قصة طالوت وجالوت وداود عليه السلام

عناصر الخطبة

  1. شأن التابوت عند بني إسرائيل
  2. طلب بني إسرائيل للجهاد
  3. اختيار طالوت ملكًا على بني إسرائيل ورفضهم لذلك
  4. انقسام أصحاب طالوت إلى فرقتين
  5. بروز نجم داود عليه السلام
  6. انتصار جيش طالوت على جيش جالوت
اقتباس

التابوت كان نعمة من نعم الله على بني إسرائيل؛ حيث كان لهذا التابوت عندهم شأن عظيم، ونبأ ظريف، كانوا إذا اشتبكوا مع أعدائهم في قتال أو التقوا بهم في ساحة نزال، يحملونه بين أيديهم ويقدمونه في صفوفهم، فينشر في قلوبهم سكينة واطمئنانًا، ويبعث في أعدائهم هلعًا ورعبًا لسر عجيب فيه ومزايا خصّه الله بها، ولكنهم لما انحرفوا عن شريعتهم وغيروا ما بأنفسهم ..

الحمد لله رب العالمين، ينصر جنده ويعز من نصره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه واحمدوه واشكروه.

عباد الله: وسنتحدث اليوم -بمشيئة الله تعالى- عن قصة أخرى حدثت في بني إسرائيل.

التابوت كان نعمة من نعم الله على بني إسرائيل؛ حيث كان لهذا التابوت عندهم شأن عظيم، ونبأ ظريف، كانوا إذا اشتبكوا مع أعدائهم في قتال أو التقوا بهم في ساحة نزال، يحملونه بين أيديهم ويقدمونه في صفوفهم، فينشر في قلوبهم سكينة واطمئنانًا، ويبعث في أعدائهم هلعًا ورعبًا لسر عجيب فيه ومزايا خصّه الله بها، ولكنهم لما انحرفوا عن شريعتهم وغيروا ما بأنفسهم سلط الله عليهم أهل فلسطين، فغلبوهم على أمرهم، وأخرجوهم من ديارهم، وحالوا بينهم وبين أبنائهم، وأخيرًا أخذوا التابوت منهم، فانفصمت عروتهم، وتصدعت وحدتهم، ثم استكانوا إلى ذل وهوان، وظلوا على ذلك حقبة من الدهر، حتى كان نبيهم صمويل، ففزع إليه نفر منهم أرادوا أن يتجافوا بأنفسهم عن مطارح الهوان، وينزعوا بها من معرة الامتهان، وطلبوا إليه أن يختار لهم ملكًا يأتلفون حول رايته، ويجمعون أمرهم تحت زعامته، لعلهم به يغلبون العدو، ويكتب الله لهم النصر، فقال لهم -وهو يعرف الضعف فيهم-: إني أتوقع تخاذلكم إذا كتب عليكم القتال، قالوا: كيف نتخاذل وقد أخرجنا من ديارنا وحيل بيننا وبين أبنائنا؟! وأي حال أسوأ مما نحن فيه؟! وأي ذل أشد مما ابتلينا به؟! قال صمويل: دعوني أستخير الله في أمركم، وأستوحيه في شأنكم، فلما استخار الله -عز وجل- أوحي إليه أني قد اخترت عليهم طالوت ملكًا، قال صمويل : يا رب: إن صمويل رجل لم أعرفه بعد، ولم أره من قبل، فأوحى إليه: إني مرسله إليك وسوف لا ترى عسرًا في لقائه، ولا جهدًا في تعرف ملامحه، فولِّه الملك، وسلِّمه راية الجهاد. وكان طالوت رجلاً طويلاً فارعًا، قوي الجسم ذكيًا، ولكنه لم يكن معروفًا أو مذكورًا، كان يقيم مع أبيه في قرية من قرى الوادي، يرعى له الماشية، ويفلح الأرض، ويصلح الزرع، وفيما هو في شأنه في الحقل مع أبيه ضلت منه الأتن -أنثى الحمار-، فخرج مع غلامه ينشدانها في شعاب الوادي، وبحثا عنها أيامًا حتى تعبا، فقال طالوت لغلامه: هيا بنا نعود أدراجنا، فإني أعتقد أن القلق استولى على أبي، وأخشى أن يهمل الأتن فيخرج للبحث عنا، قال الغلام: إنا الآن قد وصلنا إلى أرض صوف موطن صمويل، وهو فيما أعلم نبي يأتيه الوحي وتهبط عليه الملائكة، هلم إليه نستوضحه بشأن الأتن لعلنا نستضي برأيه، أو نهتدي بوحيه، فارتاح طالوت لهذا الرأي، وتجدد لديه الأمل بأن يجد الأتن.

ولقيا في طريقهما إلى صمويل فتيات خرجن يستقين الماء، فطلبا إليهن أن يرشدهما إلى نبي الله صمويل، فقلن لهما: إن الشعب ينتظره فوق هذا الجبل، وهو يوشك الآن يجيء، وبينما هما في الحديث معهن إذ طلع صمويل يفوح منه رائحة النوبة، وتحدث ملامح وجهه عن نبي كريم ورسول أمين، والتقت عينا طالوت بصمويل فتعارفت أرواحهما، واتصلت نفوسهما، ووقع في قلب صمويل أن هذا طالوت الذي أوحى الله إليه بتمليكه، وأعلمه بأنه يحمل أعباء الزعامة والسلطان.

قال طالوت: إنني طلبتك -يا نبي الله- مستوضحًا مسترشدًا، إن لأبي أتنًا ضلت في شعاب هذا الوادي، وقد خرجت في إثرها مع هذا الغلام نتعرف الطريق ونقفو الأثر، فما ظفرنا بعد ثلاث إلا بخيبة، وما عندنا إلا بكواذب الآمال، وقد جئناك لعل فيضًا من علمك يهديننا إليها أو يدلنا عليها.

قال صمويل: أما الأتن فهي في طريقها إلى أبيك، فلا تربط قلبك بها، ولا تعلق جبال ذهنك فيها، ولكني أدعوك لأمر أجل خطرًا وأعظم قدرًا؛ إن الله قد اختارك على بني إسرائيل ملكًا، تجمع كلمتهم، وتحزم أمورهم، وتخلصهم من أعدائهم، وسيكتب الله لك -إن شاء الله- النصر، ولأعدائك الكبت والخذلان، قال له طالوت: ما أنا والملك والرياسة والزعامة والسلطان؟! أنا من أبناء بنيامين آخر الأسباط ذكرًا، وأقلهم مالاً، فلكيف أصبر إلى الملك أو أمسك بحبال السلطان؟! قال صمويل: هذه إرادة الله ووحيه وأمره وكلمته، فاشكر له هذه النعمة، واجمع رأيك على الجهاد، وأمسك بيد طالوت وقف به على القوم، يقول: إن الله قد بعث لكم طالوت هذا ملكًا له حق الرياسة والسلطان، وعليكم الطاعة والإذعان، فأجمعوا أموركم، واستعدوا للقاء عدوكم.

فذهلوا لذلك لقلة ماله وسوء الحال، وأنه ليس له ذكر، فزموا بأنوفهم وقالوا: كيف يكون له الملك علينا؟! فلا نسبه عريق، ثم كيف تولّى علينا رجل فقير ونحن لدينا ثروة وجاه وسطوة؟! وما يجدي النسب لمن لا يعرف من تصريف الأمور شيئًا؟! وما يغني المال من لا يفهم في سياسة الجيوش حولاً ولا طولاً؟! ولكن هذا طالوت فضله الله عليكم لما فيه من الكفاية والقدرة، وأنتم ترونه رجلاً بسط الله في جسمه وزاده عقلاً حكيمًا، بصير بالحروب، خبير بمواطن الكفاح، وفوق هذا وذاك فهذا اختيار الله له، والله يؤتي ملكه من يشاء، وما كان يليق بكم، وقد اختار لكم أن تكون لكم الخيرة من أمركم أو النفرة من جانبكم، عند ذلك قالوا: أما إذا قضى الله بشيء أو صدر عنه أمر أو نهي فلا معقب لحكمه، ولا معدل عن أمره، ولكن هات لنا آية نعرف بها أمره ونعلم قضاءه.

قال صمويل: إن الله قد علم لجاجكم وعنادكم، فجعل لكم علامة وآية أن تخرجوا إلى ظاهر المدينة، فتروا التابوت الذي ذللتم بعد ذهابه، ولقيتم الخسف والهوان بعد ضياعه، قادمًا إليكم وفيه سكينة لكم تحمله الملائكة، وفي ذلك آية لكم إن كنتم مؤمنين، وخرجوا كما واعدهم فوجدوا التابوت، ونزلت عليهم السكينة، وصحت عندهم العلامة، فبايعوا طالوت وأقروا له بالملك والسلطان.

واضطلع طالوت بالملك، وأحسن قيادة الجنود، وأظهر حزمًا وعزمًا وفطنة وذكاءً، قال: يا قوم: لا ينتظمن جيشي إلا من كان خاليًا من الهواجس، فارغًا من الصوارف، فلا يدخل من كان قد شرع في بناء لم يتمه، أو خطب عروسًا ولم يبنِ بها -أي لم يدخل بها-، أو له تجارة وعقله مشغول بها، فلما تم له ما أراد وكون جيشًا متلاحمًا أراد أن يتحوط لنفسه بعدما بدا له منهم الشك في أمره والجدل حول تمليكه، فأراد أن يختبرهم مخافة أن يخذلوه ساعة اشتباك القنا -أي الرماح في الحرب-، أو يفروا حين الزحف وتقابل الأقران، فقال: إنكم ستلقون نهرًا، فمن كان صابرًا محتسبًا فلا ينهل إلا بمقدار ما يبرد كبده، ويبل ريقه، وأما من خالف أمري فليس مني ولا تسكن إليه نفسي، فوقع ما خافه طالوت، فقد شربوا منه إلا قليلاً منهم، هم الصابرون المؤمنون المخلصون المجاهدون، وأصبح الجيش أوزاعًا -أي فرقًا- من ضعفاء العزيمة وخائريها، ومن صادقي النية وكاذبيها، ولكنه صابر المترددين وخرج بالجميع للقاء العدو مجاهدًا في سبيل الله.

ولما خرجوا لقتال عدوهم فإذا هم رجال أشداء جاؤوا لخوض الحرب وغمراتها، ويفوقونهم عدة مرات، يقودهم جالوت شُجاعهم يصول بينهم، فانقسم أصحاب طالوت إلى شعبتين: شعبة منهم خار عودهم وانخلع فؤادهم وتخاذلت قوتهم وقالوا: ﴿لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ [البقرة:249]، وشعبة منهم ظلت صابرة صامدة، وهم الذين عمر قلوبهم الإيمان، وقالوا لطالوت: امضِ لشأنك، واستعدوا للموت، ولم تزعجهم كثرة أعدائهم وقالوا: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة:249]. ونكمل في الخطبة الثانية إن شاء الله تعالى.

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وما قص فيه من قصص عظيمة، وبهدي خاتم الأنبياء والمرسلين. أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

  

الخطبة الثانية:

الحمد لله يعز من يشاء بنصره، وينصر من نصره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

اتقوا الله -عباد الله- حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى.

أيها الناس: عندما خرج طالوت بجنوده وزادُهم الإيمان وتوجهوا إلى الله تعالى طالبين منه النصر والعزة والتمكين، أنه لما التقى الجمعان، وحمي وطيس القتال، واشتدت الحرب، برز جالوت يدعو للمناجزة والمبارزة، فخاف الباقون بطشه، وهابوا صولته، وكان في جيش طالوت داود -عليه السلام- الذي كان أبوه يقيم في بيت لحم وكان شيخًا كبير السن وله أبناء، فلما وقعت الحرب واستنفر طالوت بني إسرائيل للجهاد، وانتخب ذلك الرجل من كبار أبنائه، ثم قال لأصغر أبنائه: لا تقرب ساحة الحرب، فلست من رجالها وفتيانها، وكان ذلك الغلام هو داود -عليه السلام-، وكان مع حداثة سنه وضيء الطلعة، أبلج الغرة، متسعر الذكاء، له قلب متوقد بين الجوانح، سار مع إخوته إلى ساحة القتال، حتى وجد رجلاً راعه أنه عملاق طاغية يتحدى، ولكن الشجعان تخشاه، فسأل عنه فقيل له: هذا جالوت رئيس الأعداء وزعيمهم، وما برز إليه شخص إلا ردّه جريحًا، وقد جعل طالوت جزاءً لمن يقتله ويقي المؤمنين كيده وشره أن يزوجه إحدى بناته ويوليه الملك من بعده، فثارت الحفيظة في نفس داود، وهاجت الحمية في قلبه، فذهب إلى طالوت وطلب منه الإذن في منازلة جالوت، لعل مصرعه يكون بيديه، فاستصغر طالوت شأنه، وخاف عليه وطلب إليه أن يترك الأمر لمن عساه أن يكون أكبر سنًّا وأقوى جسمًا وأمضى عزمًا وأجمع قلبًا.

قال داود: لا يخدعنك ما تراه من صغر سني، عن حرارة الإيمان التي تجيش في صدري، ونار الحنق التي تلتهب في قلبي، ولقد هجم بالأمس القريب أسد على غنم أبي فعدوت وراءه حتى أصبته فقتلته، وصادفني دب فنازلته ثم أرديته، والعبرة بقوة النفس لا بكبر السن، وبمضاء العزم لا بضخامة الجسم.

ورأى طالوت في لهجته الصدق والحزم والعزم في نيته فقال له: دونك ما تريد والله حافظك وهاديك، ثم ألبسه ثيابه وقلده سيفه وتوَّجَهُ خوذة فوق رأسه، ولكن داود لم يكن قد لبس الدرع ولا عالج السيف، فناء بما حمل، وثقل عليه ما اشتمل، فخلع كل ذلك واحتمل عصاه واحتقب مقلاعه واصطحب أحجارًا ملسًا وتهيأ للخروج.

قال له طالوت: كيف القتال بالحبل والمقلاع وهذا مقام السيف والنشاب؟! قال داود: إن الله الذي حماني من أنياب الدب ومخالب السبع سيمنع عني بلا شك ما يريد لي هذا الطاغية من كيد أو نكال.

خرج داود في حزم وفي أمنع حِرز وهو صدق الإيمان، ورآه جالوت فاحتقره وهزئ به وقال: ما هذه العصا التي تحملها؟! أكلب تطارده أم غلام مثلك تناجزه؟! أين سيفك وترسك؟! وأين سلاحك وعدتك؟! يخيل إليّ أنك كرهت حياتك وسئمت عيشك مع أنك لا تزال حديث السن ولم تحتمل بعد تكاليف العيش ولا نصب الحياة، فقال: ادنُ مني، فإنه بعد لحظة ستسيل نفسك وتطوى صحيفة عمرك، وأقدمك لحمًا طريًا لوحوش البرية وطيور السماء، قال داود: لك درعك وترسك وسيفك ونشابك، أما أنا فإني أتيتك باسم الله إله بني إسرائيل الذين أذللتهم وأخضعتهم، وسترى عما قريب أهو السيف الذي يصرع ويقتل أم هي إرادة الله وقوته، ومد يده إلى كتفه وأخرج الحجر، ووضعه في المقلاع وسدده نحو جالوت، فإذا هو مشجوج الرأس سائل الدم مثخن الجراح، ثم قفاه بحجر وحجر حتى خر صريعًا على اليدين والفم، وارتفعت راية النصر وانكسرت بعد جالوت شوكة العدو، وولوا منهزمين يتبعهم المؤمنون ضربًا وطعنًا وتقتيلاً، وثأروا لأنفسهم واستردوا عزهم الذاهب ومجدهم التليد؛ قال الله تعالى: ﴿وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ(252)﴾ [البقرة250 :252].

عباد الله: هذه لمحة عن قصة طالوت الملك وداود الرسول -عليه السلام- في بدايته مع عدو الله جالوت وجنوده، قصّها الله -عز وجل- علينا في كتابه الكريم.

وصلوا وسلموا على من أنزل الله عليه القرآن الكريم ومثله معه محمد بن عبد الله نبي أمة الإسلام -صلى الله عليه وسلم-.