الخشوع في الصلاة

عناصر الخطبة

    اقتباس

    والصلاة أعظم عبادة يتقرب بها العبد إلى مولاه، وقد طغت عليها فتن العصر وبريقه، حتى لم تصف دقائقها القلائل من تكدير وتفكير، بل أصبحت – كما يشكو كثير جدًّا من الناس- غرفة عمليات هادئة، يخططون فيها لما بعد الصلاة، ويستعدون فيها نفسيًّا لمواجهة الآخرين، ويرددون بهمس ذهني ما قد يقولونه للناس، ولا ينتبه أحدهم إلا على السلام، فيحزن المخلِص، ويعتصر قلبه ألمًا لما قد فاته من أجر عظيم، وما نقص من صلاته من فضل كبير.

    الخطبة الأولى:

    حمدًا كريمًا لمن تفرد بالعظمة والكبرياء، وحمدًا متواصلاً لمن بيده مقادير كل شيء، حمدًا له من كل قلب مؤمن، ومن كل نفس مخبتة، حمدًا له على كل نعمة، وحمدًا له في السراء والضراء، لك الحمد يا ربنا بما أعطيت وأوليت، ولك الشكر بما أجزلت وأكرمت، ولك الحمد بما حلمت وعفوت، ولك الحمد بما سترت وغفرت، الحمد كله لك، والشكر موصول لجنابك، والثناء استحقه سلطانك، تعطي وتمنع، وتحيي وتميت، بيدك الخير إنك على كل شيء قدير.

    نشهد ألا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، كل شيء هالك إلا وجهك، عزّ جاهك، وتقدست أسماؤك، ونشهد أن محمدًا عبدك ورسولك، اصطفيته على خلقك بأكرم رسالة، وأعظم نبوة، عبدك ورسولك، وخليلك وحبيبك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

    أما بعد: فيا أيها الأحبة في الله: يا من جمعكم الله تعالى في بيت من بيوته، له تسجدون، ولعظمته تركعون، وإليه في حاجاتكم تصمدون، أوصيكم بتقوى الله وطاعته، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 1.2].

    إن من أكثر الأسئلة حنينًا إلى الإجابة الشافية عند المتقين الأبرار، هو كيف أستطيع أن أتخلص من الوساوس والتفكير في الدنيا وأنا أمام ربي أصلي له وأناجيه.

    وهو سؤال عظيم عن أمر عظيم، فالصلاة مناجاة بين العبد وربه، والمناجَى أعظم من أن يلتفت عنه المناجي بقلبه أو بوجهه، سبحانه وتعالى جلَّ في عظمته وكبريائه.

    والصلاة أعظم عبادة يتقرب بها العبد إلى مولاه، وقد طغت عليها فتن العصر وبريقه، حتى لم تصف دقائقها القلائل من تكدير وتفكير، بل أصبحت – كما يشكو كثير جدًّا من الناس- غرفة عمليات هادئة، يخططون فيها لما بعد الصلاة، ويستعدون فيها نفسيًّا لمواجهة الآخرين، ويرددون بهمس ذهني ما قد يقولونه للناس، ولا ينتبه أحدهم إلا على السلام، فيحزن المخلص، ويعتصر قلبه ألمًا لما قد فاته من أجر عظيم، وما نقص من صلاته من فضل كبير.

    أيها الصالح المشغول القلب في صلاته.. الصلاة الكاملة مظهر ومخبر، فمظهرها أداؤها كاملة بشروطها وأركانها وواجباتها وسننها، ومخبرها سكون القلب، الذي يترتب عليه سكون الجوارح، وهو مبني على حضور القلب مع الله –تعالى- ومع الصلاة، وهو (الخشوع) الذي عدَّه الله أول صفات المؤمنين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ(2)﴾ [المؤمنون: 1- 2].

    وهو من أعمال القلوب التي لها أثر على الجوارح، يقول الحسن البصري -رحمه الله-: “كان خشوعهم في قلوبهم، فغضوا بذلك البصر، وخفَضُوا الجناح“.

    فإذا خشع القلب خشع السمع والبصر والوجه والأطراف، فلا تسمع إلا همسًا، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي” (رواه مسلم). ولذلك كان السلف إذا رأوا مَن يتحرك كثيرًا ويعبث بيديه في صلاته، قالوا: “لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه“.

    فالحركة إذا وتسريح النظر، والصمت، والاسترخاء والتعطف في الوقوف كل ذلك من دلائل تسريح الذهن، وانشغال البال خلال الصلاة، وأثره ظاهر على طرد الخشوع.

    أيها المشتاق إلى صلاة خاشعة مطمئنة.. إن الخشوع هو الذي يحقِّق مغزَى الصلاة في نفسك، وإقامة ذِكر الله في الأرض، يقول الله -جل وعز وتقدس-: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ [العنكبوت: 45].

    وغياب هذا العنصر المهم من صلاة كثير من المسلمين هو ما جعلهم يخرجون من المساجد فيعودون إلى كثير من المعاصي والذنوب والمنكرات، دون أن تترك الصلاة فيهم أثرًا ظاهرًا.

    والخشوع يورث الخشية من الله؛ حين يشعر العبد بأنه أمام علام الغيوب، المطلع على السرائر، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ولذلك فقد روي عن علي بن الحسين زين العابدين -رحمه الله- أنه كان إذا توضأ اصفرَّ وجهه، وارتجفت أطرافه، فقيل له في ذلك، فقال: “ويحكم أتدرون بين يدي من سأقف“؟!

    والصلاة جديرة بكل هذا الاستعداد، فهي مهلكة الذنوب، ومصنع الحسنات، يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: “ما من امرئ مسلم تحضره الصلاة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما فيها من الذنوب، ما لم يؤت كبيرة، وذلك الدهر كله” (رواه مسلم)، فانظر كيف جعل الخشوع في الصلاة من شروط تكفير الذنوب.

    أيها الحريص على صحة عبادتك، ورفعها إلى المولى -عز وجل- مجللة بالنور والقبول.. إن علماء الإسلام اتفقوا على أن الصلاة لا يُثاب فاعلها إلا بمقدار ما يحضر قلبه فيها، وإنما اختلفوا في إجزائها وحكم إعادتها لمن لم يحضر قلبه مع الصلاة.

    يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله-: “لا نزاع أن هذه الصلاة لا يُثاب على شيء منها إلا بقدر حضور قلبه وخضوعه، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “إن العبد لينصرف من الصلاة ولم يُكتب له إلا نصفها ثلثها ربعها، حتى قال عشرها“، وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: “ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها“، فليست صحيحة باعتبار ترتب كمال مقصودها، وإن سُميت صحيحة باعتبار أنا لا نأمره بالإعادة، ولا ينبغي أن يعلق لفظ الصحة عليها، فيقال: “صلاة صحيحة، مع أنه لا يُثاب فاعلها” (مدارج السالكين 1/112).

    ولا شك أن كثرة التنفل يغفر شيئًا من هذا الشرود.

    ولكن هل يأثم من حدَّث نفسه في صلاته؟ الواقع أن من غلب عليه حديث النفس ذلك ولم يتعمده فإنه يكون داخلاً في النسيان، وبالتالي يكون معفوًّا عنه؛ لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “إن الله وضَع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرِهُوا عليه” (رواه ابن ماجه وصححه الألباني).

    ولكن من تذكر شيئًا من أمور الدنيا، واستمر في حديث النفس عمدًا، فإن هذا معرَّض للإثم؛ لأنه استهانة بالصلاة. أما انصراف الذهن إلى شيء من أمور الآخرة، فالظاهر أنه انتقال من عبادة إلى عبادة فلا يؤثر على ترتب الأجر على فعل الصلاة، لكن لا يجوز تعمد ذلك.

    أيها المحب للأجر والثواب: أقبل على صلاتك، يتحقق لك هدفك من الحصول على أجرها، وتسكب الطمأنينة في نفسك، وتتذوق طعوم قرة العين التي كان يهنأ بها الأبرار، وتستعين بها على أمور الدنيا والآخرة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 153].

    أيها الأحبة في الله.. التائب من الذنب كمن لا ذنب له.. توبوا إلى الله واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

    الخطبة الثانية:

    الحمد لله أهل الثناء والمجد، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله الأطهار وصحبه الأبرار.

    أما بعد: فلعل النفوس قد اشتاقت إلى ما يدلها على فضيلة الخشوع، وتشوَّفت إلى ما يجلبه، وقد مرت إشارات إلى ذلك.

    فمما يجلب الخشوع إلى القلب في الصلاة: شعور العبد أنه يناجي مولاه، يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: “إن أحدكم إذا قام يصلي فإنه مناجٍ ربه فلينظر بم يناجيه“.

    وإخلاص النية في التقرب إلى الله بالعبادة، مما يصرف القلب عن الناس والعوارض، ويوجِّه القلب إلى خالقه -تعالى-.

    ومن أهم ما يُحضِر الذهنَ في الصلاة، ويربطه بها: التدبر في معاني الآيات والأذكار الواردة في الصلاة، فليفهم معنى ما يقول، فإذا كبر فإنه يعلن أن الله أكبر من كل شيء، فكيف يلتفت إلى غيره، وإذا استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، فليتذكر حقارة الشيطان حين يذكر الله، وكيف يخنس ويهرب، وإذا قال: سبحان ربي العظيم أو سبحان ربي الأعلى، فليتذكر عظمة الله وعلوه على عباده، وإذا ركع أو سجد فليستحضر مدلولات الخضوع والاستكانة والتذلل لله –تعالى- ليقوى به إيمانه، وتزداد خشيته، وليتدبر كل آية يقرؤها، وهكذا من عبادة إلى أخرى حتى يسلم، فالصلاة ليس فيها فراغ للتفكير في الدنيا وما فيها.

    يقول الحسن البصري -رحمه الله-: “إذا قمت إلى الصلاة فقم قانتًا كما أمرك الله، وإياك والسهو والالتفات أن ينظر الله إليك وتنظر إلى غيره، تسأل الله الجنة وتعوذ به من النار وقلبك ساه، ولا تدري ما تقول بلسانك” (كتاب تعظيم الصلاة).

    ومن أسباب الخشوع تحريك الشفتين بالقراءة والذكر، وقد كان ذلك من فعله -صلى الله عليه وسلم-، حتى تضطرب لحيته.

    ومن أسباب الخشوع: الزهد في الدنيا، والإقبال على الآخرة، وذلك أن الانصراف إلى الدنيا بالقلب هو الذي يجعله دائم التفكير فيها حتى في الصلاة، وحكي عن أحدهم أنه كان مرة في صلاته في الجماعة، وفجأة أخرج رزمة من النقود وعدها.

    والصلاة في الجماعة في المسجد مظنة الخشوع أكثر من البيت في ظل الظروف الراهنة التي جعلت كثيرًا من بيوت المسلمين مملوءة بالمنكرات المرئية والمسموعة، فكيف بصلاة من يصلي في مكان في تلفاز يضج بالموسيقى والغناء والتمثيل السمج.

    وكلما كان المصلي في مكان خالٍ مما يشتهيه من الأكل، أو من الخطوط والزينة كان ذلك أدعى إلى خشوعه؛ حتى لا يفكر فيها خلال صلاته.

    ومن أسباب الخشوع كذلك: النظر إلى موضع السجود، والطمأنينة التي هي ركن من أركان الصلاة، وصفتها سكون الأعضاء بعد حركتها في كل الصلاة، ليس كما يفعل بعض المصلين، ينقرها كنقر الطير، لا يستقر له ظهر في ركوع أو سجود أو حتى قيام.

    وأخيرًا.. إذا أردت الخشوع في صلاتك، فطبق ما سمعت، واعزم أن تكون صلاة الجمعة هذه بداية التطبيق الفوري، وكن في كل صلاة تصليها لله كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودِّع” (حسنه الألباني في صحيح الجامع).

    اللهم وفقنا لأحسن الأعمال لا يوفق إليها إلا أنت، ونعوذ بك من سيئها، فإنه لا يبعدنا عنها إلا أنت، اللهم أنت الرحيم فارحمنا، وأنت الحليم فاحلم علينا، وأنت التواب فتب علينا، أنت المقدم وأنت المؤخر، بيدك الخير إنك على كل شيء قدير.

    اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين، اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.

    اللهم فك أسرى المسلمين، واقض الدين عن المدينين، واهد ضالهم، وهيئ لأمة الإسلام أمرًا رشدًا يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.

    اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين.

    اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، وعنا معهم برحمتك وفضلك ومنك يا أكرم الأكرمين.