الحث على التواضع والأمر به

عناصر الخطبة

  1. أهمية التواضع
  2. فضائل التواضع
  3. التواضع صفة الأنبياء والرسل
  4. أمور معينة على التخلق بالتواضع
  5. صور التواضع
  6. التواضع للحق والخالق والخلق
  7. ضرورة الدعوة إلى الله ومن يحاربها فهو في قلبه نفاق
اقتباس

المتواضع يحبه النَّاس، ويألفونه، ويجالسونه، ويصغون إلى قوله، ويطمئنون إليه، والتواضع ضد التعالي، وضد التكبر، فإن المسلم حقاً يتعامل مع النَّاس بالتواضع، مع الأقوياء والضعفاء، ومع الأغنياء والفقراء، ومع ذوي العلم ومن أقل من ذلك، ومع من هو دونه جاها، أو منزلة اجتماعية؛ بل هو خلق له في كل أحواله، ولقد جاء في …

الخطبة الأولى:

إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه، ونستغفرُه، ونتوبُ إليه، ونعوذُ به من شرورِ أنفسِنا؛ ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه صلَّى الله عليه، وعلى آلهِ وصحبِهِ، وسلَّمَ تسليماً كثيراً إلى يومِ الدين.

أمَّا بعد:

فيا أيُّها النَّاسَ: اتَّقوا اللهَ -تعالى- حَقَّ التقوى.

عباد الله: التواضع خلق حميد من الأخلاق الحميدة، والشيم النبيلة؛ يتحلى به المسلم؛ فينال بعد رضا الله عنه رضا النَّاس، ومحبتهم له.

فالمتواضع يحبه النَّاس، ويألفونه، ويجالسونه، ويصغون إلى قوله، ويطمئنون إليه، والتواضع ضد التعالي، وضد التكبر، فإن المسلم حقاً يتعامل مع النَّاس بالتواضع، مع الأقوياء والضعفاء، ومع الأغنياء والفقراء، ومع ذوي العلم ومن أقل من ذلك، ومع من هو دونه جاها، أو منزلة اجتماعية؛ بل هو خلق له في كل أحواله، ولقد جاء في كتاب الله وفي سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- الحث على التواضع والأمر به، قال -تعالى- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء:215]. وقال: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الحجر:88].

ووصف أصحاب نبيه بقوله: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح:29]. وقال -تعالى- في وصف عباد الرحمن: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [الفرقان:72].

ونهى عن التكبر والتعالي، فقال: ﴿وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا(38)﴾ [الإسراء:37-38].

وجاء في السُّنَّة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَىَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلاَ يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ".

إذا فالكبر بغي وعدوان وتعالي، والتواضع سمة كريمة، لين الجانب، وقبول الحق، والتعامل مع الناس بالحسنى.

والتواضع له فضائل كثيرة:

فمن فضائل التواضع: أنَّه صفة يحبها الله، ويحب المتصفين بها، قال الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة:54].

وما مدح الذل إلا في أمرين في ذل المسلم إخوان، وعدم تكبره وتعالي عليهم، وفي تعامله مع الأبوين: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء:24].

ومن فضائل التواضع: أنَّه من أسباب دخول الجنَّة، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّ قسمه".

وقال أيضا -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ بريء مِنْ ثَلاَثٍ: مِنَ الْكِبْرِ وَالدَّيْنِ وَالْغُلُولِ، دَخَلَ الْجَنَّةَ".

ومن فضائله: الرفعة عند الله قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلاَّ رَفَعَهُ".

وجعل الله التواضع من أخلاق أنبياءه وصفوته من خلقه: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا﴾ [الحج:75].

فلما كان الأنبياء والمرسلون قادة الأمم، ومصلح الأمم، ومقدميهم جعل الله التواضع خُلق لهم وسجيةً لهم؛ لأن بتواضعهم يبلغون رسالات الله، وينصحون عباد الله.

وجعل الكبر والتعالي من أخلاق أعدائه وأعداء أوليائه، يقص الله علينا قصص الأنبياء فيذكر عن موسى كليم الرحمن أحد أول العزم من الرسول يقول الله: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ(24)﴾ [القصص:23-24].

وتصف إحدى ابنتاه لأبيهم أمانة ذلك النَّبَيّ الكريم ومروءته وأخلاقه العظيم فيزوج إحدى ابنتيه قائلا: ﴿قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ﴾ [القصص:27].

فأجر نفسه عليه السلام عشر سنين مهراً لزوجته -عليه السلام-.

إذا هذا من التواضع.

             

ويقول -صلى الله عليه وسلم- لما سئل أيَّ العمل أطيب؟ قال: "عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وكان داود يأكل من كسب يده".

وسيد ولد آدم وإمام الأنبياء والمرسلين، ومقدمهم محمد بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه-، كان التواضع سمةً ثابتةً له، يعرفه كل أحد في حضره وسفره، يعرفه الغريب قبل القريب، والضعيف قبل القوي، يعرفون تواضعه، فهو رقيق القلب رحيم، يخفض جناحه لأتباعه، ويحبهم، ويقرب منهم، ويعاملهم بكل حسنى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران:159].

إذا كان التواضع خلقه -صلى الله عليه وسلم- في تعامله مع أصحابه، وتعامله حتى مع أعداءه، يكسب المعدوم، ويكرم الضيف، ويصل الرحم، ويعني على نوائب الحق، ركب الحمار وأردف عليه، وأجاب دعوة الداعي له على خبز شعير، يقول أنس كان يزور الأنصار ويسلم على صبيانهم، ويمسح رؤوسهم، تأخذه الآمة من المدينة وتوقفه لقضاء حاجتها حتى يقضي لها حاجتها وينفذ لها ما تريد، يقول رفاعة بن رافع: أتيته وهو يخطب، قلت: يا رسول الله: غريب جاهل في دينه يريد من يعلمه دينه! قال: فأقبل عليه وترك خطبته وأتي بكرسي أظنه قوائم من حديد، فعلمني مما علمه الله، ثم عاد إلى خطبته، وفي مكة يوم الفتح جاء رجل بحاجة فكأنه ارتعد من هيئة النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- فقال له: "هَوِّنْ عَلَيْكَ أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ من قريش تَأْكُلُ الْقَدِيدَ".

وأخبر: أن الأنبياء رعوا الغنم، قالوا: وأنت، قال: "رعيتها عَلَى قَرَارِيطَ لأَهْلِ مَكَّةَ".

أيُّها المسلم: فكان تواضعه -صلى الله عليه وسلم- تواضعاً جماً، يعرفه كل من عاشره صلوات الله وسلامه عليه.

أيّها المسلم: وإن مما يساعد المسلم على التخلق بالتواضع أمور:

فأولا: تذكيره في نفسه، ومبدأه ومنشأه: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ(8)﴾ [السجدة:7- 8].

فيتذكر في مبدأ خلقه: ﴿قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ(21)﴾ [عبس:21-17] الآيات.

فإذا عرفت منشأك وأصلك عرفت أن التواضع لابد منه، وأنَّه لا يليق بك التكبر والتعاظم: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [آل عمران:59].

عندما تعرف عجزك، وكمال فقرك، وحاجتك لربك، وأنَّ الله غني بذاته عنك، وأنت الفقير بالذات إليه دعاك إلى التواضع: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر :15].

عندما تعرف أن الكبرياء والعظمة صفة لله -جل وعلا- كما في الحديث: "الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي شيءٌ عذبته".

دعاك إلى التواضع لله، ثم التواضع لعباد الله، إذا عرفت أن الدنيا منقضية ولابد: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ [الرحمن:26].

وعرفت هذا الأمور معرفةً عظيمة دعاك إلى التواضع، إذا فتشت في سيرة محمد -صلى الله عليه وسلم- وتواضعه في نفسه، ومع أصحابه، وأهل بيته علمت فعل التواضع ومكانته.

