عشر ذي الحجة

عناصر الخطبة

  1. فتح الله على عباده أبوابًا الرحمات
  2. الاجتهاد بالطاعات في عشر ذي الحجة
  3. سبب تفضيل هذه الأيام
  4. أعمال فاضلة تستحب في العشر
  5. يوم عرفة من أفضل أيام السنة
اقتباس

وذهب بعض أهل العلم إلى أن سبب تفضيل هذه الأيام على أيام السنة أن أنواع القربات كلها تشرع في هذه الأيام، يقول ابن حجر في فتح الباري: “والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره”. انتهى. لهذا كان سلفنا الصالح يعظمون هذه الأيام ويقدرونها حق قدرها، فيجدّون ويجتهدون في مرضاة الله…

أما بعد: 

أيها المسلمون: لقد كتب الله على نفسه الرحمة، ونشر سبحانه رحمته بين العباد، وجعلها واسعة بفضله حتى وسعت كل شيء، يقول سبحانه: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف:156]، فما على الإنسان إلا أن يتلمس مواقع رحمة الله ومظانها، فيشدّ الرحل إليها ويعرض نفسه لها.

وأبواب الرحمات التي فتحها الرحمن لعباده كثيرة تحيط بالمسلم من كل مكان، يوفّق الله إليها من أخلص وصدق، ويصرف عنها الأشقياء.

فتح سبحانه أبواب الرحمة في ذاته وصفاته، فهو الرحمن الرحيم المنعم على خلقه بأجزل الثواب وأسنى العطايا التي هي خير ما يتحصل عليه العبد، ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس:58]، وفتح سبحانه باب الرحمة من جهة رسوله –صلى الله عليه وسلم-، فهو رحمة الله المهداة ونعمته المسداة، قال عنه مولاه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107].

وفتح سبحانه باب الرحمة والفضل من جِهة الأماكن والبقاع، فجعل بعضها مهبطًا للرحمات وموطنًا للبركات ومكانًا لمضاعفة الحسنات؛ يقول في الحديث الذي أخرجه أحمد وابن ماجه عن جابر: "صلاةٌ في مسجدِي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه"، ويقول –صلى الله عليه وسلم-: "من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإني أشفع لمن يموت بها". أخرجه الترمذي عن ابن عمر.

وفتح سبحانه باب رحمته من جهة الأيام والأزمان، فجعل بعضها موسمًا لمضاعفة الحسنات وفرصة للتعرض للرحمات، قال –صلى الله عليه وسلم-: "إن الله تعالى يمهل، حتى إذا كان ثلث الليل الآخر نزل إلى سماء الدنيا فنادى: هل من مستغفر؟! هل من تائب؟! هل من سائل؟! هل من داعٍ؟! حتى ينفجر الفجر". أخرجه مسلم.

كل هذه وغيرها مواطن لرحمة الله سبحانه، ومصادر لفضله وإحسانه، ونحن سنتعرّض في هذه الخطبة إلى رحمات الله وبركاته ونفحاته من جهة الأيام والأزمان، سنتعرض إلى أيام من أيام الرحمات والحسنات والخير والبركات، هذه الأيام هي عشر ذي الحجة، ويوم عرفة الذي هو يوم من هذه الأيام العشر.

لقد ولجنا منذ يومين إلى ساحة هذه الأيام، ونحن الآن فيها، فنحن مدعوون في هذه الأيام الفاضلات وهذه الساعات المباركات إلى تلمّس رحمة الله والسعي إلى مرضاته وفضله، والشيء الذي يبعث على الأسى -إخوة الإيمان- أننا في كل عام تمرّ علينا مثل هذه الأيام وتسنح لنا مثل هذه الفرص، ولكنها في كل عام تضيع منا ونخرج منها ونحن لا نعقل على أنفسنا أننا قدّمنا فيها من صالح الأعمال شيئًا يستحق الذكر إلا الصلوات الخمس، بل إننا نعمر هذه الأيام في أكثر الأحيان بما يملأ صحيفة أعمالنا بما لا يسرّ من قيل وقال ولغو ولهو وسهر فيما لا يفيد، فلماذا هذا الإصرار على تضييع الفرص العظيمة؟! لماذا هذه الاستهانة بعطايا الله وهداياه التي وراءها العز والرفعة، والتهافت على ما في أيدي المخلوقين الضعفاء مما ليس وراءه إلا الذل والهوان؟! لماذا الزهد في نعيم الآخرة والرغبة في حطام الدنيا؟! فرِّغوا أيديكم عباد الله، واخرجوا من شواغلكم، ونظموا أوقاتكم، وخططوا لاستثمار هذه الأيام، وليضع كل منا أمامه احتمال أن لا يدرك هذه الأيام في العام القادم حتى يحفز نفسه على العمل والعبادة، فالموت في كل عام يختطف منا إخوانًا لنا فلا يدركون الكثير من الفرص والأيام التي ندركها، ثم سيختطفنا أيضًا في يوم من الأيام، فلا نطمع في بلوغ هذه الأيام الفاضلة مرة أخرى.

هذه -إخوة الإيمان- أيام فضلها الله سبحانه وأقسم بها؛ فقال -عز من قائل-: ﴿وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ(5)﴾ [الفجر:1-5]، يقول ابن كثير في تفسيره: "والليالي العشر المراد بها عشر ذي الحجة، وهو قول ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف". انتهى.

ويقول تعالى: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ﴾ [الحج: 28]، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "الأيام المعلومات هي أيام العشر".

وذهب بعض أهل العلم إلى أن سبب تفضيل هذه الأيام على أيام السنة أن أنواع القربات كلها تشرع في هذه الأيام، يقول ابن حجر في فتح الباري: "والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره". انتهى.

لهذا كان سلفنا الصالح يعظمون هذه الأيام ويقدرونها حق قدرها، فيجدّون ويجتهدون في مرضاة الله، قال أبو عثمان النهدي كما في لطائف المعارف: "كانوا -أي: السلف- يعظّمون ثلاثَ عشرات: العشر الأخير من رمضان، والعشر الأول من ذي الحجة، والعشر الأول من المحرم".

هذه أيام وليال قال فيها –صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح الجامع من حديث جابر: "أفضل أيام الدنيا أيام العشر". هكذا بلغةٍ واضحة وبيان فصيح، بل يزيد الأمر وضوحًا وتجلية فيقول –صلى الله عليه وسلم-: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام"، يعني: أيام العشر، قالوا: يا رسول الله: ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بماله ونفسه ثم لم يرجع من ذلك بشيء". أخرجه البخاري عن ابن عباس.

فانظروا إلى هذا الفضل العظيم وإلى هذه المنزلة الرفيعة التي تبوّأتها هذه الأيام المباركة، ولو لم يكن من شرف هذه الأيام إلا أن بها يوم عرفة لكفاها شرفًا وفضلاً، فكيف وهي مفضلة بجملتها، أقسم بها الباري -عز وجل-؟! هذا شرف لا ينبغي أن يمر على المسلم دون أن يقف عنده ويتأمله ويحاول استغلاله قدر استطاعته فيما ينفعه ويؤمنه يوم القيامة.

ولهذه الأيام -عباد الله- آداب وأعمال فاضلة تستحبّ فيها، وقربات يتقرب بها العبد إلى الله سبحانه؛ استفادة من هذه الظروف وهذه الفرص، وتقديرًا لهذا التفضيل الإلهي لهذه الأيام، ولا يفهم من هذا التفضيل أن نعمل في هذه الأيام وننام في سواها، بل إن الأمر يكون بأن نجتهد في هذه الأيام أكثر من غيرها، عن ابن عمر أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر؛ فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد". أخرجه أحمد.

ولنلاحظ قوله –صلى الله عليه وسلم-: "فأكثروا"، فهذا دليل على أن الإنسان مطالب بأن يكون ذاكرًا لله في كل حياته، لكنه في هذه الأيام يضاعف جهده ويكثر من الذكر؛ لأنها أيام تجلٍّ ونفحات ربانية، فهذه إذًا أيام يُفضّل فيها ذكر الله، يفضل فيها على الخصوص التهليل والتكبير والتحميد، والصيغة المفضلة التي تجمع كل هذا أن يقول العبد: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، قال البخاري في صحيحه: "كان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر فيكبران، فيكبر الناس بتكبيرهما".

والأعمال الصالحة في هذه الأيام -يقول العلماء-: غير محصورة ولا مخصوصة بعبادة معينة أو قربة خاصة، فكل القربات التي يُتقرب بها إلى الله تشرع في هذه الأيام، فيستحب فيها الصلاة والصيام والحج والعمرة والذكر وتلاوة القرآن والصدقات، إلى غير ذلك من أعمال صالحة بناءً على قوله –صلى الله عليه وسلم-: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام"، فهذا التعميم والإطلاق في قوله –صلى الله عليه وسلم-: "العمل الصالح"، يعني أن كل الأعمال الصالحة مطلوبة في هذه الأيام، وهذا من سعة رحمة الله وفضله، فلو كانت قربة هذه الأيام مخصوصة بتلاوة القرآن لحُرِم فضلها من لا يتقِن قراءة القرآن، وإذا خصصت بالصيام لحُرِم مَن لا يقدر على الصيام، لكنها صالحة لكل قربة يتقرب بها العبد، ففضل الله واسع، وثوابه مبذول لجميع خلقه، وكل ميسر لما خلق له، فاستبقوا الخيرات -عباد الله-، ولا تكونوا من العاجزين.

ومن آداب هذه الأيام أنه يسن للمسلم الذي يريد أن يضحي أن لا يأخذ في هذه الأيام من شعره أو أظفاره شيئًا حتى تنتهي هذه الأيام ويضحي، عن أم سلمة أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "من كان له ذبح يذبحه فإذا أهلّ هلال ذي الحجة فلا يأخذن من شعره ولا من أظفاره شيئًا حتى يضحي". أخرجه مسلم. قال بعض أهل العلم: "والحكمة في هذا النهي أنَّ المضحي لما شارك الحاج في بعض أعمال النسك وهو التقرب إلى الله تعالى بذبح القربان، شاركه في بعض خصائص الإحرام من الإمساك عن الشعر ونحوه". انتهى.

هذه نبذة وإطلالة على أيام فاضلات نحن في أمس الحاجة إلى تعميرها بطاعة الرحمن، والتخلق فيها بأخلاق الإيمان، والابتعاد فيها عن سبيل الشيطان التي ينصب فيها شبهاته وغوايته لصدنا عن سبيل الله، فأخلصوا النية لله في أيامكم هذه وفي كل أيامكم، واصدقوا العزم على أن تُروا الله من أنفسكم خيرًا؛ عسى الله سبحانه أن يغمرنا بواسع رحمته ومغفرته، وأن يجود علينا بفضله، يقول تعالى: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الحديد:21].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

إخوة الإيمان: ومن رحمة الله سبحانه وسعة فضله أنه بعد أن خصَّ هذه الأيام بهذه المزايا العظيمة وهذه الفضائل الكريمة عاد فخص من ضمن هذه الأيام يومًا عظيمًا، فزاد في مضاعفة الأجر فيه، وزاده شرفًا ومكانة وبركة، هذا اليوم هو يوم عرفة.

هذا يوم من أفضل أيام السنة، من علم حقًّا ما في هذا اليوم من فضل وبركة وخير عميم لم يتركه يمر دون أن يحقق فيه إنابة وتوبة واجتهادًا في طاعة الله سبحانه وعبادته، يقول –صلى الله عليه وسلم-: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا أو أمة من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ماذا أراد هؤلاء!!". أخرجه مسلم عن عائشة.

الرحمن الرحيم -جل في علاه- اختار هذا اليوم ليتجلى فيه لعباده، وليمن عليهم بالعفو والمغفرة، فكما جعل الله سبحانه هذا اليوم أعظم الأيام لماذا لا نجعله نحن أيضًا أعظم الأيام؟! لماذا لا نستقبله استقبال من ينتظره بلهفة ويتشوق إلى لقائه ويتضرع إلى الله أن يبلِّغه إياه؟! عمل صالح يسير، وصبر على شهوات النفس والجسد في هذا اليوم، يفضي بالإنسان إلى مغفرة السنة الماضية والسنة المقبلة، أليس هذا عرضًا مغريًا؟! أليست صفقة رابحة أفضل من الصفقات التي نتسابق عليها في هذه الحياة؟!

أخرج مسلم عن أبي قتادة أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "صيام يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده". فضل عظيم عريض ليتنا نقدره حق قدره، هذا اليوم الذي يقف فيه حجيج الله ووفده على صعيد عرفات الطاهر يرجون رحمة الله، تكرَّم الله تعالى على من لم يبلغ تلك الرحاب الطاهرة وتلك البقاع المقدسة بأن يجتهد في هذا اليوم وأن يصومه بإخلاص وهو في بلده وفي بيته وبين أهله، فينال من الثواب ما لا يعلمه إلا الله سبحانه، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، فتقربوا إلى الله في هذا اليوم، واجتهدوا في الدعاء لأنفسكم ولأهلكم ولإخوانكم ولأمتكم، فإنه يوم تُستجاب فيه الدعوات، وتُسكب فيه العبرات، وتُقال فيه العثرات، ويتفضل فيه رب الأرض والسموات؛ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيّون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير". أخرجه الترمذي.

فاللهم -يا أرحم الراحمين- نسألك أن توفقنا في هذه الأيام إلى أحسن العبادة وأحسن العمل وأحسن الدعاء، اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه…