الطلاق رحمة (1)

عناصر الخطبة

  1. الأرواح جنود مجندة
  2. إذا تنافرت الأرواح تعذّر التأليف بينها
  3. تشريع الطلاق رحمة وحكمة
  4. هل الطلاق شرٌّ محض؟
  5. نظرات جاهلية للطلاق
  6. وجوب تصحيح المفاهيم المغلوطة
  7. الطلاق بين نظرتين خاطئتين
  8. خطورة تفشي ظاهرة الطلاق في المجتمع
  9. ضوابط إيقاع الطلاق والفرق بين الطلاق السني والطلاق المحرم
اقتباس

الطلاق ليست كلمةً نابيةً فتكونَ مذمومةً بإطلاق، ولا رحمةً يُتقرب بها إلى الله في كل حال. إنه دواء يستطب به كما يستطب بكل دواء، وهو الدواء حين لا تجدي الأدوية، وهو رحمة وسعةٌ حين يقع موقعه، إنه آخر الدواء، فلا يصح أن يبدأ به أولاً، إنه كَيٌّ، وآخر العلاج الكي. من طبيعةِ الدواء أنه مرّ المذاق حتى ولو صح الاستشفاءُ به؛ ولكن لعاقبته حلاوة، وكذلك الطلاق حين يقع موقعَه الصحيح ..

أيها المسلمون: جاء من مشكاة النبوة وحكمها: أن "الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تنافر منها اختلف"، أخرجه البخاري وغيره.

ومن ذلك أخذ الشاعر قوله:

إن القلوب إذا تنافر ودُّها *** مثلُ الزجاجةِ كسرُها لا يُشعبُ

والحياة كلها محكومة بهذا الناموس العجيب، حتى الحياة الزوجية، فما كل زيجة يتحقق فيها المودةُ والرحمة، ولا السكنُ والاستقرار، وإذا تنافرت الأرواحُ تعذّر التأليفُ بينها، واستعصت على كل محاولة إصلاح، وتعيَّن لها طريقٌ واحدٌ للخلاص، وهو الفراقُ إلى غير رجعة.

وحينما يتعذر الوفاق، يصبح الحل في الطلاق، ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 130]. ومن هنا جاء تشريع الطلاق رحمةً من الرحمن الرحيم، وحكمةً من الحكيم الخبير، ألا يعلم من خلقَ وهو اللطيف الخبير.

الطلاق ليست كلمةً نابيةً فتكونَ مذمومةً بإطلاق، ولا رحمةً يُتقرب بها إلى الله في كل حال. إنه دواء يستطب به كما يستطب بكل دواء، وهو الدواء حين لا تجدي الأدوية، وهو رحمة وسعةٌ حين يقع موقعه، إنه آخر الدواء، فلا يصح أن يبدأ به أولاً، إنه كَيٌّ، وآخر العلاج الكي. من طبيعةِ الدواء أنه مرّ المذاق حتى ولو صح الاستشفاءُ به؛ ولكن لعاقبته حلاوة، وكذلك الطلاق حين يقع موقعَه الصحيح.

على أنه ينبغي ألا يفهم من هذا أنه محاولةٌ لتطبيع الطلاق في المجتمع ولو كان فيه متفشيًا، فما يقع ليس كله مما يرضاه الشرع ويقره، بل أكثره يقع لغياب الحكمة وقلة الصبر وغلبةِ النظرة المادية للحياة.

ومع ذلك كله يجب أن يقال القولُ الذي يوافق نظر الشرع للطلاق: إن النظر إلى الطلاق على أنه شرٌّ محض، أو جرمٌ يدان به مُوقِعُه على كل حال هو بلا شك اتهامٌ للشرع في تشريعه، وجهلٌ بالواقع، ونظرٌ محكومٌ بعاطفة مجردة.

لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الطلاق هو أبغضُ الحلال إلى الله، وما ورد في ذلك فحديثٌ ضعيف لا يصح نسبته له صلى الله عليه وسلم، كما أن في معناه نظرًا، فما يبغضه الله لا يمكن أن يكون حلالاً، إنما هو دائرٌ بين المكروه والمحرم.

ثم كيف يصح هذا والطلاق في بعض حالاته يكون واجبًا كأن يذر الرجل زوجته كالمعلقة، لنفوره منها ورغبتِه عنها، ولا شك أن هذا الاستبقاء حبس وظلم وحرمان من الحياة الكريمة، وأظلمُ منه من يضارُّ زوجته من أجل أن تفتدي نفسها منه بالخلع وترد له المهرَ، فطلاق في مثل هذه الحالات رحمةٌ تستنقذ بها الزوجة ما بقي من شبابها، وتحرر بها ما بقي من كرامتها وإرادتها.

ومن مجافاة الحكمة أن تُرغمَ المرأة على زوجها والبقاءِ في عصمته حتى مع تعذر سبلِ الإصلاح، ولو كانت الحياةُ معه لا تطاق، لكنّ أهلَها بجهلهم يطيقون ذلك، ولا يطيقون أن يقال عن فتاتهم إنها (مطلقة)، يراعون الناس أكثر مما يراعون ابنتهم المقهورة.

وبعض الآباء يقول لابنته مهددًا محذرًا: ليس لك إلا بيتُ زوجك أو القبر، وحرامٌ عليك أن تسألي الطلاق وإن تحققت موجِباتُه.

إن هذه النظرة الجائرةَ للطلاق نظرةٌ جاهليةٌ تجعلُ الأعرافَ والتقاليدَ أكثرَ سلطةً على المجتمع من سلطةِ الشرع، وهذا نوع من الاستعباد: أن تستعبدَ المرأة وتهان كرامتها بعبودية الأعراف والتقاليد وليس بعبودية الله سبحانه.

كما أن من الظلم للمرأة أن يسألَ أهلُها زوجَها الطلاق لأدنى مشكلة، وهي له محبة، وبعشرته راضية، يريدون أن يستردوا كرامتَهم المهانةَ بزعمهم ولو بإهانة ابنتهم بطلاقها، ولا يرضون حلاً إلا حلَّ الطلاق، ثم إذا استعصى عليهم زوجُها ولم يرضخ لمطالبهم، سعوا إلى الإفساد بينه وبين زوجته، إرغامًا له ولو بإرغام فتاتهم معه، وهذا بلا شك من الحمق والجهل، وهو داخل في التخبيب بين الزوج وزوجته الذي هو إفسادُ ما بينهما من العلاقة، ولا يردعهم في ذلك ولا يزجرهم قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من خبّب امرأة على زوجها" أخرجه أحمد وأبو داود بسند صحيح.

أيها الأحبة في الله: في مسألة الطلاق نظرٌ صوابٌ حقٌ يجب ألا يضيع بين نظرتين خاطئتين: نظرةٍ تجرِّم الطلاق بإطلاق، فكل مطلِّق فهو في هذه النظرة مجرمٌ قاسي القلب متلاعب بالشرع، ونظرةٍ ترى الطلاق أولَ الحلول لأدنى مشكلةٍ عارضة، تأخذ به لأنه أسرعُ حلٍّ.

وحينئذ لا ينبغي أن نكون أسرى لإحدى هاتين النظرتين، فقد أوجب الله علينا أن نكون منقادين للشرع، ومن ظن أن الطلاق بابٌ مشرعٌ في شريعة الله بلا قيد ولا ضابط، فقد أعظم على الله الفرية، وأساء للشرع إذ اتهمه بما ليس إلا وهمًا من أوهام عقله.

إن الطلاق في نظر الشرع ليس أصلاً أو حقًّا يأخذ به الزوج بالتشهي، ولكنه علاج محض، ينتهي إليه ولا يُبدأ به، ولذا فإن من الغش والخديعة للمرأة في نظر الشرع أن يتزوجها الرجل وهو يستبطن نية الطلاق، كما لا يجوز أن يكاشفها بهذه النية قبل أن يعقد عليها حتى لا يغشها بزعمه، فهذه المكاشفة بالنية هو في حقيقته تواطؤ بين الطرفين على تأقيت الزواج بمدة محددة، وهذا التواطؤ على الطلاق يجعل الزواج في حكم نكاح المتعة المجمعِ على تحريمه.

والمخرج الذي به يتحاشى الرجلُ غشَ المرأة بتبييته نية الطلاق ويتحاشى به مشابهةَ نكاحِ المتعة هو أن يتزوجها بنية الاستدامة، فما شرع النكاح إلا لأجل هذا، وكيف يكون النكاح سكنًا إلا إذا ابتُدئ بينة الاستدامة لا بنية الطلاق.

هذه المسألة تدلك على محل الطلاق من الشرع، وأن الشرع يتشوف إلى استدامة النكاح، لا إلى الطلاق وبتِّ عُقدةِ النكاح.

ومن هنا يقال: إن تفشي ظاهرة الطلاق في المجتمع بنسبة مرتفعة هو بلا شك ظاهرةٌ مخيفة تستدعي سعيًا حثيثًا لدراسة المشكلة وتباحثِ حلولها، فليس هذا التفشي مما يحسب على الشرع في تشريعه للطلاق، ولا يصح أن يقابل هذا التعسف في الحق المشروع بتقييدٍ للطلاق بغير قيود الشرع، فقد خاضت بعض الدول تجربةَ تعليقِ الطلاق بأمر القاضي حتى لا يسرفَ الأزواج في استخدام هذا الحق على غير الوجه المشروع، فكانت المفاجأة أن المرأة صارت تطالب بالطلاق؛ لأن الزوج حين قُيد عليه هذا الحق صار يضارُّها ويضيق عليه من أجل أن ترضى بالطلاق حلاً بينهما.

أيها المسلمون: إن الله شرع الطلاق حلاً أخيرًا بعدما تفشل كل الحلول لحسم النزاع وبقاء بيت الزوجية، فهو كالدواء الذي يستعمل عند الحاجة ووفق طريقة خاصة رسمها الشارع، فإذا استعمل من غير حاجة أو استعمل على غير الطريقة المرسومة فإنه يضر كما يضر الدواء المستعمل على غير أصوله.

أيها الأحبة: كم تعاني المجتمعات التي تمنع الطلاق من الويلات والمفاسد وكثرة حالات الانتحار وفساد الأسر، فالإسلام العظيم أباح الطلاق ووضع له ضوابط تحقق بها المصلحة، وتندفع بها المفسدة، شأنه في كل تشريعاته العظيمة المشتملة على المصالح العاجلة والآجلة، فالحمد لله على فضله وإحسانه.

لقد رسم الله للطلاق خطة حكيمة تقلل من وقوعه، المتمشي على تلك السنة الإلهية لا يتضرر به ولا يندم عليه، ويتجنب الآثار السيئة التي يقع فيها من أخل بها، فجعل للرجل أن يطلق المرأة عند الحاجة طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه ويتركها حتى تنقضي عدتها، ثم إن بدا له في تلك الفترة أن يراجعها فله ذلك، وإن انقضت عدتها قبل أن يراجعها بانت منه، ولم تحل له إلا بعقد جديد، قال الله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: 229]، أي إذا طلقتها واحدة أو اثنتين فأنت مخير فيها ما دامت في عدتها، فلك أن تردها إليك ناويًا الإصلاح والإحسان إليها، ولك أن تتركها حتى تنقضي عدتها، وتطلق سراحها محسنًا إليها.

وقال تعالى: (يأيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) [الطلاق: 1]، يعني طلقوهن وهن طاهرات من الحيض من غير أن يحصل جماع في هذا الطهر. فبين سبحانه في الآية الأولى العدد المشروع في الطلاق وهو طلقة واحدة. وبين في الآية الثانية الوقت الذي يجوز فيه الطلاق، وهو وقت الطهارة من الحيض بشرط أن لا يكون قد جامعها في هذا الطهر.

فتبين بهذا أنه يحرم على الزوج أن يطلق زوجته ثلاثًا، لأن هذا يسد عليه باب الرجعة، وأنه يحرم عليه أن يطلقها وهي حائض؛ لأن هذا يطيل العدة على الزوجة، ويحرم كذلك تطليقها في طهر جامعها فيه، لأنها ربما تكون قد حملت فيشتد ندمه ويكثر الضرر. وبهذا يتبين أن الشارع أباح الطلاق في حال الحاجة إليه ووضع له نظامًا يجعله لا يقع إلا في أضيق الحدود، بحيث لا يحصل منه ضرر على أحد الطرفين.

وبهذا تعلم أن الطلاق الذي يقع على الوجه المشروع الذي شرعه الله ورسوله والذي يسميه العلماء الطلاق السني يكون بأن يطلق طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه، ويتركها حتى تنقضي عدتها.

والطلاق المحرم، يقع فيه كثير من المسلمين بسبب جهلهم بأحكام الطلاق، ويكون بأن يطلقها ثلاثًا بلفظ واحد، أو يطلقها وهي حائض أو نفساء، أو يطلقها في طهر وطئها فيه، ولم يتبين حملها. كل هذا يعد من الطلاق المحرم الذي يأثم فيه صاحبه لو فعله.