أيّها المسلم: وصور التواضع كثيرة:

أولا: تواضع لله في نفسك، أعمل الأعمال الصالحة بإخلاص ومتابعة، ثمَّ لا يحملك العمل على التَّكبر والتعالي؛ بل يدعوك العمل الصالح إلى التواضع لله، والذل لله، إياك أن تنخدع بأعمالك فإن أعمالك مهما كثرة فلن تدخل الجنَّة إلا برحمة الله وفضله، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ أَحَدٌ إِلاَّ بِرَحْمَةِ اللَّهِ". قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَنْتَ، قَالَ: "وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِىَ اللَّهُ بِرَحْمَة منه وفضل".

أيّها المسلم: تواضع، أقبل نصيحة الناصح إذا نصحك، وأهدى إليك عيوبك، وبصرك في أخطاءك، ودلك على تقصيرك، فقبل نصيحة الناصح، وإياك أن يحملك الكبر على أن تصم أذنيك عن نصيحة أي ناصح، ونقد أي ناقد، أقبل نصيحة الناصح، وأقبل نقد الناقد، وإن جار في نقده فنظر ماذا نقدك؟ أكان مصيباً فيما نقد، فإن كان مصيبا فخذ الحق وخذ الخير وحمد الله على التوفيق، إياك أن ترد نصيحة الناصح لقصور جاه، أو ضعف مكانته، لا، أقبل من نصحك، فالحق مقبول ممن جاء به، إياك أن ترد الحق، إياك أن ترفض الحق، وتخالف الخد فإن هذا من التكبر، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ".

فالكبر الحقيقي رد الحق، فمن رد حقاً دل عليه كتاب الله وسنَّة رسوله -صلى الله عليه وسلم- برأيه وهواه: ﴿فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ﴾ [البقرة:108].

من رد حقا ثابتًا من سنة محمد -صلى الله عليه وسلم- أو مما دل عليه كتاب الله فذلك ضلال مبين؛ لأن الله يقول: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا﴾ [الأحزاب:36].

وقال عن نبيه -صلى الله عليه وسلم-: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(4)﴾ [النجم:4- 3].

فالمشككون في سنته، والرادون إليها بأهوائهم وآرائهم، وتصوراتهم الخاطئة دليل على ضعف الإيمان في نفوسهم، أو على مرض النفاق في قلوبهم، فإن المسلم يقبل سنَّة محمد -صلى الله عليه وسلم- ويرضى بها، ويطمئن إليها، ويعتقد أنَّها حق، وأن المخالفين لها والطعانين فيها والمشككين فيها أناس فقدوا الإيمان من قلوبهم، إذ لو كان في القلب إيمان حقا لقبل السنَّة ورضي بها واطمئن إليها، فنسأل الله الثبات على الحق.

أيها المسلم: تواضع في تعاملك مع الآخرين، ومخالطة الآخرين، فمن يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير ممن لا يخالطهم، ولم يصبر على أذاهم، خالط الناس بحكمة، وعدل وإنصاف، وتواضع وسعي في الخير.

أيُّها المسلم: التواضع بين الأقران لابد منه، فالأقران قد ينزغ الشيطان بينهم، ويوسوس على بعض، ويسلط البعض على البعض، فكن حذرا من هذا الخلق الذميم، تعامل مع أقرانك، بالعدل والإنصاف والسعي في الخير، وإياك أن تقبل كلمة نمام، وإشاعة واشي، يفصل بينك وبين إخوانك وأقرانك بالجهل والضلال ومحبة الإفساد.

أيُّها المسلم: تواضع، فالتواضع عدل ورفعة في الدنيا والآخرة، تواضع الشخص المسئول في مسئوليته وإدارته مع أفراد التابعين له، تواضع يقتضي حل المشاكل، والتعاون على الخير، وصرف السوء، فإن الآراء المجتمعة ينتج منها الخير الكثير، واستقلاليته بالرأي ليس من صفات الرجال ذو الفضل، إنَّما صفات أهل الحزم قبول الآراء والمقامة بينها واستنتاج الرأي السديد من أراء النَّاس، فكم من رأي من شخص قد لا تظن به ظنا، يكون عنده من الرأي وثقافة الرأي ما هو خير ومنفعة في الحاضر والمستقبل.

أيُّها المسلم: فلنتقي الله في أنفسنا، ولنتواضع حق التواضع مع ربنا ومع إخواننا المسلمين عموما.

أسأل الله أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضى.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني إيَّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقولٌ قولي هذا، واستغفروا الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنَّه هو الغفورٌ الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمدُ لله، حمدًا كثيرًا، طيِّبًا مباركًا فيه، كما يُحِبُّ ربُّنا ويَرضى، وأشهد أنْ لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن محمَّدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه، وعلى آله وصحبه وسلّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ.

أما بعدُ:

فيا أيُّها النَّاس: اتَّقوا اللهَ – تعالى- حقَّ التقوى.

المجتمع المسلم مجتمع التعاون، والتراحم، والتواصل، والتناصح، وأداء الواجب، يرحم غنيهم فقيرهم، وعالمهم جاهلهم، وقويهم ضعيفهم في إخلاص وصدق وتعامل بالحق.

أيها المسلم: تواضع لربك، فالتواضع لله عز وكرامة، ورفعة في الدنيا والآخرة، اسمع الله يقول: ﴿لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ [النساء:172].

ويقول الله عن ملائكته: ﴿سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ(27)﴾ [الأنبياء:26-27].

وقال عنهم: ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبياء:20].

تواضع لربك بتنفيذ أوامره، واجتناب نواهيه، والتأدب بآداب الشريعة، والوقوف عند حدودها.

تواضع لربك، وإياك أن تزل قدمك، وإياك وهفوات اللسان التي ربما تبعدك عن دينك من حيث لا تشعر، سنة نبيك أقبلها، ورضا بها، واعتقد حقيقتها، وإياك والطغيان والتكبر على هذه السنَّة، وردها بالآراء السخيفة وقلت الرأي وضعف الإيمان.

أيُّها المسلم: تواضع لإخوانك المسلمين، تواضع لهم فلا تخدعنك قوتك الشخصية، لا تخدع قوتك، ولا مكانك الاجتماعية، ولا جاهك، ولا نسبك، ولا وظيفتك أن تحتقر من دونك من الفقراء والمعوزين، فاحذر ذلك -أيُّها المسلم- وتواضع لله، ثم تواضع لعباد الله، فعامل بالحسنى.

أيُّها الأب الكريم: تواضع مع أبناءك في دعوتك للحق، وترغيبهم في الخير، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، والسعي في إصلاحهم وتوجيههم لما يحب الله ويرضاه.

أيُّها الداعي إلى الله: تواضع في دعوتك إلى الله لتكن دعوتك دعوة صادقة، دعوة صالحة، دعوة تحمل في طياتها النصح، والتوجيه، والحرص على الخلق وهدايتهم، دعوة داعي بريء من الكبر والعجب والتعالي على النَّاس، يقصد في دعوته الإصلاح لا يريد بها مالاً، ولا مكانةً بين النَّاس، وإنما يريد بها وجه الله والدار الآخرة: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [القصص:83].

فليكن الداعي إلى الله متواضع في دعوته لا يحتقر النَّاس، ولا يأيسهم من رحمة الله، يقول -صلى الله عليه وسلم-: قال رجل لرجل والله لا يغفر الله لفلان، قال الله: "مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَىَّ أَنْ لاَ أَغْفِرَ لِفُلاَنٍ، قَدْ غَفَرْتُ لِفُلاَنٍ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ".

أيُّها العالم: تواضع في علمك، وليكون علمك سبب لتواضعك لله -جل وعلا- ثم لعباده، وليكون علمك سبب لعملك الصالح، واستقامتك على الخير والهدى.

أيُّها المسئول: تواضع في حق من يتعامل معك ومن يراجعك من أهل الحاجات، فتواضع وأصغي لذوي الحاجات وقضي أمورهم، وقنعهم بما تعلم حتى يرجعوا عنك وهم مطمئنون.

أيُّها المسلم: إن النقد لابد منه، ولكن ما هذا النقد، النقد إذا كان تقدّا صحيحاً سليماً بريئاً من الرياء والعجب، نقداً سليما مبنياً على أسس ثابتة، فينبغي لمن نقد أن يقبل هذا النقد، ولا يتكبر ولا يتعالى، لينظر هذا النقد، هل هو صحيح أم لا؟ فإن يكن صحيحا حمد الله أن يسر له من هداه إلى الطريق المستقيم، وإن يكن ما نقده الناقد مخالفاً للحق فليرد عليه بعدل وإنصاف، وليشكر له اهتمامه، وليلفت نظره إلى الأخطاء الذي وقع فيها، فالتعاون بين الناقد والمنقود لابد منه صلاح الناقد وصلاح نيته بأقواله ونقده النافع، ثم انشراح صدر من نقد بقبول النقد النافع الهادف، أمَّا نقد سبٌ وشتام وتخلص المنقود من كل ما نقل إليه وتبريه من ذلك من باب التكابر والتعاظم فهذا غير لائق، فكلنا: "خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ".

ولابد من أخطاء، فالمسلم يحمد الله من أن هيأ الله له من يرده إلى الحق، ويهديه إلى الصواب.

فلنكن متواضعين في تعاملنا فيما بيننا جميعا.

نسأل الله التوفيق والسداد والهداية لك خير، وأن يمنحنا جميعا الفقه في دينه.

أيُّها الأخوة: الدعوة إلى الله من ضروريات الحياة، والمسلمون لابد لهم من ناصح وموجه، وداعياً إلى الخير يدعوهم إلى الخير كلما غفلوا، ويذكرهم إذا نسوا، ويعينهم إذا ذكروا، فمن يشرق بالدعاء ويشقى بهم ويتمنى زوالهم، وأنه لا أحد يمس في الدعوة، وأن الدعوة إلى الله ليس للنَّاس في حاجة، إنَّما هذا صادر عن قلب فيه نفاق، إذ لو كان حقا لعلم أن الدعوة إلى الله طريق الأنبياء والمرسلين: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف:108].

أسأل الله لي ولكم السداد والهداية لك خير إنه على كل شيء قدير.

واعلموا -رحمكم الله- أنّ أحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ اللهِ على الجماعةِ، ومن شذَّ شذَّ في النار.

وصَلُّوا -رحمكم الله- على عبد الله ورسوله محمد امتثال لأمر ربكم، قال -تعالى-: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:56].

اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائه الراشدين، الأئمة المهديين أبي بكر، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعَن سائرِ أصحابِ نبيِّك أجمعين، وعن التَّابِعين، وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعنَّا معهم بعفوِك، وكرمِك، وجودِك وإحسانك يا أرحمَ الراحمين.

اللَّهمَّ أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمَّر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين، واجعل اللَّهمّ هذا البلاد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.

اللَّهمَّ أمنَّا في أوطاننا وأصلح أئمتنا ولاة أمرنا، وفقهم لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين.

اللَّهمّ وفِّقْ إمامَنا إمامَ المسلمينَ عبدالله بنَ عبد ِالعزيزِ لكل خير، وسدده في أقواله وأعماله، وأمنحه الصحة والسلامة والعافية وأعنه على كل خير.

اللَّهمَّ شد عضده بولي عهده سلمان بن عبد العزيز، وسدده في أقواله وأعماله، وأعنه على مسئوليته إنك على كل شيء قدير.

﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحشر:10].

﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف:23].

﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [البقرة:201].

عبادَ الله: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل:90].

فاذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكُرْكم، واشكُروه على عُمومِ نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبرَ، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.