليه ذراعاً تقرب إليه باعاً، ومن أتاه يمشي أتاه هرولة. يحب التوابين، ويحب المتطهرين، بل يفرح بتوبة عبده إليه أعظم من فرحة إنسان كان بأرض فلاة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه، فانفلتت منه، فأيس منها فجلس إلى جذع شجرة ينتظر الموت، فأخذته إغفاءة ثم أفاق فإذا بها واقفة عند رأسه وعليها طعامه وشرابه فقام إليها وأمسك بزمامها، ثم صاح من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح. فسبحانك ما أرحمك وسبحانك ما أكرمك.

لك الأمر لا يدري عبادك ما بيا *** لك الأمر لا للناصحين ولا ليا فهاذي معاذيري وتلك صحائف *** عليها خطاياي وفيها اعترافيا وفيها من الأمس الدفين وحاضري *** وفيها من الآتي وفيها ابتهاليا وفيها أعاجيب يكفّر همها *** ذنوبي وإن كانت جبالاً رواسيا ونازعني شوقٌ إليك وهزّني *** من الغيب ما يهفو إليه رجائيا جئت من الدنيا الأثيمة هارباً *** بصفويَ من أكدارها ونقائيا أناديك في ضعف وأخجل أن ترى *** جراح أمانيه ولون دمائيا لك الأمر مالي أرتجيك فيلتوي *** لساني وأمضي بالتوسل شاكيا دعوتك ملء النفس ألاّ ترده *** مغيظاً وألا تستعيد سؤاليا كفانيَ أوهاماً فهب لي تميمة *** بها أتقي نفسي وشرّ ذكائيا وأيامي اللاتي ذهبن وعالَماً *** دَفنتُ به عهد الصبا وشبابيا وأودعته سراً حراماً ولم أزل *** أعود فأبكيه دموعاً غواليا أتيتك والحق الصريح يمدُّني *** إليك ولحن البِشر ملء فؤاديا وفيها رجاء فاض منك جلاله *** وآفاق نور يستحيها ضيائيا تنسّمت أمواج الرحيل وأشرقت *** عليّ أمانيه فبارك شراعيا!!

ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها: فهو الرحمن الرحيم: أرحم بعباده من الوالدة بولدها، فما من نعمة وجدت إلا من رحمته، وما من نقمة دفعت إلا من آثار رحمته، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، كتب على نفسه الرحمة، غلبت رحمته غضبه، ووسعت رحمته كل شيء، فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحي الأرض بعد موتها، إن الله يحي الموتى وهو على كل شيء قدير. معاشنا من آثار رحمته، صحتنا من رحمته، أموالنا من رحمته، أولادنا من رحمته، الليل والنهار من رحمته، المطر والنبات من رحمته، إرسال الرسل من رحمته، إنزال الكتب من رحمته ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [سورة النحل (18)]، ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [سورة فاطر(2)].

إن رحمة الله، لو فتحها سبحانه لأحد من خلقه، فسيجدها في كل شيء، وفي كل موضع، وفي كل حال، وفي كل مكان، وفي كل زمان، فإنه لا ممسك لها، يجدها في نفسه وفي مشاعره، ويجدها فيما حوله، وحيثما كان.

إن الإنسان يواجه أصعب الأمور برحمة الله فإذا هي هوادة ويسر، ويواجه أيسر الأمور وقد تخلت رحمة الله فإذا هي مشقة وعسر، ويخوض المخاوف والأخطار برحمة الله، فإذا هي أمن وسلام، ويعبرها بدون رحمة الله، فإذا هي مهلكة وبوار.

إنه لا ضيق مع رحمة الله، إنما الضيق في إمساكها دون سواه، لا ضيق مع رحمة الله ولو كان صاحبها في غياهب السجون أو في جحيم العذاب أو في شعاب الهلاك، ولا سعة مع إمساك رحمة الله، ولو تقلب الإنسان في أعطاف النعيم وفي مراتع الرخاء. إن هذا الباب لو فتح لك يا عبد الله، وهو باب رحمة الله، فلا عليك ولو أغلقت أمامك جميع الأبواب، وأقفلت جميع النوافذ، وسدت جميع المسالك، إنه هو الفرج والفسحة واليسر والرخاء. ولو أغلق عنك هذا الباب، باب الرحمة ولو فتح لك جميع الأبواب والنوافذ والمسالك، فما هو بنافع، وهو الضيق والكرب والشدة والقلق والعناء.

هذا الفيض من رحمة الله، يفتح عليك، ثم يضيق الرزق ويضيق المسكن ويضيق العيش وتخشن الحياة فلا عليك، فهو الرخاء والراحة والطمأنينة والسعادة، وهذا الفيض يمسك عنك، ثم يفيض الرزق ويقبل كل شيء فلا جدوى وإنما هو الضنك والحرج والشقاوة والبلاء.

ويمنح الله الولد، ويكون معه الرحمة، فإذا هي زينة الحياة الدنيا، ومصدر فرح واستمتاع، ومضاعفة للأجر في الآخرة، بالخلف الصالح الذي يذكر الله، ويمسك رحمته فإذا الذرية بلاء ونكد وشقاء ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [سورة فاطر (2)].

ويعطي الله السلطان والجاه والملك، مع رحمته فإذا هي أداة إصلاح ومصدر أمن، ووسيلة لادخار الطيب الصالح من العمل والأثر، ويمسك -جل وتعالى- رحمته عن هذا السلطان والملك، فإذا به مصدر قلق على فواتها، ومصدر طغيان وبغي عند بقائها، ومثار حقد على صاحبها، لا يقر له معها قرار، ولا يستمتع بجاه ولا سلطان، ويدخر بسببه للآخرة، رصيداً ضخماً من النار.

إن من رحمة الله أن تحس برحمة الله، ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها. إنه الرحمن الرحيم، إن رحمة الله لا تعز على طالب في أي مكان وفي أي حال، وجدها إبراهيم -عليه السلام- في النار، ووجدها يوسف -عليه السلام- في الجب كما وجدها في السجن، ووجدها يونس -عليه السلام- في بطن الحوت في ظلمات ثلاث، ووجدها موسى -عليه السلام- في اليم وهو طفل رضيع مجرد من كل قوة ومن كل حراسة، ووجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور فقال بعضهم لبعض ﴿فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا﴾ [سورة الكهف (16)] ووجدها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه في الغار والقوم يتعقبونهم ﴿لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا﴾ [سورة التوبة (40)]، ووجدها أحمد بن حنبل وهو يجلد ويضرب، ووجدها شيخ الإسلام ابن تيمية عندما أدخل السجن فالتفت إليهم وقال: ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ﴾ [سورة الحديد (13)].

إن ما بين الناس ورحمة الله إلا أن يطلبوها مباشرة منه، ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها.

اللهم إنا نسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تغفر لنا، وتتجاوز عنا.

اللهم إنا مذنبون فاغفر لنا، ومقصرون فاعف عنا، ومخطئون فسامحنا.

اللهم سترك بعد عافيتك، وعفوك بعد حلمك. اللهم نقنا من خطايانا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلنا من خطايانا بالماء والثلج والبرد.  

بطاقة المادة

المؤلف ناصر بن محمد الأحمد
القسم خطب الجمعة
النوع مقروء
اللغة العربية

ملفات ذات علاقة

العنوان اللغة
الملك العربية