الاحتفال بالمولد النبوي الشريف

عناصر الخطبة

  1. أسباب إحداث الاحتفال بالمولد
  2. حقيقة مُحْدِثيه
  3. تأريخ الاحتفال به
  4. دور الإعلام في الترويج له
اقتباس

ولم تسلم كثير من البرامج الدينية من هذه الخطيئة المنهجية، فأكثرها برامج موجهة، لا تهدف إلى رفع مستوى التدين في الأمة وغرس مبادئ الالتزام بتعاليم الإسلام؛ ولكنها تسعى إلى تمييع الإسلام، وتطويعه لضغط الواقع، وحاجات العصر؛ وذلك بإيجاد المخارج، وإحياء الأقوال المهجورة، والفتاوى الشاذة الضعيفة، بقصد تقريب الإسلام من المناهج المادية العلمانية ..

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً(71)﴾ [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها الناس: رغم أن هذا العصر يوصف بأنه عصر العلم، فإنه عصر الجهل أيضاً، ورغم أن الإعلام -بوسائله المختلفة- ينقل الأخبار والحقائق، وينشر العلوم والمعارف المتنوعة؛ فإنه أيضاً ينشر الجهالات، ويؤصِّل للضلالات.

إن الإنسان المعاصر توصل إلى كثير من الحقائق الكونية، واكتشف كثيراً من أسرار الأرض وعجائبها وكنوزها، وسخَّر ثرواتها في خدمته ورفاهيته، وطور الصناعات والتجارات والاتصالات، وكل ما يحتاجه في حياته الدنيا؛ لكن أكثر البشر جهلوا الحقائق الشرعية، وضلوا الطريق إلى الله تعالى، ونسوا الدار الآخرة.

إن الإعلام، بصحفه المقروءة، وشاشاته المعروضة، وإذاعاته المسموعة، قد ضخ كثيراً من العلوم والمعارف في مجالات مختلفة، وبيَّن حقائق كثيرة كانت خافية على الناس؛ لكنه -في نفس الوقت، وفي كثير من مجالاته- قد حجب الحق، وزيَّن الباطل، وأضل الناس.

إنه إعلام علَّم الناس كثيراً من أمور دنياهم؛ لكنه أنساهم أخراهم، فصدق في كثير من صُناع مادته، والقائمين عليه، والمتلقين عنه، قول الله تعالى: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ [الروم:7].

ومن اطلع على ما يعرض في كثير من الفضائيات من مناظرات سياسية، أو برامج حوارية، أو لقاءات دورية، يجد أنها لا تخرج عن كونها مجادلات ومهاترات، لا يقصد منها إحقاق حق، أو إبطال باطل، أو نفع المشاهد؛ بل المقصود منها إقناع المشاهد برأيٍ أو فكرةٍ ولو كانت خاطئة.

ولم تسلم كثير من البرامج الدينية من هذه الخطيئة المنهجية، فأكثرها برامج موجهة، لا تهدف إلى رفع مستوى التدين في الأمة وغرس مبادئ الالتزام بتعاليم الإسلام؛ ولكنها تسعى إلى تمييع الإسلام، وتطويعه لضغط الواقع، وحاجات العصر؛ وذلك بإيجاد المخارج، وإحياء الأقوال المهجورة، والفتاوى الشاذة الضعيفة، بقصد تقريب الإسلام من المناهج المادية العلمانية.

ومن اعترض على هذا المنهج الخاطئ حُجب رأيه، وأخفي قوله؛ بل واتهم بالانغلاق والرجعية، وعدم فهم روح الشريعة. ولم ينس الناس بعد الحملة الشعواء من مشائخ الضلالة على من ما قال بمشروعية هدم الأصنام التي تعبد من دون الله تعالى. وهل أرسلت الرسل إلا لمحو الشرك، وهدم الأوثان، وإقامة التوحيد؟! ولكن هذا الأصل الذي لا يختلف فيه مسلمان كان محلاً للشك والجدال والاختلاف، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

وفي مثل هذه الأيام من كل عام تعرض الفضائيات المشاهد البدعية للاحتفال بمولد النبي -صلى الله عليه وسلم-. ومع خطورة ذلك، وأثره على جهلة المسلمين المقلِّدين، فإن كثيراً من مشائخ الفضائيات لم يكتفوا بذلك؛ بل حاولوا الاستدلال لهذه البدعة النكراء، واخترعوا مسوغات لفعلها، وأضفوا عليها شيئاً من الشرعية التي تخدع المتلقي الجاهل، وحجبوا الرأي الآخر في القضية، وهاجموا كل من ينكر هذه البدعة.

إنهم أخفوا عن المشاهد أصل هذه البدعة، وتاريخها، وحقيقة من أحدثها في الإسلام، والظروف التاريخية التي أحدثت فيها، وما هو قصد من أحدثها من هذا الابتداع؟!.

كل ذلك وغيره في حقيقة هذه البدعة قد أخفي عن المشاهد ولم يُعرض ولو من باب عرض الرأي الآخر كما يقولون! وأعظم من ذلك أنهم أوهموا المتابعين لبرامجهم أن لهذه البدعة أصلاً في الشريعة، وإجماعاً من الأمة، وقبولاً من علماء المسلمين؛ وهذا أقبح ما يكون غشاً وخداعاً وتضليلاً، وعدم احترام لعقول أولئك المشاهدين. فأي مصداقية يزعمونها؟ وأي موضوعية يتشدقون بها؟!.

إن أمة الإسلام مضت قرونها الثلاثة الأولى لم تعرف هذه البدعة، ولا احتفل فيها بها، وهي القرون التي زكاها النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأخبر أن الخلاف والبدع تكون بعدها، وهذا من علامات نبوته؛ إذ وقع ذلك كما أخبر به -عليه الصلاة والسلام-، ففي القرن الرابع الهجري ظهر بنو عبيد، المتسمون زوراً بالفاطميين؛ انتساباً إلى فاطمة بنت محمد -عليه الصلاة السلام- ورضي الله عنها وأرضاها.

ومن ثم خرجوا على الخلافة العباسية، وأقاموا الدولة الفاطمية في مصر والشام. ولم يرتض المسلمون في مصر والشام سيرتهم في الحكم، وطريقتهم في إدارة شؤون الناس؛ فخاف بنو عبيد من ثورة الناس عليهم، فحاولوا استمالة قلوبهم، وكسب عواطفهم، بإحداث الاحتفالات البدعية، فاخترع حاكمهم آنذاك المعز لدين الله العبيديُّ مولدَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وموالد لفاطمة، وعلي، والحسن، والحسين، ولجماعة من سلالة آل البيت، رضي الله عنهم وأرضاهم.

وتتابعت في دولتهم احتفالات أخرى اخترعوها لم تكن من قبل في الإسلام، كالاحتفال بالهجرة، ورأس السنة الهجرية، وليلة الإسراء والمعراج، وغيرها كثير.

وظلت هذه الموالد عند بني عبيد في مصر وبعض الشام، إلى أن انتهت دولتهم، وورثها من كانوا بعدهم، ولا يعرفها بقية المسلمين في شتى البقاع، بل أنكروها ولم يقبلوها تكملة القرن الرابع و طيلة القرن الخامس والسادس؛ إذ انتقلت عدوى هذه الاحتفالات في أوائل القرن السابع من مصر إلى أهل إربل في العراق، نقلها شيخ صوفي يدعى الملا عمر، وأقنع بها ملك إربل في العراق أبا سعيد كوكبري، ثم انتشرت بعد ذلك في سائر بلدان المسلمين، بسبب الجهل، والتقليد الأعمى، حتى وصلت إلى ما تشاهدونه في العصر الحاضر.

إذاً، كان الهدف الرئيس من إحداث الموالد هدفاً سياسياً لتثبيت حكم بني عبيد، ولم يكن لمحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا لمحبة آل بيته فيه أي نصيب.

وهذا الحكم يتبين بمعرفة حقيقة دولة بين عبيد، والاطلاع على شيء من سيرة المعز العبيدي الذي أحدث هذه الموالد.

فأما بنو عبيد فهم من ذرية عبد الله بن ميمون القداح المعروف بالكفر والنفاق و الضلال، والمشهور بعداوته لأهل الإيمان، ومعاونته لأهل الكفر والعدوان، ومن ذريته كان حكام بني عبيد الذين ظهروا في مصر في القرن الرابع الهجري وما بعده.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية فيهم: "وهؤلاء القوم تشهد عليهم الأمة وأئمتها أنهم كانوا ملحدين زنادقة، يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، وجمهور الأمة تطعن في نسبهم، ويذكرون أنهم من أولاد اليهود أو المجوس، وهم يدعون علم الباطن الذي مضمونه الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وعندهم: لا جنة ولا نار ولا بعث ولا نشور… ويستهينون باسم الله ورسوله، حتى يكتب أحدهم ﴿الله﴾ في أسفلِ نعله، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً".

وأما المعز الذي أحدث هذه الموالد فكانت له سيرة سيئة؛ إذ قرب اليهود والنصارى، وأقصى المسلمين، وحرف الأذان الشرعي، فهو أول من دعا بالأذان بــ"حيَّ على خير العمل"، ويكفي في بيان حقيقته أن الشاعر ابن هانئ الأندلسي مدحه فقال فيه: ما شِئْتَ لا مَا شَاءَت الأقْدَارُ *** فَاحْكُمْ فَأنْتَ الوَاحِدُ القَهَّارُ نعوذ بالله من الكفر والضلال.

فهل يشك عاقل في حقيقة هذا الرجل؟ وحقيقة دولته الباطنية؟ وهل يمكن أن يقال: إن دوافع إحداث هذه الموالد كان محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومحبة آل بيته؟ ومِن قِبَلِ مَنْ؟! من قِبل قوم كانوا يظهرون محبة آل البيت ويبطنون العقائد الفاسدة، ويمالئون أهل الكفر على أهل الإسلام، وماذا بعد الحق إلا الضلال؟!.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ [فاطر:8].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم…

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، والتزموا سنة نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، وإياكم والمحدثات! فإنها تباعد بين العبد وربه، وتؤدي إلى ترك السنن، وهي من أسباب سوء الخاتمة، ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران:31].

أيها المؤمنون: لم يكتف مشائخ الضلالة بجرِّ الناس إلى هذه البدعة المنكرة؛ بل حاولوا إقناعهم بأن الأمة كانت تحتفل بذلك على مر العصور، وأن هذه الموالد لم تنكرها إلا فئة محدودة من العلماء ينعتونهم بـ (الوهابيين) وهذا من أوضح الكذب والافتراء؛ إذ إن علماء كُثْراً من مصر والعراق والشام والمغرب وسائر الأمصار أنكروا هذه البدعة، وشنعوا على أهلها. وحصْر المنكرين لهذه البدعة في علماء الجزيرة العربية مقصود؛ لأجل إبطال الحق بإخفاء أنصاره، وإظهار الباطل بتكثير أتباعه.

وأوفى كتاب أُلِّف في تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي كتبه أحد المتحمسين لهذه البدعة، الناشرين لها، المحتفين بها، ذلكم هو المؤرخ المصري حسن السندوبي، ومع اهتمامه بتلك البدعة، وتأييده لها؛ فإنه اعترف في كتابه بأنها من المحدثات في الدين.

وقال في كتابه: (تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي) ما نصه: "وهنا يجمل بي أن أقول: إن هذه المواسم والأعياد والموالد وما شاكلها وجرى في سبيلها إنما تعد من البِدَع التي لم يأذن بها الله، ولا ورَد منها ما يشير إلى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر بها، أو أشار إليها، أو باشرها في قول أو فعل -حاشا عيدي الأضحى والفطر-، وكذلك لم يعرفها الصحابة على طبقاتهم، ولم يشهدها أحد من التابعين على درجاتهم، ولم ينوه بها أحد من الأئمة المجتهدين الذين ضبطوا أصول الشريعة، وحرروا فروعها، وبينوا مدلولاتها".

ثم ذكر بعد ذلك أن الواقع فرضها بإحداث الفاطميين لها، وأنه يؤيدها من باب ضغط الواقع ليس إلا، وهو ما قال هذا الكلام إلا بعد أن بحث ونقَّب في كتب التاريخ والآثار والفقه لعله يعثر على ما يدل على وجودها في الصدر الأول من الإسلام، فلما لم يعثر على شيء من ذلك بعد طول بحث وتنقيب اعترف بهذه الحقيقة المهمة.

إن هذه الاحتفالات لا تنفع الإسلام شيئا؛ بل ضررها ظاهر على المسلمين، واكبر دليل على ذلك دعم الكفار والمنافقين لها؛ بقصد هدم الشريعة، وتغيير معالم الملة، وتشويه صورة الإسلام، وحصره في مظاهر أولئك الدراويش الذين يتراقصون ويتمايلون في احتفالات المولد، ويوضح حقيقة ذلك ما ذكره المؤرخ الجبرتي في أخبار مصر من أن القائد الفرنسي نابليون -إبان استعماره لمصر- أمر الشيخ البكري بإقامة الاحتفال بالمولد، وأعطاه ثلاثمائة ريال فرنسي لأجل ذلك، وأمره بتعليق الزينات؛ بل إن نابليون حضر المولد بنفسه، واحتفل به مع المسلمين.

وكثير من العلمانيين الذين رفضوا الشريعة، وحاربوا الإسلام بأقوالهم وأقلامهم، يحضرون تلك الاحتفالات ويشجعونها؛ فلولا أنها من سبل هدم الديانة في قلوب الناس لما فعلوا ذلك، ولما فعله المستعمر النصراني الحاقد نابليون.

وبعد -أيها الإخوة- فإن ما يعرض حيال هذا الموضوع لَيكشف حقيقة الحياد والموضوعية التي تتشدق بها كثير من القنوات الإعلامية، ولن يتضرر الإسلام بذلك؛ لأن الله تعالى قد تكفل بحفظه؛ لكن الجهلة المتلقين عن هذه القنوات هم من سيتضرر بهذا الطرح الخبيث.

ألا فاتقوا الله ربكم، واحفظوا بيوتكم وأولادكم من وسائل الشبهات والشهوات، وأسباب الضلال والفساد، وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم.