من أسباب صلاح القلب: غض البصر

عناصر الخطبة

  1. منع الوسائل المفضية إلى الزنا
  2. الأمر بغض البصر
  3. من فوائد غض البصر وأضرار إطلاقه
  4. الأسباب المعينة على غض البصر
اقتباس

فالبصر منفَذ إلى القلب؛ فما تزال تلك النظرات تلك اللحظات تتتابع حتى تحرِّك شهواتِ القلب، فيقع العبد في المحذور من حيث لا يشعر، ولذا قال الله: ﴿يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ﴾، فإن حفظ الفرج إنما يكون نتيجةً…

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)﴾[الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عباد الله: إنَّ من مقاصد شريعة الإسلام منعَ كلِّ وسيلةٍ تفضي إلى الحرام وتقرّب منه؛ ليكون على بعدٍ من معاصي الله؛ فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.

ولما كانت جريمة الزنا من أعظم الجرائم، ومن كبائر الذنوب، ومن الأمور الشنيعة التي قال الله فيها: (وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً)[الإسراء:32]، منع المسلم من كل وسيلة يمكن أن توقعه في هذه الجريمة؛ فحرَّم عليه أن يخلوَ بامرأة ليست من محارمه: “إياكم والدخول على النساء“، وقال: “لا يخلوَنَّ رجل بامرأة إلاَّ مع ذي محرم“، “ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم“، وحرَّم على المرأة السفرَ بدونَ محرم حمايةً لعرضها وصيانة لكرامتها وخوفًا عليها من الوقوع فيما حرم الله.

ومن ذلكم أنه أمر المسلم بغضّ بصره، ونهاه أن ينظر إلى ما لا يحلّ له النظرُ إليه؛ خوفًا من أن يؤدِّيَ ذلك النظر إلى الوقوع في الحرام، قال تعالى: ﴿قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ﴾[النور:30].

تأمل -أخي المسلم- هذه الآية: ﴿قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ﴾، أمرٌ من الله لنبيِّه أن يخاطب أهل الإيمان المستجيبين لله ورسوله السامعين المطيعين القابلين لأوامر الله المنفذين لها: ﴿قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾، أمرهم بالغض من أبصارهم، لم يقل: غضوها، وإنما قال: غضوا من أبصاركم، أي: غضوا من أبصاركم فلا تنظروا إلى ما حرُم عليكم النظر إليه، واجعلوا النظرَ فيما ينفعكم، لا فيما يضرُّكم، وسخِّروا تلك الجارحةَ فيما ينفعكم، ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾[الإسراء:36].

﴿يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ﴾، فكان غضّ البصر سببًا لحفظ الفرج؛ لأن البصر ينفذ إلى القلب، وما تزال تلك اللحظات والنظرات تَتَتابع؛ حتى توقِع في القلب مرضَ الشهوة، فيتحرَّك القلب لذلك الأمر، والقلب هو الحاكم على الجوارح، إذا صلح صلح الجسد كلُّه، وإذا فسد القلبُ فسد الجسد كلُّه، كما قال: “ألا إن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب“.

كلُّ الحوادثِ مبدأُها من النظر *** ومُعظَمُ النارِ مِنْ مُستَصْغرِ الشَرِرِ

كْم نظرةٍ فعلتْ في قلب صاحبها *** فِعْلَ السهامِ بلا قوسٍ ولا وترِ

والمرءُ ما دامَ ذا عينٍ يُقَلِبُها *** في أَعينِ الغِيرِ موقوفٌ على خَطرِ

يَسرُّ مُقلَتَهُ ما ضرَّ مُهجَتَهُ *** لا مرحباً بسرورِ عادَ بالضررِ

فالبصر منفَذ إلى القلب، فما تزال تلك النظرات تتتابع حتى تحرِّك شهواتِ القلب، فيقع العبد في المحذور من حيث لا يشعر، ولذا قال الله: ﴿يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ﴾، فإن حفظ الفرج إنما يكون نتيجةً لغض البصر والبعد عن كل وسيلة تفضي إليه، ﴿ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ﴾[النور:30]، ذلك أزكى لقلوبهم، أزكى لنفوسهم، أزكى لأخلاقهم، ذلك أزكى لهم من الوقوع في الرذائل، فالأوامر الشرعية هي سببٌ لزكاة القلوب وصلاح القلوب واستقامتها، ﴿إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾[النور:30]، خبير بأعمال العباد، عالمٌ بسرِّهم وعلانيتهم، لا يخفى عليه شيء من أحوالهم، ﴿أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾[الملك:14].

ثم قال: ﴿وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ﴾ أراد -جل وعلا- أن يبيِّن أن الأمر عامّ للجميع، وإن كان يكفي الخطاب الأول، لكن ذكر النساء بعد ذكر الرجال؛ ليكون الأمر عامًا، ولينتبه كلٌّ من الجنسين: ﴿وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾[النور:31].

أيتها المسلمة.. أيها المسلم: كلٌّ منَّا مخاطبٌ بهذا؛ فالمرأة المسلمة مأمورة بغض بصرها وأن لا تتطلع إلى النظر إلى الرجال، وكذلك الرجل مأمور بغضِّ بصره وأن لا يتطلع بالنظر إلى النساء، فغضّ البصر سبب لزكاة القلب واستقامة الأحوال. النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه: “إياكم والجلوسَ في الطرقات“، قالوا: يا رسول الله: مجالسنا ما لنا منها بدّ، قال: “إن كنتم لا بد فاعلين فأعطوا الطريق حقَّه“، قالوا: وما حق الطريق؟! قال: “كف الأذى، وغض البصر، وإفشاء السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر“.

فمن حقّ الطريق ومن الحقّ الواجب على الجالس في الطريق أن يكون غاضًّا لبصره، لا يؤذي المؤمنات بنظره إليهن؛ فإن ذلك من الأذى لا من حقّ الطريق، فحق الطريق أن تغضَّ بصرك عن النظر إلى ما حرّم الله عليك. والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول لعلي –رضي الله عنه-: “لا تُتْبع النظرَةَ النظرة؛ فإن لك الأولى وليست لك الثانية“، قد تكون نظرةَ فجأة لكن النبي قال له: “لا تتبع النظرةَ النظرة؛ فلك الأولى -أي: عفوٌ- وليست لك الثانية“.

وقال جرير بن عبد الله: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن نظرة الفجأة، فقال: “اصرفْ بصرك“، فأمره بصرف بصره، وفي صرف البصر كفّ وتحصين للنفس من الإقدام على الحرام.

أيها المسلم: إن غضّك بصرَك عندما تطَّلع إلى ما لا يحل لك النظر إليه يعقبك خيرًا وفضلاً؛ ففي الحديث: “من نظر إلى محاسن امرأة ثم غضّ بصره أورثه الله إيمانًا في قلبه يجد حلاوة ذلك“.

أيها المسلم: فاتق الله في نفسك، واتق الله في محارم المسلمين، واعلم أن أيّة إساءةٍ منك لعورات المسلمين قد يعود الأمر عليك عكسَ ما تريد، فعُفَّ عن نساء الغير تعفّ نساؤك، وابتعد عن النظر إلى عورات الآخرين لتحمي بذلك عرضَك، وتصون بذلك كرامتك.

أيها المسلم: إن هذا النظر قد يوقعك في المهالك، فتنظر إلى ما لا قدرةَ لك عليه، ولا صبر لك عنه، فيمرض قلبك مرضًا تتمنَّى العافيةَ من بلائه؛ فإن أمراض الشهوات لا تزال بالقلب حتى توقعه في الحرام، ولذا قال الله مؤدبًا لنساء نبيه -صلى الله عليه وسلم-: (فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً)[الأحزاب:32]، فنهاهن عن خضوع القول للرجال؛ لأن إخضاع المرأة قولَها ومحاولة ترقيق كلامها أمامَ رجل أجنبي عنها قد يؤدي إلى حدوث أمور لا تحمد عقباها.

أيها المسلم: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل إطلاق النظر من زنا العينين، يقول: “كتب الله الزنا على ابن آدم، فهو مدرك ذلك لا محالة، فزنا اللسان النطق، وزنا الأذنين الاستماع، وزنا العينين النظر، وزنا اليدين البطش، وزنا الرجلين الخطى، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدِّق ذلك أو يكذِّبه“.

فليتَّق المسلم ربه، وليحافظ على سلامة دينه، وليغضّ بصره عما حرَّم الله عليه، وليكن حريصًا على صيانة عورات المسلمين، بعيدًا عن كل ما يثير الفتنة. وعلى النساء المسلمات تقوى الله في أنفسهن، والبعد عما يثير غرائز الرجال.

إن البعض من المسلمات -هدانا الله وإياهن- كثيرًا منهن حصل عليهن نقص في اللباس، فتخرج المرأة إلى السوق أو إلى أي ملتقى سافرةً وجهَها، متعطرةً، متجمِّلةً، في أعلى زينتها، ذلك من أسباب إثارة غرائز الرجال، وتعلُّق الفسّاق والأراذل بها، فلتتق المرأة ربها، ولتصن عرضَها، ولتبتعد عما يثير الفتنة، ولتكن المرأة المسلمة بعيدة عما عسى أن يكون سببًا للإثارة، فتحفظ دينها، ولا تحمل الرجال على النظر إليها. وعلى الجميع تقوى الله في أحوالهم كلها، ففي الوقوف عند تعاليم الشريعة سببٌ للاستقامة والثبات على الحق.

أسأل الله أن يوفقني وإياكم لما يحبه ويرضاه. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم, أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:

عباد الله: هناك أسباب تعيينك على غض بصرك -بإذن الله-:

أولها: مراقبة الرقيب -سبحانه وتعالى- واستحضار أنه مطلع على كل تصرفات العبد، ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[المجادلة: 7]

وثانيها: التزود من فعل الطاعات؛ فإن ذلك من معينات صلاح القلب واستقامته واستنارة بتلك الصالحات.

ثالثها: لزوم الصلاة والقيام بها كما أمر ربنا سبحانه، ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾[العنكبوت:45].

رابعها: الاكثار من النوافل والمندوبات؛ كما ورد في صحيح الإمام البخاري عن النبي -عليه الصلاة والسلام-: “وما يزالُ عَبْدي يَتَقَرَّبُ إليَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحبَّه، فَإذَا أَحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ بِهِ، وبَصَرَهُ الَّذي يبْصِرُ بِهِ، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بِهَا، ورِجْلَهُ التي يَمْشي بِهَا“. فلا يرى إلا ما أباحه ربه.

خامسها: الصبر على أداء الطاعات والمصابرة على إتقان القربات.

وسادسها: التأمل في عاقبة غض البصر وما أعده الله لأهله في الآخرة ﴿فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ﴾[الرحمن:56].

فعلى المسلم أن يغض بصره عن النظر إلى المحرمات، وأن يتأمل في ملكوت الله وعجائب صنعه -سبحانه وتعالى-.

وصلوا -رحمكم الله- على عبد الله ورسوله محمد امتثالاً لأمر الله -تعالى-؛ حيث يقول: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً)[الأحزاب:56].