الذبح والأضحية بين المشركين والموحدين

عناصر الخطبة

  1. الشرك قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم
  2. الذبح لغير الله انتشر انتشارًا كبيرًا في الجاهلية
  3. الذبح للقبور والأولياء نوع من الشرك في الذبائح
  4. الرد على شبهات الذابحين لغير الله
  5. حكم الأضحية وما يستحب للمضحي
اقتباس

ولكن الأمور لا تدوم على ما هي عليه، فإن إرادة الله -عز وجل- اقتضت أن لا ينقطع الشرك من الأرض بالكلية إلى يوم الدين، وذلك لمشيئته -عز وجلّ- أن يدوم الصراع بين الحق والباطل، وليقوم أهل محبته وولايته بجهاد أهل معصيته، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ومن ثم فقد أخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن الناس سيفشو فيهم الشرك مرة أخرى ..

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.. 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)﴾ [الأحزاب:70، 71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها المسلمون: هل تعلمون كيف كان شرك المشركين قبل بعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟! قد يتصور البعض أنهم كانوا ينكرون وجود الله كالشيوعية الملحدة اليوم، ولا يؤمنون بأنه هو خالقهم ورازقهم؟! ولكن الذي يخبرنا به القرآن غير ذلك، فإن الله -عز وجل- أعلمنا بأنهم كانوا يؤمنون بوجوده -عز وجل-، بل وبأنه خالقهم ورازقهم وخالق السماوات والأرض: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ﴾ [يونس: 31]، ﴿قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ(89)﴾ [المؤمنون: 84-89]، ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ﴾ [الزخرف:9]، ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [الزخرف: 87].

بل كانوا يدعون الله أحيانًا، ويسألونه أن يفصل بينهم وبين محمد، وأن ينزل عليهم حجارة من السماء إن كان محمد قد جاء بالحق ظنًّا منهم أنهم على حق؛ قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأنفال: 32]، وكانوا يخلصون لله الدعاء في وقت الشدائد ويتجهون إليه دون غيره، قال تعالى: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [العنكبوت: 65].

إذًا فكيف كان شركهم؟! كان شركهم أنهم في وقت الرخاء كانوا يتجهون بأنواع العبادات لغير الله -عز وجل- من الأصنام والأوثان الباطلة، فيجعلون لها نصيبًا من العبادة مع الله -عز وجل-، وبهذا صاروا مشركين، وليس بإنكارهم وجود الله -عز وجل-؛ ولذلك بعث الله إليهم محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ليأمرهم بعبادة الله -عز وجل- الذي يعرفون أنه خالقهم ورازقهم، وعدم التوجه إلى عبادة غيره.

ونشير اليوم إلى عبادة من العبادات التي كان المشركون يتوجهون بها إلى غير الله -عز وجل- ألا وهي الذبح؛ فقد كانوا يقدمون القرابين إلى معبوداتهم الباطلة، ويذبحون لها الذبائح لترضى عنهم فتشفع لهم عند الله: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ [يونس: 18]، وزعموا أنها تقربهم إلى الله، وأنهم عبدوها لذلك لا لذاتها: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر: 3]، وقد كان ذبحهم لغير الله كثيرًا جدًّا، حتى إن من الأقوال التي ذكرها المفسرون في سبب تسمِّي مناة الصنم بهذا الاسم، أنها سميت بذلك لكثرة ما يمنى عندها من الدماء، أي بسبب ما يراق عندها من دماء القرابين.

فلما بعث إليهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأمرهم بتوحيد الله -عز وجل- وإخلاص العبادة له وترك عبادة ما سواه، أمرهم بأن يكون ذبحهم لله وحده دون غيره، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ(163)﴾ [الأنعام: 162، 163]، وقال -عز وجل-: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ [الكوثر:2]، وروى الإمام مسلم عن علي -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لعن الله من ذبح لغير الله".

بل نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الذبح لله في مكان يذبح فيه لغير الله أو يعبد فيه غيره، فقد نذر رجل على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ينحر إبلاً ببوانة -وهي موضع في أسفل مكة- فسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟!"، قالوا: لا. قال: "فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟!"، قالوا: لا. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم". فدلّ هذا الحديث على أن ذلك نذر معصية لو قد وجد في المكان بعض الموانع.

وهكذا فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما عليه لتطهيرهم من ذلك الشرك، بل ومما يقرب إليه حتى تأصل فيهم التوحيد الخالص.

ولكن الأمور لا تدوم على ما هي عليه، فإن إرادة الله -عز وجل- اقتضت أن لا ينقطع الشرك من الأرض بالكلية إلى يوم الدين، وذلك لمشيئته -عز وجلّ- أن يدوم الصراع بين الحق والباطل، وليقوم أهل محبته وولايته بجهاد أهل معصيته، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ومن ثم فقد أخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن الناس سيفشو فيهم الشرك مرة أخرى، وستعود جماعات كثيرة ممن ينسبون إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى عبادة غير الله، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان". أي حتى تعبد جماعات من أمتي الأوثان.

وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقوم الساعة حتى تضرب ألياتُ نساء دوس حول ذي الخلصة". وهو صنم دوس التي كانوا يعبدونها في الجاهلية.

وحقت نبوءته -صلى الله عليه وسلم-، وإذا بالشرك يدب في الأمة وينتشر حتى يصبح في كل بلد وثن من الأوثان، يذبح لها الناس وينذرون، ويدعونها ويستشفعون بها لتقربهم إلى الله كما كان أهل الجاهلية يفعلون.

وبعضهم يقول: نحن لا نذبح لهؤلاء الأولياء والمقبورين، وإنما نذبح لله، فيكذبون على أنفسهم ويغرونها بالأماني؛ إذ لو صدقوا لذبحوا لله في بيوتهم، ولم يتكلفوا إرسال الذبيحة عند الولي، ويستوي في الذبح لغير الله أن يكون باللفظ، كأن يقول: هذه الذبيحة للولي الفلاني، أو بالفعل كأن يذبحها عند قبره أو قريبًا منه.

وبعضهم يقول: الذبح أو النذر لله والثواب للولي، فهذا يضيف إضافة جديدة، وهي قوله: الثواب للولي، وهو قول متناقض؛ فإنه إن كان وليًّا حقًّا فليس محتاجًا لذلك الثواب كحاجتك أنت أيها الخائب المسكين له، فأولى له أن يسعى للثواب لنفسه، وليترك ذلك الولي لما هو فيه من ولاية وقرب من الله.

والذي ساعد على هذا الشرك حماية أمراء وعلماء السوء له، وهما الصنفان اللذان يفسد الناس بفسادهما، العلماء والأمراء، واستغل الدجالون ذلك في تعظيم هؤلاء الموتى في صدور عابديهم، ويحكون في ذلك الحكايات المكذوبة السخيفة التي تستهوي ضعاف العقول، وتحثهم على تقديم النذور والقرابين؛ لينتفع بها هؤلاء الدجالون.

ومن تلك الحكايات التي يذكرونها أن رجلاً سرق سمكة مملحة وأكلها، فاستحلفه المسروق منه بالله، فأقسم بالله ثلاث مرات بأنه لم يأخذها ولم يرها، فلم يحصل له شيء، فاستحلفه بأحمد البدوي، فما كاد يلفظ الاسم حتى سبقت السمكة من بطنه ولفظها، وذلك منهم اعتقاد أن البدوي أغير وأعز وأقدر من الله الحي القيوم العزيز الحكيم، قبحهم الله وأخزاهم، وطهَّر الأرض منهم ومن رجسهم وكفرهم وفسادهم؛ فإنه لا فساد أشد من فساد العقيدة، ولذلك لا تعجبوا إذا قلنا: إن الناس في حاجة إلى دعوة إلى التوحيد من جديد، في حاجة إلى فهم كلمة "لا إله إلا الله" التي يرددونها كالببغاوات ولا يفقهون معناها الذي هو توحيده -عزّ وجل- بالعبادة، فالإله هو المعبود، وهو سبحانه لا معبود بحق سواه، وعلى ذلك فالذبح عبادة من العبادات التي يجب توحيد الله بها، فلا يذكر على الذبيحة أي اسم، ولا تذبح إلا له وتقربًا إليه وابتغاء لمرضاته، وإلا فهو الشرك الذي لا يغفره الله ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 48].

رزقنا الله وإياكم التوحيد الخالص، ونجانا من الشرك قليله وكثيره، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فإن الذبح تقربًا إلى الله -عز وجل- عبادة يحبها الله –تعالى- في كل وقت على وجه العموم، ولكنها تتأكد في أزمان أو مواضع معينة على وجه الخصوص، منها ما يذبحه الحجيج في حجهم؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "أفضل الحج العج والثج"، والعج هو رفع الصوت بالتلبية، والثج سيلان دماء الذبائح، ومنها الأضاحي التي يضحي بها غير الحجيج في يوم العيد وأيام التشريق الثلاثة بعده تقربًا إلى الله -عز وجل-، وتكون من الإبل أو البقر أو الغنم.

وهي سنة مؤكدة، وأوجبها بعض العلماء على من وجد سعة وفضلاً، ويستحب لمن أراد أن يضحي أن لا يأخذ شيئًا من أظفاره وشعره من حين رؤية هلال ذي الحجة إلى حين ذبح الأضحية؛ لما رواه مسلم عن أم سلمة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضحي، فليمسك عن شعره وأظفاره".

ويشترط في الأضحية أن لا تذبح إلا بعد صلاة العيد، وهذا على خلاف ما اعتاده كثير من المقلدين ومتبعي الهوى من الذبح يوم عرفة أو ليلة العيد، وهم في ذلك يشرعون لأنفسهم بأهوائهم إذا زعموا أن هذه أضحية؛ لأن ما ذبح قبل صلاة العيد فليس بأضحية؛ قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا -أي يوم العيد- أن نصلي ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبلُ فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء"، أي لا يقع له ثواب الأضحية، بل يعد كمن لم يضحِّ، وقال -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر: "من صلى صلاتنا، ووجه قبلتنا، ونسك نسكنا، فلا يذبح حتى يصلي".

ويمتد وقت الأضحية إلى رابع يوم، أي إلى آخر أيام التشريق، فكلها أيام أكل وشرب وذكر لله -عز وجل- كما في الحديث.

ويجزئ في الأضحية من الضأن أي الخراف والنعاج ما له نصف سنة، ومن المعز ما له سنة، ومن البقر ما له سنتان، ومن الإبل ما له خمس سنوات، يستوي في ذلك الذكر والأنثى، غير أن الأضحية من الإبل والبقر تكفي عن سبعة يشتركون فيها، وإذا ضحى الإنسان أجزأت الأضحية عنه وعن أهل بيته، فقد كان الرجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يضحي بالشاة عن نفسه وعن أهل بيته.

ويشترط في الأضحية السلامة من العيوب، كما بين ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلا تجزئ المريضة البيِّن مرضها، ولا العوراء البين عورها، ولا العرجاء البين عرجها، ولا الهزيلة التي ذهب مخُّها من شدة الهزال، ولا التي ذهب أكثر أذنها أو قرنيها.

ويسن للمضحي أن يأكل من الأضحية ويهدي للأقارب وغيرهم، ويتصدق منها على الفقراء، ولا يجوز أن يعطي الجزار أجرته من لحمها، لكن إن شاء تصدق عليه أو أهدى إليها منها.

ويسن لمن يحسن الذبح أن يذبح أضحيته بنفسه، كما فعل المصطفى -صلى الله عليه وسلم-. ويستحب في يوم العيد وأيام التشريق الإكثار من ذكر الله -عز وجل- والتكبير دون الاقتصار على ذلك في أدبار الصلوات، كما يتأكد الإكثار من العمل الصالح في عشر ذي الحجة، وأبرز هذه الأعمال الصالحة الصوم، خاصة صوم يوم عرفة، لما رواه مسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "صوم يوم عرفة كفارة سنتين ماضية ومستقبلة".

وبعد -أيها المسلمون- فهل تعلمون أي جزء من الأضحية يصل إلى الله -عز وجل-؟! أهو اللحم دون الجلد؟! أم هو اللحم والجلد دون الدم؟! أم ماذا؟! تجدون إجابة ذلك في كتاب الله -عز وجل- في سورة الحج إذ يقول -عز من قائل-: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾ [الحج: 37].

إن المسألة ليست مسألة لحوم ودماء، وإنما هو توجه القلوب إلى الله -عز وجل- وابتغاء رضاه، وإخلاص العمل له، فالحذر الحذر -أيها المضحون- من إفساد ثواب العمل في الرياء، فالذبح ليس للمفاخرة أو لإظهار الفضل، وإنما هو التقرب إلى الله -عز وجل- وافتداء النفس من النار، وذلك هو ما يصل إلى الله -عز وجل-، الإخلاص والتقوى، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا، وابتُغي به وجهه"، وفي الحديث القدسي: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه".

وفي حديث أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله -تبارك وتعالى- إذا كان يوم القيامة نزل إلى العباد ليقضي بينهم، وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قُتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟! قال: بلى يا رب. قال: فماذا عملت فيما علمت؟! قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار. فيقول الله له: كذبت. وتقول له الملائكة: كذبت. ويقول الله له: بل أردت أن يقال: فلان قارئ، فقد قيل ذلك. ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟! فيقول: بلى يا رب. قال: فما عملت فيما آتيتك؟! قال: كنت أصل الرحم وأتصدق. فيقول الله له: كذبت. وتقول له الملائكة: كذبت. ويقول الله له: بل أردت أن يقال: فلان جواد، فقد قيل ذلك. ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله، فيقول الله له: فبماذا قتلت؟! فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت. فيقول الله له: كذبت. وتقول الملائكة: كذبت. ويقول الله له: بل أردت أن يقال: فلان جريء، فقد قيل ذلك"، ثم ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ركبة أبي هريرة فقال: "يا أبا هريرة، أولئك الثلاثة، أول خلق الله تُسَعَّر بهم النار يوم القيامة"، فلما سمع معاوية ذلك قال: وقد فعل بهؤلاء هذا؟! فكيف بما بقي من الناس؟! ثم بكى بكاء شديدًا حتى ظن أصحابه أنه قد هلك، ثم أفاق ومسح عن وجهه، فقال: صدق الله ورسوله: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(16)﴾ [هود:15، 16].

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.