أسباب الفتور في الطاعة

عناصر الخطبة

  1. مرض الفتور
  2. مقام النبوة إقبال مستمر ومقام الإيمان ساعة وساعة
  3. أعراض الفتور
  4. أسباب الفتور
  5. دعوة إلى بر الآباء والأمهات
اقتباس

داء ومرض خطير يصيب بعض المسلمين في زمن، ومعظم المسلمين في زمن آخر، أو يصيب العاملين في الحقل الديني، أدنى هذا المرض الكسل، أو التراخي، أو السكون بعد الحركة، وأعلاه الانقطاع بعد الاستمرار، اسم هذا المرض مرض الفتور، تفتر همته، تفتر عبادته، يفتر عمله الصالح، لا شك أن سيدنا الصديق -رضي الله عنه- حينما مرّ بصحابي رآه يبكي، سأله الصديق: ما لك -يا حنظلة- تبكي؟!

الحمد لله، نحمده ونستعين به، ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقرارًا بربوبيته، وإرغامًا لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول الله، أدى الأمانة، وبلّغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وجاهد في الله حقّ الجهاد، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، أخرجنا من وحول الشهوات إلى جنات القربات.

أيها الإخوة الكرام: موضوع الخطبة اليوم داء ومرض خطير يصيب بعض المسلمين في زمن، ومعظم المسلمين في زمن آخر، أو يصيب العاملين في الحقل الديني، أدنى هذا المرض الكسل، أو التراخي، أو السكون بعد الحركة، وأعلاه الانقطاع بعد الاستمرار، اسم هذا المرض مرض الفتور، تفتر همته، تفتر عبادته، يفتر عمله الصالح، لا شك أن سيدنا الصديق -رضي الله عنه- حينما مرّ بصحابي رآه يبكي، سأله الصديق: ما لك يا حنظلة تبكي؟! قال: نافق حنظلة، قال له: ولِمَ يا أخي؟! قال حنظلة: نكون مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن والجنة كهاتين، فإذا عدنا إلى بيوتنا وعافسنا الأهل، ننسى هذا الحال، فسيدنا الصديق من تواضعه الشديد قال: أنا كذلك يا حنظلة، انطلق بنا إلى رسول الله، فانطلقا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- وحدثاه بهذا الحال، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "أما نحن -معاشر الأنبياء- تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا، أما أنتم -يا أخي- فساعة وساعة، ولو بقيتم على الحال التي أنتم عليها عندي، لصافحتكم الملائكة، ولزارتكم في بيوتكم".

اتضح أن مقام النبوة إقبال مستمر، وأن مقام الإيمان ساعة وساعة، لكن إياكم ثم إياكم ثم إياكم أن تفهموا الساعة الثانية ساعة معصية، مستحيل وألف ألف مستحيل، ساعة تألّق وساعة فتور، إن للنفس إقبالاً وإدبارًا، إن أقبلت فاحملها على العزائم، وإن أدبرت فاحملها على الفرائض، هذا الفتور طبيعي، ساعة إقبال وساعة تألق، ساعة غليان وساعة فتور، أما الاستقامة فمستمرة، أما العوام فيفهمون ساعة وساعة بأنها ساعة طاعة وساعة معصية، هذا فهم اختص به المنافقون، ساعة تألق وساعة فتور، لذلك الحديث اليوم لا عن هذا الفتور؛ فتور المؤمن لأنه بين ساعة وساعة، الحديث عن فتور طويل الأمد يمتد طويلاً، لذلك أثنى الله -جل وعلا- على ملائكته فقال سبحانه: ﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19)يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ(20)﴾ [الزمر: 19-20].

من هنا كان موضوع هذه الخطبة ﴿لا يَفْتُرُونَ﴾، أي لا يتكاسلون، ولا يتوقفون عن الذكر، والطاعة، والعبادة، هذا التعريف، فماذا عن أعراض الفتور؟! المرض له أعراض، أعراض الفتور كثيرة جدًا، أحد هذه الأعراض الإعراض عن القرآن الكريم، الإعراض عن قيام الليل، الإعراض عن الذكر والاستغفار، الإعراض عن التسبيح، إطلاق البصر، النظر إلى ما حرم الله، وكأن الإنسان الذي أصابه مرض الفتور، الفتور الأول في مقدمة هذه الخطبة حالة طبيعية، حالة تألق وحالة فتور، أما الفتور الثاني حالة إطلاق بصر، وكأن الإنسان فك من قيود أو عقال، صورة خطيرة من صور الفتور التي تصيب كثيرًا من المسلمين.

أيها الإخوة، أهم أسباب الفتور: ضعف الإيمان بالله، لذلك جددوا إيمانكم؛ لأن ضعف الإيمان من لوازمه الفتور، محال أن تتذوق طعم الإيمان وحلاوة الإيمان، وأن يضيء القرآن قلبك، محال بعد هذا أن تتخلى عن لوازم الإيمان ألا وهي الطاعة، من أعجب العجب أن تعرفه ثم لا تحبه، ومن أعجب العجب أن تحبه ثم لا تطيعه، ضعف الإيمان في القلب أحد أخطر أسباب الفتور، أو أحد أخطر أسباب التراخي، والتكاسل، والتباطؤ.

ومن أخطر أسباب الفتور: الإعراض عن عمل صالح، أو عن طاعة، أو عن قربة إلى الله، وعدم الاستمرار عليها، والنبي -عليه الصلاة والسلام- من خصائص عبادته أنها كانت ديمة أي دائمة، وأحب الأعمال إلى الله ما كان مستمرًا ولو قليلاً.

أيها الإخوة: قال تعالى: ﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ [التغابن: 11]، هداية القلب ثمرة الإيمان، ولو هدى الله قلبك لاستقامت جوارحك؛ لأن القلب هو الملك، والجوارح جنود لهذا الملك، فإن طاب الملك طابت الجنود والرعايا، وإن خبث الملك خبثت الجنود والرعايا، كما قال ربنا -عز وجل-: ﴿يَومَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ(89)﴾ [الشعراء: 88-89].

القلب السليم هو القلب الذي لا يشتهي شهوة لا ترضي الله، ولا يصدق خبرًا يتناقض مع وحي الله، ولا يعبد غير الله، ولا يحتكم إلا لشرع لله.

وفي الصحيحين أن النذير البشير -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب". متفق عليه عن النعمان بن البشير.

وقال أبو هريرة -رضي الله عنه-: "القلب ملك الأعضاء، والجوارح جنوده ورعاياه، فإن طاب الملك طابت الجنود والرعايا، وإن خبث الملك خبثت الجنود والرعايا".

أيها الإخوة: الإيمان حصن الجوارح، إن فترت، وتكاسلت، وتباطأت، وتوقفت، وانقطعت عن العمل، فتش عن حالٍ أنت عليه، فتش عن حقيقة الإيمان في قلبك، لذلك إيمانك في هذه الحالة يحتاج إلى تجديد، يحتاج إلى تقوية، الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، فإن تباطأ الإنسان، وتكاسل، وانقطع عن الطاعة، فليفتش عن حاله، وعن حالة قلبه، وعن مستوى إيمانه، قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "اطلب قلبك في ثلاثة مواطن؛ عند سماع لقرآن، وفي مجالس الذكر -أي العلم-، وفي أوقات الخلوة، فإن لم تجد قلبك في هذه المواطن فسل الله أن يمن عليك بقلب؛ فإنه لا قلب لك".

هل تحمل في صدرك قلبًا حقيقيًا؟! فتش عن قلبك، هذا هو السبب الأول ضعف الإيمان، السبب الأول لداء الفتور، والتكاسل، والجمود، والتأجيل، والبعد عن العزائم، ضعف الإيمان.

السبب الثاني: ضعف الإرادة والهمة، قال ابن القيم: "اعلم أن العبد إنما يقطع منازل السير إلى الله تعالى بقلبه وهمته لا ببدنه، فالتقوى في الحقيقة تقوى القلب لا تقوى الجوارح".  

قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32]، وأشار النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى صدره وقال: "التقوى ها هنا، التقوى ها هنا". أخرجه مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

لذلك فالآية الدقيقة قوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) [الإسراء: 18-20].

كلمة قالها أحد المفكرين: إن القرار الذي يتخذه الإنسان في شأن مصيره قلما تنقضه الأيام، إن كان صادرًا حقًا عن إرادة وإيمان.

ضعف الإرادة والهمة من أخطر أسباب الانقطاع عن العمل لدين الله، أيها الإخوة الكرام: قال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ*أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ*فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ*ثُلَّةٌ مِنْ الْأَوَّلِينَ *وَقَلِيلٌ مِنْ الْآخِرِين) [الواقعة: 10-14]، قال ابن القيم: "فالسابقون في الآخرة إلى الرضوان والجنات هم السابقون في الدنيا إلى الخيرات والطاعات، فعلى قدر السبق هنا يكون السبق هناك".  

ضعف الإرادة هو السبب الثاني، فمن الناس من تنشط إرادته وتقوى على جمع المال، لا ينام الليل والنهار، ولا يعنيه هل سيجمع المال من الحلال أم من الحرام؟! ومن الناس من تنشط همته، وتقوى إرادته في البحث عن متعة من متع الدنيا، ولا يعنيه أكانت هذه المتعة في الحلال أو الحرام؟! ومنهم من لا همّ له إلا أن يحقق الشهرة، ولو بالكذب والباطل، ومنهم من يحمل هموم أمته ويحمل دين الله -تبارك وتعالى-، فضعف الإرادة والهمة من أخطر أسباب الفتور، ومن أخطر أسباب التباطؤ، أو الانقطاع عن العمل لدين الله -تبارك وتعالى.

السبب الثالث من أسباب الفتور: الاستهانة بصغائر الذنوب، كلما رأيت الذنب صغيرًا أصبح عند الله كبيرًا، وكلما رأيته كبيرًا أصبح عند الله صغيرًا، لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار، لذلك يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: "إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه". أحمد والطبراني من حديث سهل بن سعد.

أي العدد الكبير من المسلمين لا يقتلون، ولا يسرقون، ولا يزنون، ما الذي حجبهم عن الله؟! هذه المحقرات من الذنوب يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه، تمامًا لو كان الطريق عريضًا يقدر بستين مترًا، وتقود أنت مركبة في وسط الطريق، الصغيرة تعني أن تحرف المقود سنتيمترًا، هذا السنتمتر لو ثبته لكان المصير في الوادي، أما الكبيرة أن تحرف المقود تسعين درجة، ولأن الطريق عريض بإمكانك أن تتلافى هذه الكبيرة، وأن تعيد المركبة إلى وسط الطريق.

لذلك: لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار، لذلك يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: "إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه".

أيها الإخوة: كل شيء تفعله مسطر عليك في كتاب عند ربي لا يضل ربي ولا ينسى، ﴿وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ﴾ [القمر: 53]، أي مسجل عليك، ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ(8)﴾ [الزلزلة: 7-8].

فالاستهانة بصغائر الذنوب من أخطر الأسباب التي تصيب القلب بالفتور، مثال مِنْ حياتنا: عندك بيت فيه كل الأجهزة الكهربائية من دون استثناء، فإذا انقطع التيار الرئيس مليمترًا انقطعت الكهرباء في البيت، وتعطلت كل هذه الأجهزة، وإذا انقطع التيار مترًا كالمليمتر في النتائج، لذلك لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار، لكن الصغيرة سميت صغيرة لأن تلافيها سهل جدًّا بكلمة: أستغفر الله، إذًا لانتهى الأمر: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة: 186]، قال ابن عباس: "إن للطاعة نورًا في الوجه، ونورًا في القلب، ونورًا في البدن، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للمعصية سوادًا في الوجه، وظلمة في القلب والقبر، ووهنًا في البدن، وضيقًا في الرزق، وبغضًا في قلوب الخلق". ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً﴾ [مريم: 96].

أي ودًّا في قلوب الخلق، الخلق إذا أحبوك هذه محبة الله لك، أودعها في قلوب الخلق.

وأما السبب الرابع لداء الفتور، هو التخلي عن العمل لدين الله، مهتم بمصالحه، بكسب ماله، بمتعه بالمباحات، بالنشاطات الدنيوية، بتركيز مكانته، العمل للدين يدفع الإنسان دفعًا للطاعة، ويثبت الله -عز وجل- من يحمل همّ الدين بقلوبهم على طاعة ربهم، وهو على فراشه ينام يحمل همّ هذا الدين، ربما تنحدر الدموع مدرارًا على وجنتيه، يفكر في واقع الأمة، في الدماء التي تنزف، في الدماء التي تسفك.  

أيها الإخوة الكرام: ما لم تنتمِ إلى مجموع المؤمنين، ما لم تتألم أشد الألم لما يصيب المسلمين، فأنت لست منهم.

أيها الإخوة: ماذا يفعل؟! يذكر بالله تارة، يتململ من واقع المسلمين تارة أخرى، يُذكر المؤمنين من زملاء العمل، من جيرانه، من أقربائه، من ذويه بالله -عز وجل-، يحضر مجالس العلم، حريص على إسعاد الفقراء والمساكين، قضية الدين تملأ قلبه، تحرك عليه وجدانه، تشغل باله، تشغل عقله وجوارحه في آناء الليل وأطراف النهار: "من أصبح وأكبر همه الآخرة جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه شمله وأتته الدنيا وهي راغمة". أخرجه ابن ماجه عن أنس بن مالك.

أيها الإخوة الكرام: من أكبر ما يبعدك عن الفتور أن تجاهد نفسك وهواك: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: 69]. هذا جهاد النفس والهوى، ثم جهاد الدعوة إلى الله: ﴿وجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ [الفرقان: 52].

ثم جهاد البناء؛ أن تتقن عملك، وأن تسارع إليه، أن تتقنه، أن تطوره، أن تجعله في خدمة المسلمين، هذا جهاد بنائي، وقد يقتضي الأمر الإلهي أن تجاهد جهادًا قتاليًا، رزقنا الله هذا الجهاد في وقت تحتاج الأمة إلى هذا الجهاد.

أيها الإخوة الكرام: ومن أسباب الفتور كداء لا كحالة طبيعية تصيب المؤمن، تألق وضعف: الغفلة عن السنن الكونية، هذا معنى دقيق، المسلم أحيانًا بسذاجة يتوهم أنه لا بد من أن يكون المجتمع كله مستقيمًا على أمر الله، فعندما يصاب بالإحباط تضعف همته، فالله -عزَّ وجل- جعل للبشر سننًا، فالله -وهو خالقنا، وربنا، ومسيرنا، والذين مع النبي نخبة البشر- حرّم عليهم الخمر بالتدريج، أي لا تطمع أن ينقلب المجتمع بدعوتك إلى مجتمع آخر، لك أن تدعو إلى الله وعلى الله الباقي، اصنع المعروف إلى من هو أهله، وإلى غير أهله، فإن أصبت أهله أصبت أهله، وإن لم تصب أهله كنت أنت أهله، ما كلفك الله أن تكون وصيًا على المسلمين، سيد الخلق وحبيب الحق قال له تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ [الشورى: 6]، ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ [البقرة: 272].

تكلّم كلمة الحق لكن لا تقنط، لعلها لا تجدي اليوم وتجدي غدًا، لعل هذا الذي تذكره لا يستجيب لك اليوم ويستجيب لك غدًا، إذًا لا تغفل عن السنن الكونية التي من خصائصها أن التبدل لا يكون في ساعة أو ضحاها، يحتاج إلى أمد، لذلك: "إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكُهم أو فهو أهلكَهم". مسلم عن أبي هريرة.

فهو الذي يئس منهم وهم ليسوا كذلك، هو الذي نفض يديه من خدمتهم وهم ليسوا كذلك، فهو أهلكُهم أي هو أشدهم هلاكًا، هو أهلكَهم أي هم ليسوا كذلك لكنه أهلكَهم، لذلك هناك شخص سوداوي المزاج، يدعو إلى الله، فإن لم يستجب له يئس وانسحب من الدعوة، هذا موقف ليس إسلاميًا إطلاقًا.

من أسباب الفتور: هجر مجالس العلم، أي هل هناك طبيب في الأرض لم ينتسب لجامعة؟! هل هناك مهندس في الأرض لم يكن طالبًا في كلية الهندسة؟! هل هناك تاجر لم يكن في صغره عند تاجر كبير يتعلم منه؟! هذا الذي يتمنى أن يكون مؤمنًا كبيرًا ولا يسمح لنفسه أن يحضر مجلس علم هو أكبر من ذلك، هو دكتور معه شهادات عليا، هو عالم كبير، قد يحمل أعلى شهادة في الأرض في الفيزياء النووية وهو أمي في الدين، القضية قضية علم في الله، هناك علم ينفعك في الدنيا، هناك علم يجعلك تجد على باب عيادتك مئات المرضى، معك اختصاص بأعلى مستوى، لكن العلم الذي يسعدك في الدنيا والآخرة أن تعرف الله، أن تعرف سرّ وجودك، أن تعرف غاية وجودك، أن تعرف منهج ربك، فكما أن معظم علماء الدين في اختصاصات علمية نادرة جدًّا يعدون أميين، كذلك أصحاب هذه الاختصاصات إن لم يحضروا مجلس علم، إن لم يطلبوا العلم، هم أميون في الدين، لا تغتر أن معي شهادة عليا، معي دكتوراه، هذا كله لا يقدم ولا يؤخر، يجب أن تعرف الله، معرفة الله تحتاج إلى أن ترجع إلى مرجعيات، إلى القرآن الكريم والسنة، لذلك هجر مجالس العلم من أخطر أسباب الفتور، في مجلس العلم تكون السكينة، تكون الراحة النفسية، يكون العلم بالحلال والحرام، يجدد إيمانك.

أيها الإخوة الكرام: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28]، إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معًا فعليك بالعلم، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئًا: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: 11].

الآن هناك سبب تستغربونه، أحد أسباب الفتور عدم الترويح عن النفس بالمباحات، روحوا القلوب ساعة بعد ساعة، فإن القلوب إذا كلت عميت، اجلس مع أهلك، داعب أولادك، كن مرحًا، اذهب إلى نزهة، هذا مباح كله وفق الضوابط الشرعية، هذا يعينك على عظم الهمة، يعينك على استئناف العمل.

أيها الإخوة الكرام: لا إفراط ولا تفريط، فكما أن الإفراط انحراف فالتفريط أيضًا انحراف، وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر أن ناسًا أتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا رسول الله: ذهب أهل الدثور بالأجور -أي ذهب أصحاب الأموال بالأجر- يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، فقال النبي: "أو ليس الله جعل لكم ما تصدقون به، إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة". ثم قال: وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله: أيأتي أحدنا شهوته فيكون له فيها أجر؟! قال: "أرأيتم لو وضعها في الحرام أيكون عليه وزر؟!"، قالوا: نعم قال: "ولو وضعها في الحلال فله فيها أجر". أخرجه مسلم عن أبي ذر -رضي الله عنه.

أي كل حركة، كل سكنة، كل تسبيح، كل تمجيد لله، كل استغفار لله، كل دعاء، كل شيء تفعله لا يحتاج إلى مال يعد صدقة.

السبب الثامن في الفتور كداء لا كحالة طبيعية من خصائص المؤمن: مصاحبة ذوي الهمم الضعيفة والإرادات الدنيَّة، مصاحبة هؤلاء تصيبك بالفتور، لذلك من توجيهات النبي -عليه الصلاة والسلام-: "لا تُصَاحِبْ إِلا مُؤْمِنًا، ولا يأكُلْ طَعَامَكَ إِلا تَقِيّ". أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري.

اصحب أهل الصلاح واضرب معهم بسهم، اصحب أهل الإنفاق واضرب معهم بسهم، اصحب أهل القيام واضرب معهم بسهم، اصحب أهل الذكر واضرب معهم بسهم، "والمرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل". أبو داود عن أبي هريرة.

ثمانية أسباب وراء مرض خطير، وداء وبيل، هو مرض الفتور، أي التكاسل عن طاعة، وعن حضور مجلس علم، وعن عمل صالح، وعن قراءة القرآن، وعن أي شيء يقربك إلى الله.

وأخيرًا، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم، فيا فوز المستغفرين، أستغفر الله.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، الطيبين الطاهرين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.

أيها الإخوة الكرام: يقول الله -عز وجل-: ﴿لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ(3)﴾ [البلد: 1-3]، أي لا يوجد واحد من الإخوة الكرام إلا له أب وله أم، وهو يعلم علم اليقين رحمة الأم بابنها، هذه الرحمة من أين؟! من الله، فإذا كان قلب الأم يتفطر إن رأت ابنها في حالة صعبة، إنها تتمنى أن تجوع ليشبع، وأن تستيقظ لينام، وأن تعرى ليكتسي، وأن تتألم ليسعد، ما هذا القلب؟! والأم عندها من رحمة الله الشيء القليل، ورد في بعض الآثار، أن أمًّا تخبز على التنور، كلما وضعت رغيفًا في التنور أمسكت ابنها وضمته وشمته، قال: يا رب: ما هذه الرحمة؟! قال: إنها رحمتي أودعتها في قلب أمه وسأنزعها، فلما نزع الله الرحمة من قلب أمه وبكى ألقته في التنور.  

لذلك نتراحم برحمة الله، فلذلك المؤمن يقدر هذه الرحمة من أمه، لكن المشكلة أن العالَم أراد أن يكون بر الأم يومًا في السنة، إلا أن المسلم والله لا أبالغ يبر أمه ثلاثمائة وخمسة وستين يومًا في السنة، أراد العالم يومًا واحدًا، والمسلم في كل يوم يبحث عن طريقة يكرم بها أمه، هذه الأعياد لا أعلق عليها كثيرًا، ولكن أرى أنها استُوردت من بلاد عاشت حياة العقوق، مثال بسيط جدًّا: الأب والأم في بلاد المسلمين عند أولادهم، مع أحفادهم، والله هناك بيوت وما أكثرها تعتني بالأب المتقدم بالسن والأم عناية تفوق حدّ الخيال، كنت مرة في فرنسا، حدثني أحدهم أن هناك مشكلة كبيرة جدًّا يعاني منها من هم عجزة في دور العجزة، وهي مشكلة الانتحار، ينتحر بشفرة، بحبل، بإلقاء نفسه في بئر، السبب إنسان بلا هدف، أقرب الناس إليه تخلوا عنه، الإنسان عندما يتقدم به السن لا يحتاج لا إلى طعام، ولا إلى شراب، يحتاج إلى أن يرى أحفاده، أن يعيش مع أحفاده، مع أولاده، مع بناته، في العالم الغربي سلبية خطيرة جدًا لا أحد يرعى أباه حينما يكبر، يوضع في مأوى العجزة، لكن المؤمن يخدم أباه، ويتقرب إلى الله بخدمة أبيه وأمه، لذلك هناك تماسك أسري عندنا، الأب شيء كبير والأم كذلك، هذا من فضل هذا الدين العظيم، من فضل هذا الدين العظيم، والله هناك شباب يوفقون توفيقًا يفوق حدّ الخيال بسبب برهم لأمهم وأبيهم.

والحمد لله رب العالمين.