مشكلاتنا الاجتماعية

عناصر الخطبة

  1. سلوكيات جديدة في المجتمعات الإسلامية
  2. كثرة المشكلات الاجتماعية
  3. صور من المشكلات الاجتماعية
  4. ضرورة الحديث عن هذا الموضوع
  5. أسباب هذه المشكلات
اقتباس

إن المستقرئ للأوضاع الاجتماعية في كثير من المجتمعات الإسلامية ليدرك أنه في خضم المتغيرات الاجتماعية، وفي ظل تداعيات النقلة الحضارية، وفي دوامة الحياة المادية ومعترك المشاغل الدنيوية، حدثت أنواعٌ من السلوكيات والأنماط الخطيرة التي يُخشى أن تؤثر في اختلال نظام الأمة الاجتماعي، ويأتي الانفتاح العالمي والأخطبوط العولمي ليذكي أوار هذه السلوكيات ويشعل هذه السلبيات ..

أما بعد: فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله الملك العلام؛ فإن تقواه سبحانه عروة ليس لها انفصام، وجذوة تنير القلوب والأفهام، ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ﴾ [النساء:1].

معاشر المسلمين: إن المستقرئ للأوضاع الاجتماعية في كثير من المجتمعات الإسلامية ليدرك أنه في خضم المتغيرات الاجتماعية، وفي ظل تداعيات النقلة الحضارية، وفي دوامة الحياة المادية ومعترك المشاغل الدنيوية، حدثت أنواعٌ من السلوكيات والأنماط الخطيرة التي يُخشى أن تؤثر في اختلال نظام الأمة الاجتماعي، ويأتي الانفتاح العالمي والأخطبوط العولمي ليذكي أوار هذه السلوكيات ويشعل هذه السلبيات؛ ما يؤكد أهمية تمسك الأمة بعقيدتها وقيمها الحضارية وأخلاقها الاجتماعية الأصيلة.

فلقد كثرت مشكلاتنا الاجتماعية في حياتنا وبلادنا الإسلامية، وجدّت، وقويت، وتعاظمت في كثيرٍ من مجتمعات المسلمين صورٌ وأنماطٌ وأخلاقٌ، ليست من الإسلام في شيء، وأصبحت تلقي بظلالها على تلك المجتمعات، وتفرض قيمها فيها، وتحكم أوضاعها، وتقوم مسيرتها في كثيرٍ من أحوالها، ولم يكن لكثيرٍ من هذه المجتمعات عهدٌ بمثل هذه المخالفات، ولم يكن لها قبولٌ بينها، بل كانت تعافها القلوب، وتشمئز منها النفوس، وترفضها العقول، وينكرها الصالحون والمصلحون، ولكنها تسللت شيئًا فشيئًا، وبدأت قليلاً ثم صارت كثيرًا، وأول الغيث قطرةٌ ثم ينهمر، ومعظم النار من مستصغر الشرر، ولعلنا اليوم لا نحتاج إلى كثير جهدٍ ولا إلى عميق تفكيرٍ لنعدد مثل هذه المشكلات، أو لنضرب الأمثلة عليها، أو لنرى آثارها الوخيمة وأضرارها العظيمة التي تفجرت في مجتمعاتٍ إسلاميةٍ كثيرة.

إهمال الآباء وغياب الأمهات شكوى ظاهرة وصورةٌ واضحة، كم من الأبناء تاه، وكم من الفتيات ضِعن لعدم وجود أبٍ مربٍّ، أو أمٍّ راعية. تفلّتت الأسرة عندما غاب عنها قائدها وربانها، فهو المسؤول، وهو القائد، وكم رأينا أيضًا من صورٍ أخرى مقابلة؛ عقوق الأبناء وضياع البنات ناتجٌ من أثر ذلك، وكم رأينا صورًا كثيرةً في خارج دائرة الأسرة، إلى دائرة المجتمع، إلى صورٍ كثيرة، ظلم الرجل، وقهر المرأة، تسلّط المرأة، وغياب الرجولة، غيرةٌ جائرة، أو دياثةٌ فاجِرة، طلاقٌ سريع، أو تصدعٌ مريع، أسرٌ مفكّكة، وأجيالٌ مضيّعة، فراقٌ قاتل، وبطالةٌ آثمة، شهواتٌ ثائرة، وفواحش ظاهرة، أمانةٌ زائلة، وأخلاقٌ زائفة، صورٌ كثيرةٌ مريرةٌ دامية، نراها في واقع كثيرٍ من مجتمعاتنا، لم تعد تلك المجتمعات التي تنعم بالصفاء والسلام، لم تعد تلك الأسر التي تظلّلها المحبة والوئام، لم تعد تلك العلاقة التي تمتد من الأبناء إلى الآباء بالاحترام، ومن الآباء إلى الأبناء بالرعاية والإكرام، لم نعد نرى صور الشباب الذي كان يخوض ميادين العلم ليكون مبرزًا متفوقًا، والذي كان يخوض ميادين الجهاد ليكون فارسًا مؤثرًا، والذي كان يخوض ميادين الحياة الإنسانية ليكون متقدمًا سابقًا، لقد صرنا اليوم نشكو من طفولةٍ ليس لها همٌّ إلا اللهو واللعب، ومن شبابٍ ضائعٍ ليس له هدفٌ ولا غاية، وليس له منهج ولا رسالة، وكل ذلك يتفرّع منه كثيرٌ وكثيرٌ من الصور: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم:41]، سنة الله -عز وجل-: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ [الرعد:11]، ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ [آل عمران:165].

عندما غابت هذه السنن لم نفقهها، ولم نحرص على رعايتها، مضت فينا سنة الله، وجرت علينا أقدار الله، فتغيرت القلوب، وتحولت النفوس، وانحرفت السلوكيات، وتغيرت وتبدلت الأخلاقيات، وصرنا نشكو من صورٍ كثيرةٍ ومن أضرارٍ عظيمة: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى:30]. ولو أن الله -جل وعلا- حاسب أمة الإسلام على كل تفريطٍ منها وتقصير وعلى كل جحودٍ ونكود ما ترك على ظهرها من دابّة، ولكنه -سبحانه وتعالى- يربي الأمة ببعض البلاء، ويربيها بما يقع عليها من أثر مخالفة أمره ومخالفة نهجه -سبحانه وتعالى-.

إنّ المتأمل يجد هذه الصور، وهي تفرز حقائق واضحة، والذي يدعونا أن نتحدث بمثل هذا الحديث، ونخوض في مثل هذا الموضوع زيادة الظاهرة واتساع الخرق على الراقع، حتى قال أحد الأدباء المربين الذين لهم خبرةٌ عظيمةٌ في مجال التربية والتعليم، وفي مجال الأدب والتهذيب، معلنًا عن ضخامة هذا الأثر، وعن عظم اتساع الخرق، وهو يبين أن مثل قوله وحده وأن مثل كتابته أو خطبته وحده مع نفرٍ قليلٍ لا يجدي نفعًا ولا يغير واقعًا، فيقول: "اخطبوا -أيها المدرسون- ما وسعكم الجهد، واهرؤوا من فسح لكم سبيل الهراء، وقولوا للشباب: كن صيّنًا عفيفًا، إنها لن تجدي عليكم خطبكم، ولا يستقر في نفسه هراؤكم، إنه يخرج فيسمع إبليس يخطب خطبةً بلغة الطبيعة الثائرة، في السوق على لسان المرأة المتبرجة، وفي الساحل على لسان الأجساد العارية، وفي السينما على لسان المناظر المتهتكة المثيرة، وفي المكتبة على لسان الجريدة المصورة، والرواية الخليعة الماجنة، وفي المدرسة على لسان أصحابه الفساق المستهترين". ثم يقول مسلّطًا الضوء على حقيقة الواقع في حياة أكثر المجتمعات الإسلامية -إلا ما رحم الله-: "بناء الأخلاق فيها وسوق الزواج يبور، ونسل الأمة ينقطع، والمخازي والرذائل تعم وتنتشر، وليس هذا مبالغة، وليس هذا خيالاً لرجلٍ مريضٍ أو متشائم، وإنما هو رسمٌ لبعض ملامح الواقع الذي تفشّى في مجتمعاتٍ إسلاميةٍ كثيرة".

ولعلنا نذكر أيضًا بعض الحوادث التي دعت إلى مثل هذا الحديث عندما كثر حديث الناس، وكثرت شكواهم، وظهرت بعض الصور التي تهزّنا هزًا، وتدعونا ونحن بحمد الله -عز وجل- في خيرٍ كثير، ونسلم من شرٍ كثير، لكن الفتنة بدأت تطرق أبوابنا، والمشكلات بدأت تطل علينا برؤوسها، ولعلنا إن لم نخش الله -سبحانه وتعالى- ونتخذ من أسباب الحيطة والحذر ومن أسباب الوقاية والعلاج ما يلزم فلعلنا نصيح يومًا ونقول: "أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض"، ولعلنا نعضّ أصابع الندم كما يعضّها غيرنا في بلادٍ إسلاميةٍ وغير إسلامية، عندما انفرط الحبل على غاربة، وعندما ضاعت معالم الأخلاق الفاضلة والمبادئ والقيم السامية، فلننظر إلى بعض الآثار الواضحة التي يعاني منها كثيرٌ من الناس وبدأنا نشعر بآثارها، وبدأ يصلنا لفحها ولهيبها، ألسنا نرى همًّا في القلوب وحيرةً في النفوس انعدمت معها طمأنينة القلوب وسكينة النفوس؟! أليس ذلك مصداقًا لحديث النبي –صلى الله عليه وسلم- الذي روي عن حذيفة مرفوعًا: "تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأيما قلبٍ أُشربها نُكت فيه نكتةٌ سوداء، فإن تاب واستغفر صقل منها، وإلا أصبح قلبه أسود مربادًا، كالكوز مجخيًا، لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، إلا ما أُشرب من هواه"؟! أليس قد أظلمت القلوب واسودت النفوس وتجهمت الوجوه وغاض ماء الحياة فيها؟! ألسنا نرى تلك الفظاظة والغلظة؟! ألسنا نرى ذلك التكدر والتعصب وذلك السوء في الخلق الذي انعكس من أثر ما على القلوب من الهموم وما ران على النفوس من الغموم؟!

إننا نلمح ذلك، ونتلمس أنفسنا، ونحاول أن نقارن بين القمة السامقة التي ينادي بها القرآن الكريم ويدعونا إليها وبين واقع الحال الذي نعيشه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ [الأنفال:29]، أي: يجعل لكم من قلوبكم النقية وفطركم السوية ما تميّزون به بين الحق والباطل، فتنقبض النفوس وتجزع القلوب من أيّ منكرٍ عارضٍ لو لم يقم عندها عليه دليلٌ من الشرع أو معرفةٌ بحكمٍ من آيةٍ أو حديث، فكيف بنا ونحن نعرف الآيات والحديث؟! لكن القلوب لم تعد منكرة، والنفوس لم تعد متغيرة، بل وإن السلوك أصبح يجاري ويوافق إن لم يمارس ويفعل إن لم يدعُ ويجاهد، نسأل الله -عز وجل- السلامة.

ألسنا نرى دوامًا في الاضطراب وتزايدًا في القلق؟! ألسنا نرى حال كثير من الناس اليوم لم يعد فيه استقرار؟! وبالتالي فإن كلمةً واحدة كفيلة بأن تفجّر غضبًا، كأنما هو بركانٌ محبوس. إن في النفوس من العلل والأدواء ومن أثر أمراض الشهوات والخروج عن دين الله -عز وجل- أثرًا عظيمًا أخبرنا الله -عز وجل- به في شطر آية: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه:124].

إننا عندما نتأمل نجد أيضًا فحشًا في الأقوال وعنفًا في الأفعال، ألسنا نرى اليوم رجالاً يضربون نساءهم كما يضرب الرجل دابته وبهيمته؟! ألسنا نرى آباءً يريدون أن ينهجوا نهجًا من التربية يظنونه قويمًا لكنهم قد اختلطت عليهم الأمور والتوت عليهم المسالك، فإذا بهم يجلدون أبناءهم كأنما هم يريدون قتلهم؟! ألسنا نرى تلك الكلمات من قاموس الفحش والسب واللعن والغمز واللمز والغيبة والنميمة حتى صارت هي الشائعة، فلا تكاد الأذن تسمع غيرها، ولا يكاد القلب يتلقى سواها، حتى أصبحت كما قال عروة بن الزبير -رحمه الله-: "رأيت ألسنتهم لاغية، وآذانهم صاغية، وقلوبهم لاهية، وأديانهم واهية، فخشيت أن تلحقني منهم داهية". وحسبكم داهيةً بمثل هذه الدواهي؟! ألسنا نرى أيضًا انحلالاً في الخلق واختلالاً في الأمن بدأ يسري إلى مجتمعات المسلمين ويستحكم فيها، فلم تعد ثمة فضيلةٍ يُحرص عليها، ولا أمنٌ يستتب ويشيع، فإذا نحن نرى للفواحش ظهورًا، بل لها في بعض بلاد المسلمين وللأسف قوانين تحميها ودساتير تنظمها، زعموا ذلك حضارة أو تقدمًا، أو زعموه حريةً شخصيةً، أو غير ذلك؟! ألسنا نرى جريمةً تعدّت اليوم الفواحش من زنا ولواط إلى شذوذٍ، بل إلى اغتصابٍ، بل إلى قتلٍ وسرقةٍ ونهبٍ؟! ألسنا نرى المخدرات تفتك بشباب الأمة وشاباتها؟! ألسنا نرى ونرى ونرى آثارًا من آثار تلك المشكلات؟! وكذلك غيابٌ في القيم وفسادٌ في الأعراف، ولعلنا لا نريد أن نكثر الشكوى، ولا نريد أن نعدد صور المأساة، ولكننا أيضًا لا نريد أن نكون كالنعامة تدس رأسها في التراب إذا داهمها الخطر، فالخطر يحدق بها وهي لا تراه، وتظن بأنها بذلك تحسن صنعًا.

إنه ليس لنا -بحالٍ من الأحوال- إلا أن نصارح أنفسنا بما جدّ في واقعنا، وبما ظهر من انحرافٍ في بيئتنا، وأن نتكاتف ونتعاون جميعًا؛ لأنه كما قال ذلك القائل: "فليخطب الخطباء"؛ فإن خطبهم وحدها لا تكفي، لكنها جزءٌ من تربية الآباء مع رعاية الأمهات، ومع دور المدرسين والمدرسات، ومع تكاتف جهود الصحف والجرائد والمجلات، إلى غير ذلك من تكاملٍ، ما لم نأخذ بأسبابه فإننا نخشى أن تصيبنا تلك الداهية، وأن تعمنا تلك البلايا والرزايا التي عمّت كثيرًا من المجتمعات، وبدأت تشكو منها.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، أحمده على إحسانه، وأشكره على جزيل توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا وحده لا شريك تعظيمًا لشأنه، واحد في أسمائه وصفاته، واحد في وحدانيته وربوبيته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صلّ عليه وعلى آله وأصحابه والأنبياء إخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم يلقونه.

أما بعد:

فاتقوا الله -يا عباد الله-.

ثم اعلموا أنني -أيها الإخوة الكرام الأحبة- وأنا أطرح مثل هذا الموضوع على أسماعكم لا أريد أن نتّجه به اتجاه الصراخ والدعاء بالويل والثبور وعظائم الأمور ورفع الصوت عما جرى من تهتكٍ في الأخلاق أو تسيبٍ في المعاملات أو غير ذلك؛ فإن ذلك لا يجدي نفعًا، ولكننا نريد أن نناقش مثل هذه الموضوعات بموضوعيةٍ، نبحث فيها عن الأسباب، ونتلمس فيها العلاج، ونلقي بالمسؤولية على الجميع، كلٌ بحسبه، وندعو أنفسنا جميعًا إلى التعاون والتكاتف وتبادل الآراء والأخذ بالأسباب العملية؛ فإن الأمر يهمنا جميعًا، وإن خيره يغمرنا بإذن الله -عز وجل- جميعًا، وإن ضرره لا يسلم منه أحدٌ منا وإن لم يقم به ولم يقترفه، فإن الشر يعمّ أثره ويعمّ ضرره وإن كان الإنسان يتوقى منه؛ ولذلك ليس حديثنا هو إشارةٌ للموضوع، وإنما هو بدءٌ بذكر بعض الصور وذكر بعض الآثار والتعريج على بعض الأسباب، حتى نخلص بعد ذلك إلى كل مشكلةٍ على حدة، ونتعاون جميعًا فيما يتعلّق بعرضها ومعرفة أسبابها وعلاجها، ولا يتم ذلك إلا بمثل هذا التعاون والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، وذلك هو سمة الأمة الإسلامية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون على البر والتقوى الذي دعانا الله -عز وجل- إليه، ولست في مقام الإفاضة في الأسباب، ولكنني أذكر أهم الأسباب التي ترجع إليها أكثر المشكلات، وسنعود عند كل مشكلةٍ إلى ذكر أسبابها، وأعظم الأسباب وأهمها:

أولاً: ضعف التدين، وهو بداية كل مشكلة وأساس كل انحراف، وذلك يظهر في صورٍ كثيرة، منها: الجهل بالدين، فكثيرٌ لا يعرفون حلالاً وحراما، ولا يعرفون مسؤوليةً وواجبًا، وكثيرٌ يجهلون بعض الأحكام والآداب والتوجيهات التي دُعُوا إليها، حتى من كان على مستوى عالٍ من الشهادات العلمية التخصصية؛ فإنه وللأسف تجد كثيرًا منهم لا يعرفون أبسط الأمور من التوجيهات والآداب والسنن النبوية التي رسمها النبي –صلى الله عليه وسلم- في بناء الأسر وفي تربية الأبناء وفي العلاقات مع المجتمع، حتى إن طبيبًا متخصصًا تدرس ابنته في إحدى المدارس فيعلمونها الأذكار والأدعية الواردة عن خير الخلق -عليه الصلاة والسلام- عند النوم وعند الاستيقاظ وعند دخول الخلاء وعند الخروج منه وعند ركوب السيارة وعند النزول منها إلى غير ذلك مما ورد عنه -عليه الصلاة والسلام-، وكانت ابنته الصغيرة تريد أن تدخل إلى بيت الخلاء مرةً ثم خرجت مسرعةً، فارتاب من شأنها فسألها، فقالت له: إني نسيت هذا الدعاء قبل أن أدخل إلى بيت الخلاء، وهو يحكي هذا لزميلٍ له طبيب ويقول له: إنهم يحفّظونهم في المدرسة أذكارًا وأدعية كثيرة، هل هذه كلها قد قالها رسول الله -عليه الصلاة والسلام-؟! لم يسمع بها من قبل، ولم يتصوّر أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قد ذكر لنا في كل حالٍ ووضعٍ ذكرًا نتّصل فيه بالله، ونذكر الله -سبحانه وتعالى- فيه. وليس هذا فقط من ضعف التدين والجهل بالدين، وإنما أيضًا العمل والالتزام، فكم هي الأمور التي نعلمها ويعلمها كثيرٌ من الناس ثم يخالفونها بأفعالهم، ويرتكبون ما يضادّها ويعارضها، وهم يعلمون علم اليقين بحرمتها أو بكراهتها، وليس ذلك فحسب، بل التأثير، فإن بعض الناس قد يعلم وقد يعمل، ولكن يغيب عنه التأثير الإيماني الذي ينبغي أن يكون من أثر العلم والعمل؛ خوف من الله -عز وجل-، تعلّق بالآخرة، إيثار لها، زهد في الدنيا، مراقبة لله -جل وعلا-، عندما لا تترسخ هذه المعاني من أثر العلم والعمل يمكن بعد ذلك أن تنحرف.

ثانيًا: المرجعية الإسلامية، كثيرٌ من الناس يتصرّفون قبل أن يرد على ذهنه أن يسأل: هل هذا التصرف يوافق الإسلام أم لا يوافقه؟! فهو لم يعد يتصور أن هذه الأمور وأن كثيرًا من تصرفات الحياة يحتاج فيها إلى معرفة حكم الإسلام، قد صار الناس منفلتين يعملون ما يشاؤون، لا يشعرون أنهم في حاجةٍ إلى مرجعيةٍ دينية، وبعد ضعف التدين فساد الفطرة الذي ظهر كما قلنا من ظلمة القلب ومن أهواء النفوس، فنحن اليوم في زمنٍ أكثر أحوال الناس فيه أهواء النفوس التي تتحكم والشهوات هي التي تحكم وتفصل، لم يعد ثمة ضابط، لم يعد ثمة عقل كابح، لم يعد ثمة فطرة تأنف وتعاف، حتى قد كان أهل الجاهلية فيهم من أثر الفطرة بعض خيرٍ ربما غاب وفُقد عند بعض المسلمين، فهذه هند بنت عتبة وقد كانت من هي في كفرها، وهي التي سعت وفرحت بقتل حمزة بن عبد المطلب عم النبي -صلى الله عليه وسلم-، عندما جاءت تبايع النبي -صلى الله عليه وسلم- فبايع النساء على أن لا يزنين، فجفَلت هند بنت عتبة وهي بين الجاهلية وانتقالها إلى الإسلام وقالت صارخةً مستنكرة: أوَتزني الحرّة؟! أمرٌ غير مقبولٍ قبل أن يكون بالدين بالفطرة السوية، بالنفس البشرية الإنسانية التي لا تقبل مثل هذا الوحل، ولا مثل تلك القذارة والنجاسة والدناءة بفطرتها وطبيعتها.

ثالثًا: انحلال الخلق، وأعظمه انعدام الحياء، وحسبنا تلك الكلمات الوضيئة العجيبة المعجزة التي قالها الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت"، وكما قال -عليه الصلاة والسلام- في الصحيح: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت"، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "الحياء والإيمان قرناء جميعًا، فإذا نزع أحدهما نزع الآخر"، وخص الحياء بالذكر من بين شعب الإيمان كلها عندما قال: "أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى من الطريق، والحياء شعبة من الإيمان".

ما هي السمة التي تجمع بين الرجل الديّوث والمرأة المتبرجة والابن العاق وغير هؤلاء؟! إنه انعدام الحياء الذي لا يجعل تحفظًا في عورة، ولا توقفًا في كلامٍ فاحش، ولا إحجامًا عن فعلٍ رذيل، إنه الحياء الذي إذا انهار انهارت معه سدودٌ وسدودٌ وسدود، يعمّ بعدها سيل الفساد الكاسح الذي يغير ويدمّر كل شيء إلا ما أذن الله -عز وجل- ببقائه بعصمة إيمان والتزام إسلام وفضيلة خلق.

وأمرٌ ثانٍ في شأن انحلال الخلق هو تغير الموازين، أليس اليوم قد صار العري حضارة وتقدمًا وفنًّا، وصار الكذب شطارةً وفهلوةً وحِذقًا، وصارت الخيانة تدبيرًا وإحكامًا وفنًّا، وصار الصدق غباءً وبلادةً، وصار العفاف جبنًا وخوفًا، إلى غير ذلك مما انقلبت به الأحوال؟! فأدى ذلك إلى أن صاحب الخلق القويم يجد نفسه محاطًا بمثل هذه المسميات ومثل تلك الموازين المنعكسة المنقلبة.

ولعلنا نجد من الأسباب ما هو أكثر من ذلك، ولكن هذه أسسها وأعظمها؛ فإن ضعف التدين وفسدت الفطرة وانحل الخلق فكل ما وراء ذلك يأتي تبعًا له.

فنسأل الله -عز وجل- أن يقوي إيماننا، وأن ينقي فطرنا، وأن يقوي أخلاقنا، ونسأله -سبحانه وتعالى- أن يسلمنا من الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن، ونسأله -عز وجل- أن يحفظ أزواجنا وأبناءنا وبناتنا، وأن يحفظنا بالإسلام قاعدين، وأن يحفظنا بالإسلام في كل أحوالنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

ألا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على النبي المصطفى والرسول المجتبى، كما أمركم بذلك المولى -جل وعلا-، فقال تعالى قولاً كريمًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:56].

اللهم صل وسلم على سيد الأولين والآخرين، وأفضل الأنبياء والمرسلين، نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين…