غزوة بدر والنصر القادم

عناصر الخطبة

  1. غزوة بدر يوم عظيم من أيام الله
  2. سير المعركة
  3. فوائد تربوية من القصة
  4. تحقق النصر للمؤمنين على المشركين
  5. دين الله حق وهو ناصره
  6. الإسلام بُني على تضحيات الصحابة والرعيل الأول
اقتباس

يومُ الجُمعة السابع عشر من شهر رمضان في السنة الثانية من الهِجرة يومٌ عظيمٌ في الإسلام، سمَّاه الله تعالى “يوم الفرقان”، وقال عنه -عليه الصلاة والسلام-: “اللهم إن تهلِك هذه العِصابةُ -أي: الجماعة من أهل الإسلام- لا تُعبَد في الأرض”. رواه مسلم. قال القرطبيُّ -رحمه الله-: “وعلى ذلك اليوم ابتُنِيَ الإسلام”. حضرَه النبي -صلى الله عليه وسلم- بنفسِه، ونزلَ ألفُ ملَكٍ من السماء يقدُمُهم جبريلُ -عليه السلام- من أجلِه، من شهِد ذلك اليوم من المؤمنين فذنبُه مغفورٌ ومُحرَّمٌ عليه النار، وكان في أعالِي الجِنان، ومن حضرَه من الملائِكة فُضِّلَ على غيرِه من أهل السماء.

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فاتقوا الله -عباد الله- حقَّ التقوى؛ فتقوى الله تزيدُ النِّعَم، وتدفعُ النِّقَم.

أيها المسلمون: أصول الدين معرفةُ الله ومعرفةُ دينِه ومعرفةُ نبيِّه -صلى الله عليه وسلم-، وبواسِطة النبي -صلى الله عليه وسلم- يعرفُ العبدُ ربَّه ودينَه، وسعادةُ الدارَين مُعلَّقةٌ باتباع هديِ النبي -صلى الله عليه وسلم-.

قال ابن القيم -رحمه الله-: "يجبُ على كل من نصحَ نفسَه وأحبَّ نجاتها وسعادتَها أن يعرفَ من هديِه وسيرتِه وشأنِه ما يخرُجُ به عن الجاهِلين به، ويدخُلُ به في عِداد أتباعه وشِيعتِه وحِزبِه".

والناسُ في هذا بين مُستقلٍّ ومُستكثِرٍ ومحرومٍ، ويومُ الجُمعة السابع عشر من شهر رمضان في السنة الثانية من الهِجرة يومٌ عظيمٌ في الإسلام، سمَّاه الله تعالى "يوم الفرقان"، وقال عنه -عليه الصلاة والسلام-: "اللهم إن تهلِك هذه العِصابةُ -أي: الجماعة من أهل الإسلام- لا تُعبَد في الأرض". رواه مسلم.

قال القرطبيُّ -رحمه الله-: "وعلى ذلك اليوم ابتُنِيَ الإسلام".

حضرَه النبي -صلى الله عليه وسلم- بنفسِه، ونزلَ ألفُ ملَكٍ من السماء يقدُمُهم جبريلُ -عليه السلام- من أجلِه، من شهِد ذلك اليوم من المؤمنين فذنبُه مغفورٌ ومُحرَّمٌ عليه النار، وكان في أعالِي الجِنان، ومن حضرَه من الملائِكة فُضِّلَ على غيرِه من أهل السماء.

فيه عِبرٌ وآيات، ودروسٌ ومُعجِزات؛ حاربَت قُريشٌ دينَ الله وأخرَجوا نبيَّه -صلى الله عليه وسلم- من مكَّة وآذَوا صحابتَه، فهاجَروا إلى المدينة، ولما بلغَ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أن عِيرًا مُقبِلةً من الشام صُحبةَ أبي سُفيان تحمِلُ أموالاً جزيلةً لقُريش ندبَ أصحابَه للخروج إليها ليتنفَّلُوها، وليعلمَ المُشركون أن المُسلمين ليسُوا في ضعفٍ وهوانٍ.

وخرج معه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، لا يُريدون غزوًا، وإنما العِير، ولما علِم أبو سُفيان بخروجِهم استصرخَ قُريشًا بالنفيرِ إليه، ثم سلكَ طريقَ الساحلِ ونجا، وأخبرَهم بنجاتِه.

ولكن قُريشًا خرجَت بساداتِها ولم يتخلَّف من أشرافِهم أحدٌ سِوى أبي لهبٍ، وحشَدوا مَنْ حولَهم من قبائلِ العربِ لإبادَة المُسلمين، وخرَجوا كما قال -سبحانه-: ﴿بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ﴾ [الأنفال: 47].

وصحابةُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيرُ صحبٍ لخير نبيٍّ، لما علِموا بمقدَم قُريشٍ لقتال النبي -صلى الله عليه وسلم- قام المِقدادُ بن الأسود -رضي الله عنه- وقال: "لا نقولُ كما قال قومُ موسى: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة: 24]، ولكنا نُقاتلُ عن يمينك وعن شمالِك وبين يديك وخلفَك".

قال ابن مسعودٍ -رضي الله عنه-: "فرأيتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أشرقَ وجهه، وسرَّه -يعني: قولَه-". رواه البخاري.

وقالت الأنصار للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو أمرتَنا أن نُخيضَها -أي: الخيل- البحرَ لأخضناها، ولو أمرتَنا أن نضرِبَ أكبادَها -أي: نركُضَ بها- إلى بركِ الغِماد -أي: مدينة الحبشة- لفعَلنا".

ولما دنَت قُريشٌ وعددُهم بقدر المُسلمين ثلاث مرات، باتَ النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعُو ربَّه ويسألُه النصر، وابتهلَ ابتِهالاً شديدًا. وكان رِداؤُه يسقُطُ عن منكِبَيْه، وأبو بكرٍ -رضي الله عنه- يُصلِحُه ويقول: يا رسولَ الله: بعضَ مُناشَدتِك ربَّك؛ فإنه سيُنجِزُ لك ما وعدَك.

ولم يبِتِ النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلتَئذٍ؛ بل كان يجأرُ إلى الله. قال عليٌّ -رضي الله عنه-: "ولقد رأيتُنا وما فِينا إلا نائِم، إلا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- تحت الشجرة يُصلِّي ويبكِي حتى أصبَح".

فاستجابَ الله دعاءَ نبيِّه -صلى الله عليه وسلم-، وبشَّر صحابتَه بالنصر، وأخبرَهم بمواضِع مصارِع رُؤوس المُشركين.

وأقبلَت قُريشٌ بكتائِبِها إلى بدرٍ، واجتمع الجيشان على غير مِيعادٍ لحكمةٍ يُريدُها الله، كما قال -سبحانه-: ﴿وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾ [الأنفال: 42].

وألقَى الله على المُؤمنين النُّعاسَ أمانًا وطُمأنينةً لهم: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ﴾ [الأنفال: 11].

وقلَّل الله أعداد المُسلمين في أعيُن المُشرِكين لئلا يفِرُّوا، وقلَّل أعدادَ المُشرِكين في أعيُن المُسلمين ليُقدِموا: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾ [الأنفال: 44].

قال ابن مسعودٍ -رضي الله عنه-: "حتى إني لأقولُ لرجُلٍ إلى جنبي: أتراهُم سبعين؟! قال: أراهم مائة"، وهم قُرابة الألف.

وألقَى الله الرُّعبَ والخوفَ في قلوب المُشركين: ﴿سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ [الأنفال: 12].

وثبَّت المُؤمنين بملائكةٍ، كما قال -سبحانه-: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الأنفال: 12].

وحرَّضَ النبي -صلى الله عليه وسلم- المؤمنين على القتال، والتقَى الجمعان وحمِيَ الوَطيسُ، وبدأَ النصرُ بماءٍ طهَّر المُسلمين ظاهرًا وباطنًا، وثبَّت أقدامَه، وربطَ على قلوبِهم، وأذهبَ عنهم تخذيلَ الشيطان، قال -سبحانه-: ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ﴾ [الأنفال: 11].

وحضرَ الشيطانُ وقال للمُشركين: ﴿لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ﴾ [الأنفال: 48].

ولما رأى الملائكةَ فرَّ وخذلَ المُشرِكين وقال لهم: ﴿إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ﴾ [الأنفال: 48].

وقاتلَ النبي -صلى الله عليه وسلم- بنفسِه قتالاً شديدًا، قال عليٌّ -رضي الله عنه-: "لقد رأيتُنا يوم بدرٍ ونحن نلوذُ برسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- وهو أقربُنا إلى العدُوِّ، وكان من أشدِّ الناس يومئذٍ بأسًا".

ونزلَ جبريلُ -عليه السلام- يُقاتِلُ في المعركة، وأخبرَ النبي -صلى الله عليه وسلم- صحابتَه بذلك، وقال لهم: "هذا جبريلُ آخِذٌ برأسِ فرسِه عليه أداةُ الحرب". رواه البخاري.

وقاتلَ معه ألفٌ من الملائكة، وأخبرَ الله المُؤمنين بقِتال الملائِكة معهم بشارةً لهم وتطمينًا لقلوبهم، قال -سبحانه-: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ﴾ [آل عمران: 126].

قال ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-: "بينما رجلٌ من المسلمين يومئذٍ يشتدُّ في أثرِ رجلٍ من المُشركين أمامَه إذ سمِعَ ضربةً بالسَّوطِ فوقَه وصوتُ الفارِس يقول: أقدِم حيزُوم، وهو اسمُ فرس الملَك، فنظرَ إلى المُشرِك أمامَه فخرَّ مُستلقِيًا، فنظرَ إليه فإذا هو قد خُطِم أنفُه وشُقَّ وجهُه كضربة السَّوط، فاخضرَّ ذلك أجمع".

"فجاء الأنصاريُّ فحدَّث بذلك رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له: "صدقتَ، ذلك من مدَد السماء الثالثة"، فقتلوا يومئذٍ سبعين وأسَرُوا سبعين". رواه مسلم.

قال سهلٌ -رضي الله عنه-: "لقد رأيتُنا يوم بدرٍ وإن أحدَنا ليُشيرُ بسيفِه إلى رأسِ المُشرِك فيقطعُ رأسَه عن جسَده قبل أن يصِلَ إليه السيف"، قال -سبحانه-: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ﴾ [الأنفال: 17].

وقُتل في هذه الغزوة سبعون مُشرِكًا، منهم ساداتُ قُريشٍ الذين صدُّوا عن دين الله، وقُتِل غيرُهم ممن لا خيرَ فيه بالكلية، وبعد مقتَل ساداتهم لم يبقَ منهم إلا الضِّعافُ، فانتشَرَ الإسلامُ في الآفاقِ بفضل الله.

وقَدَرُ الله سابِقٌ فيمن بقِيَ من المُشركِين في بدرٍ، فقد أسلمَ منهم بشرٌ كثيرٌ، وفي مُقدَّمهم: أبو سُفيان وعمرُو بن العاصِ -رضي الله عنهما-.

واستشهد أربعة عشر صحابيًّا أصابُوا أعلى الجِنان.

جاءَت أمُّ حارِثة بن سُراقة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقالت: يا نبيَّ الله: ألا تُحدِّثُني عن حارِثة؟! قال: "يا أمَّ حارِثة: إنها جِنانٌ في الجنة، وإن ابنَكِ أصابَ الفِردوس الأعلى". رواه البخاري.

قال ابن كثيرٍ -رحمه الله-: "وفي هذا تنبيهٌ عظيمٌ على فضلِ أهلِ بدرٍ؛ فإن حارِثةَ لم يكُن في بحبحَة القِتال ولا في حومَة الوغَى؛ بل كان من النَّظَارة من بعيد، وإنما أصابَه سهمٌ غربٌ وهو يشربُ من الحوضِ، ومع هذا أصابَ بهذا الموقِف الفِردوس. فما ظنُّك بمن كان واقِفًا في نحر العدو؟!".

وبعد:

أيها المسلمون: فدينُ الله حقٌّ وهو ناصِرُه، والباطلُ -وإن تزخرفَ- فالحقُّ يدمغُه، والنصرُ من عند الله وإن تخلَّفَت أسبابُه. فعلى العبد أن يتمسَّك بهذا الدين، وأن ينصُرَ ربَّه لينصُرَه.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [آل عمران: 123].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقول ما تسمَعون، وأستغفرُ الله لي ولكم ولجميع المُسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنِه، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه، وسلَّم تسليمًا مزيدًا.

أيها المسلمون: الإسلامُ وصلَ إلينا بتضحِياتٍ فاضَت لأجلِه أرواح، وأُصيبَت أجساد، وقاتلَ لإعلائِه وبقائِه ووصولِه إلينا رسلٌ وصِدِّيقون وشُهداءُ وملائِكة، وعلى مرِّ العصور بقِيَ محفوظًا كاملاً في أحكامِه وتشريعاتِه، صالحًا لكل زمانٍ ومكانٍ.

فواجبٌ على كل عبدٍ أن يتَّبِعَه وأن يفرَح به، وأن ينشُره وينصُره.

ثم اعلموا أن الله أمرَكم بالصلاةِ والسلامِ على نبيِّه، فقال في مُحكَم التنزيل: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا﴾ [الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبيِّنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضَوا بالحقِّ وبه كانوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابةِ أجمعين، وعنَّا معهم بجُودِك وكرمِك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمِنًا مُطمئنًّا رخاءً وسائر بلاد المسلمين.

﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [البقرة: 201].

اللهم إنا نسألُك الهُدى والتُّقَى والعفافَ والغِنى يا ذا الجلال والإكرام.