التفاؤل زمن التشاؤم

عناصر الخطبة

  1. أهمية بث التفاؤل بين المسلمين
  2. عوامل النصر وأسباب الهزيمة
  3. الثقة في وعد الله مع الأخذ بالأسباب
  4. أسباب ووسائل تحقيق النصر
  5. الحكمة من تأخير النصر.
اقتباس

إن لله تعالى سننًا لا تتغيَّر يحكم بها الكون والحياة والإنسان،… وما أشبه الليلة بالبارحة، فما يصيب المسلمين اليوم في مشارق الأرض ومغاربها من تقتيل وتنكيل وتسلط لأعدائهم عليهم إنما هو لحكمة أرادها الله، فنظن به سبحانه أن يكون ذلك إرهاصاً لعودة…

الحمد لله الذي أفاض على عباده النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وأخبر عز وجل أن رحمته سبقت غضبه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، الذي كان يستعيذ بالله من الهمّ والحزَن، ويعجبه الفأل، واعلموا أن خير الحديث كتاب الله الذي يقول فيه: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 139].

أما بعد: أيها المسلمون: لقد سرى إلى نفوس كثير من الناس يأسٌ قاتل مما تمر به الأمة من مصائب متنوعة، وعلى أصعدة مختلفة؛ فمن استعمار لبعض بلادها، إلى قتل وتصفية رموزها، إلى استشهاد وذهاب بعض مجاهديها، إلى غير ذلك من نكبات وإحباطات.

بل لقد يأس البعض من عودة الإسلام إلى مكانته وعزته، وصاروا حين يسمعون الحديث عن مستقبل الإسلام تفترّ ثغورهم عن ابتسامة أقرب ما تكون إلى السخرية، ولسان حالهم يقول: كيف ينتصر المسلمون، والقوة والسلاح والمال والعلم المادي بأيدي أعدائهم؟! ويقولون أيضاً: إذا كان العرب انهزموا في معاركهم مع اليهود وهم عدد قليل، فكيف ينتصرون اليوم على القوى العالمية الكبرى التي تمتلك العتاد والرجال؟!

لذا كان لزاماً على أهل العلم والرأي، والدعاة والمصلحين أن يُشيعوا الأمل الصادق في نفوس الناس، بالذات في هذه الفترة، الأمل الذي يدعو إلى الثبات على الدين، والعضّ عليه بالنواجذ، والعمل على نُصرته، والذبّ عن حياضه، واليقين بأن نصر الله لن ينـزل على أوليائه بمعجزةٍ خارقة، ولكن بسُنّةٍ جارية يُمتحن فيها العباد؛ ليبلوهم ربهم أيهم أحسن عملاً، وهذا لا يتحقق بموعظةٍ تُتلى، أو خطبةٍ تُلقى، ولكن بقدوات صالحة قويةٍ، ذاقت حلاوة الإيمان، وصدّقت بموعود الله لأوليائه المتقين.

أيها المسلمون: إن نصوص الكتاب والسنة، وواقع الحضارة المادية، وواقع الأمة الإسلامية التي بدأت تفيق من رقدتها؛ إن هذا وتلك لتقول لكل منصِف بلسان الحال والمقال: الإسلام قادم، ولكن بعد استكمال أسبابه، وتحصيل وسائله، فالله يمنح النصر لمن يستحقه من عباده.

ملكنا أقاليم البلاد فأذعنت *** لنا رغبة أو رهبة عظماؤها فلما انتهت أيامنا علقت بنا *** شدائد أيام قليل رضاؤها وصرنا نلاقي النائبات بأوجد *** رقاق الحواشي كاد يقطر ماؤها إذا ما هممنا أن نبوح بما *** جنت علينا الليالي لم يدعنا حياؤها

نقولها بملء فمنا: إن جميع النظم الأرضية أفلست ولم يبق إلاّ الإسلام، ولا بدّ من عودة الناس إليه بإذن الله.

إن علاج المصائب أيها المسلمون لن يكون بالوجوم والتحازن، ولكن بالرأي السديد والعمل الرشيد، ولا شيء يدمر إمكانيات الأمة ويدحر مستقبلها أكثر من الحزن واليأس والقنوط.

ففي مكّة حيث الشدائد والأهوالُ ترى الرسولَ يذكّر أصحابَه بضرورة التحمّل والصبر، وفي نفس الوقتِ يطمئِنهم إلى المستقبل الزاهر للإسلام، ويبثّ الثّقةَ في نفوسهم، وأنَّ دينَهم سيُنير الدنيا من مشرقها إلى مغربِها؛ لتستقرَّ في الأعماق روح التفاؤل والاستبشار والأمَل، وأنَّ المجتمعات لا تسعَد إلا في ظلِّ هذه المعاني. ذلك أنَّ الهزيمة النفسيةَ مِن أنكى وأمرّ وأشدّ الهزائم خطراً على مستقبل الأمّة، وإنَّ واقع الذلّ والهوان هذا لا ينبغي أن يكونَ مسوِّغًا لليأس والقنوط.

أيها المسلمون: لئن كنا اليوم نعاني من نقص شديد في مجالات عديدة، تفوق فيها أعداؤنا علينا، كالمجال العسكري والتقني والإداري وغيره، لكن هناك مجال لا توجد أمة على وجه الأرض تملكه كأمة الإسلام، إنه مجال التضحية والبذل وحب الاستشهاد.. إن هذا الجانب جانب تفتقر إليه جميع الملل والأمم اليوم، ولا يملكه إلا المسلمون.

إنَّ الثقةَ بنصر الله تولِّد السكينةَ في المحن، فعندما لجأ رسولنا إلى الغار، واقترَب الأعداء حتى كانوا قابَ قوسين أو أدنى شاهرِين سيوفَهم، قال أبو بكر رضي الله عنه: "لو أنَّ أحدَهم رفع قدمَه رآنا"، فردّ عليه رسولنا بكل ثقة: "ما ظنّك باثنَين اللهُ ثالثُهما" أخرجه البخاري. ثقةٌ بالله ونصرِه، يقينٌ برفع البلاء، شعورٌ بمعيَّة الله تعالى.

ومن قبلُ يقِف موسى وجنوده عند شاطئ البحر، فيقول بعضهم: إنَّ فرعونَ مِن ورائنا، والبحر من أمامِنا، فأين الخلاص؟! (قَالَ أَصْحَـابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)، فيردّ نبي الله موسى عليه السلام في ثقة كاملةٍ بموعود الله: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبّى سَيَهْدِينِ) [الشعراء: 61- 62] فكان بعدها النصرُ والتمكين.

حينَ ينظر المسلم إلى المكر الكُبَّار الذي يُكاد للإسلام والمسلمين في هذه الأيام؛ قتلٌ وتشريدٌ وتعذيبٌ، ومع ذلك يبقى الإسلام صامدًا والإيمان قويًّا، حين ينظرُ المسلم إلى هذا الواقع لا يساوِره شكّ في تحقُّق نصر الله، وأنَّ المستقبل لهذا الدين ولو بعدَ حين، والمبشِّرات لهذا الدّين شرعًا وواقعًا أكثر من أن تُحصَى، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ فِي الأَذَلّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة: 20- 21].

إنَّ الدين محفوظٌ بحفظ الله (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـافِظُونَ) [الحجر: 9] فلا تخشَ على الإسلام، ولكن اخشَ على نفسك وإيمانِك وثباتك، قال الله تعالى: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـالَكُم) [محمد: 38].

إنَّ المبشِّرات بنصر الله لا تَعني تركَ العمَل، والتواكُل، والخلودَ إلى الدَّعة والكسَل، فنصرُ الله لا يتنـزَّل على نفوسٍ لُوِّثت بالمعاصي، وقلوبٍ مستعبَدَة للشهوات، مدنَّسةٍ بالحِقد والغلِّ والحسَد، وأُخوَّةٍ دبّ فيها داء الفُرْقة والتنازع والتناحر والتمزّق، هذه سنّة الله التي يجِب أن نفقهَها ونتعامل معها، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11].

قد يحصل أصحابُ الباطل على انتصارٍ مؤقَّت، لكن البناء الذي أُسِّس على قواعدَ فاسدةٍ لا بدَّ أن ينهار، ثمَّ تكون العاقبة للمتقين والنصر للمؤمنين، قال تعالى: (لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلَادِ، مَتَـاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) [آل عمران: 196- 197]، وعندما هاجر رسول الله وعده الله بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ [القصص: 85]، فعاد إلى مكّة سالمًا غانمًا منتصرًا، وتحقّق وعد الله.

أيها المسلمون: إن من مسائل التوحيد المهمة، والتي ينبغي أن نذكّر الناس بها هذه الأوقات، مسألة حسن الظن بالله، وفي الحديث القدسي قال الله تعالى: "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني" أخرجه البخاري ومسلم. وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله قبل موته بثلاثة أيام يقول: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل" أخرجه مسلم.

إن لحسن الظن بالله أثراً في حياة المؤمن، فلا يزال قلبه مطمئناً ونفسه آمنة راضية بقضاء الله وقدره، يتوقع الخير منه سبحانه دائماً في حال السراء والضراء، كما أن من أحسن الظن بربه فأيقن صدق وعده وتمام أمره، وما أخبر به من نصرة الدين والتمكين في الأرض للمؤمنين، اجتهد في العمل لهذا الدين والدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله بماله ونفسه، يُقدِم إقدام الواثق بنصر الله وموعوده لا يصرفه عن ذلك تسلط الكافرين وتخاذل المسلمين وضعفهم وهوانهم.

فهذه غزوة أحد قد حصل فيها الابتلاء للمؤمنين، وبين ظهرانيهم رسول الله كُسرت رباعيته وشُجّ رأسه وقُتل كوكبة من أصحابه، وفر بعضهم، حينها ظن المنافقون بالله ظن السوء. وكل هذا لحكمةٍ أرادها الله، فكان من حكمة هذا التقدير والابتلاء أن تميز صفّ المؤمنين وظهر المنافقون، وكل هذا قد حكاه الله في كتابه، فكان أول الأمر محنة وآخره منحة.

وقل مثل ذلك فيما حدث في غزوة الأحزاب؛ حيث زُلزلت القلوب، وبدا النفاق وقطعت اليهود المواثيق، وحصل للمؤمنين ما حصل من البلاء، فأعقبهم الله نصراً مبيناً وفرّق شمل عدوهم، وقذف الرعب في قلوب اليهود.

ومثل ذلك ما حدث للمسلمين حين غزاهم التتار، فحصل من الابتلاء ما الله به عليم، ومثله ما حصل للمسلمين بسبب الحملات الصليبية، وكل ذلك لحكمةٍ أرادها الله، فحصل من بعد ذلك نصر عظيم للمؤمنين قوّض الله به صروح الباطل، وأحيى به قلوب المؤمنين التي غلب عليها حب الدنيا والركون إلى أعدائهم، فكان بعد ذلك النصر والتمكين لأولياء الله.

وما أشبه الليلة بالبارحة، فما يصيب المسلمين اليوم في مشارق الأرض ومغاربها من تقتيل وتنكيل وتسلط لأعدائهم عليهم إنما هو لحكمة أرادها الله، فنظن به سبحانه أن يكون ذلك إرهاصاً لعودة الأمة إلى دينها، وتبصيراً لها بأعدائها من اليهود والنصارى والملحدين ممن لا يقيمون لدم المسلم وزنًا، وإن تعالت صيحاتهم بالعدل والمساواة وحقوق الإنسان، وتنبيهاً للأمة أيضاً بأن أعداءها لم يتخلوا عن توراتهم وإنجيلهم وعداواتهم وأحقادهم في الوقت الذي تخلت فيه الأمة عن العمل بكتابها وتاريخها، هذا ظننا بربنا أن يُعلي كلمته وينصر دينه، وهو سبحانه عند ظن عباده به ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 21].

أيها المسلمون: لا ريب أن من أعزِّ مقاصد المؤمنين وأشهى مطالبهم وغاية نفوسهم رؤيةَ دينهم ظاهراً، وكتاب ربهم مهيمناً، وعلوَّ راية التوحيد، والفرح بنصر الله.. نصرُ الله للمؤمنين حقيقة من حقائق الوجود، وسُنّة باقية من سنن الله، وقد يؤخَّر النصرُ لحكمةٍ يريدها الله، فتظهر باديَ الرأي هزيمة، وقد يُهزم الحق في معركة، ويظهر الباطل في مرحلة، وكلّها في منطق القرآن صورٌ للنصر، تخفى حكمتها على البشر، والمؤمنون غير مطالبين بنتائج، إنما هم مطالبون بالسير على نهج القرآن وأوامره، والنصر بعد ذلك من أمر الله، يصنع به ما يشاء، ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال: 17].

قد يتأخر النصر لأن بناء الأمة لم ينضج ولم يشتد ساعده، ولأن البيئة لم تتهيأ لاستقباله، ويتأخر النصر لتزيد الأمة صلتَها بالله، وهي تعاني وتتألم وتبذل ولا تجد لها سنداً إلا الله. وقد يتأخر النصر لتتجرَّد الأمة في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته. أما الباطل فمهما استعلى فهو طارئ وزاهق، ولا بد من هزيمته أمام الحق، قال الله تعالى: ﴿وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ [الإسراء: 81].

قد يتوهم بعض المسلمين أن الله سينصرهم ما داموا مسلمين، مهما يكن حالهم ومهما تكن حقيقة أعمالهم، والله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: 7]، ولم يقل: ما دُمتم مؤمنين فسأنصركم وأثبِّت أقدامكم، مهما تكن أحوالكم وأوضاعكم وأعمالكم!!

إن لله تعالى سننًا لا تتغيَّر يحكم بها الكون والحياة والإنسان، منها متطلبات النصر ومسببات الهزيمة. وإن النصر شرف، ولن يتنـزَّل على قلوب قاسية غافلة، ونفوس مريضة، وأحوال مغشوشة، في أمة تشعبت بها السبل، وتجارت بها الأهواء، وتعمقت في أخوتها الخلافات، وتلوّثت بسوء الظن.

والتاريخ يحكي لنا أحوال أقوام من أهل الإيمان جياع حفاة قلة، صدقوا مع الله، وتخلصوا من حظوظ أنفسهم، فنصرهم الله ومكَّن لهم ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [آل عمران: 126].

من أسباب النصر: الإخلاص: فالمخلص مؤيَّد من الله، مَكفيّ به، وعلى قدر إخلاص المرء لربه وتجرده له يكون مدد الله وعونه وكفايته وولايته، إن الإمداد على قدر الاستعداد، إمدادُ الله بالنصر والتأييد والتوفيق والتسديد على حسب ما في القلوب من تجريد النية وصفاء الطوية، قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً﴾ [الفتح: 18].

من أسباب النصر: نصرةُ دين الله، والقيام به قولاً وعملاً، واعتقاداً ودعوة، مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: قال الله تعالى (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الأُمُورِ) [الحج: 40- 41].

الدعاء أهم أسلحة النصر: لما صنع نوح عليه السلام السفينة لجأ إلى الله، واحتمى بحماه، ولم يركن إلى الأسباب وحدها، توجَّه إلى الله بالدعاء؛ لعلمه أن الدعاء يستمطر سحائب النصر، سجَّل لنا القرآن الكريم صِيَغ الدعاء التي دعا بها نوح ربه، وكيف أن الله استجاب له على الفور: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى المَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ(13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لّمَن كَانَ كُفِرَ(14)﴾ [القمر: 10- 14].

بارك الله لي ولكم…

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه..

أما بعد: أيها المسلمون: في الأجواء القاتمة في تاريخ الأمة تحتاج إلى وميض من نور وبشارة من أمل، تبشر بمستقبل مشرق، وهذا منهج القرآن، فحين كان يعاني رسول الله قلةَ العدد وضعف الشأن وخذلان العشيرة قصَّ الله على رسوله قصة يوسف، نزلت هذه السورة في جوِّ مكة الثقيل ليُبشَّر رسول الله بمستقبله العظيم المشرق الزاهر، فكأن قصةَ يوسف قصتُه.

لذا فمن أسباب النصر: زرع الأمل والتبشير بالوعد الحق، وهو نصر المؤمنين وتمكينهم، كي لا يتسرب اليأس إلى النفوس، فقد كان النبي يبشّر العصبة المؤمنة بالنصر والتمكين، وهم تحت وطأة التعذيب، ويقول: "إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها" أخرجه مسلم من حديث ثوبان رضي الله عنه.

بشرهم بأن المستقبل لهذا الدين، وأن هذا الإسلام ستُفتح له البيوت كلها فقال: "ليبلغنّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيتَ مدَر ولا وبَر إلا أدخله الله هذا الدين، بعزّ عزيز أو بذل ذليل، عزًّا يعزّ الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر" أخرجه أحمد من حديث تميم الداري رضي الله عنه.

دين الله سيعلو ونوره سيملأ الآفاق ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ [الصف: 8] فمن ذا يقدر أن يطفئ نور الله ؟! ومن يستطيع أن يحارب الله ؟!

بالمقاييس المادية يظنّ الناظر إلى أحوال المسلمين أنها سوداء قاتمة، وفي موازين الإيمان مبشّرةٌ مُطمئنة، فكلما اشتدّت المحن قرب انبلاج الفجر وتحققت المنح. لا يدري المسلم متى النصر، إلا أننا نعلم أن الأصل في الإسلام العلوُّ والسيادة والتمكين، فلا نستيئس من ضعف المسلمين حينًا من الدهر، فقد قال رسول الله : "الإسلام يعلو ولا يُعلى" أخرجه الإمام أحمد.

إنها بُشريات تذيب كل يأس، وتدفع كل قنوط، وتثبت كل صاحب محنة، وتريح قلب كل فاقد للأمل من أبناء هذا الدين، قال : "بشِّر هذه الأمة بالسناء والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض" أخرجه أحمد من حديث أُبي بن كعب رضي الله عنه.

هذا وعد الله، ووعد الله لا يُخلَف، لكنها مسألة التوقيت المقدور والأجل المحدود، ولئن مرّت الأمة بفترات ضعْف فلا ننسى أنها تقادير الله الذي يَقدر على إعادة عزّ ضاع، واسترجاع سيادة مضت.

أيها المسلمون: إن الأمة تمرّ في حالها الراهنة بأوضاعٍ من الضعف والتشتت وظلام الطريق، بينما يمرّ أعداؤنا بموجاتٍ من الاستعلاء والقوة، ونزعات التفرّد إن كل ذلك يشير إلى أفقٍ مضيء، وسبيلٍ عامرٍ بالأمل بإذن الله، نعم، لئن كان الباطل يزداد بطشاً وطغياناً وغدراً، وصورة ذلك جليةٌ في عدوان اليهود في فلسطين المحتلة، والصليبيين في العراق، في القتل والهدم، والتشريد والصلف والاستكبار. لئن كان الباطل يزداد بطشاً وطغياناً وغدراً بهذه الصورة، فإن ذلك عند المؤمن في إيمانه وبمعرفته بسنن الله هو بداية النهاية بإذن الله (حَتَّى إِذَا اسْتَيْـئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا) [يوسف: 110]، ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة: 214]، ﴿مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾ [الحشر: 2].

أيها المسلمون: طغيان القوة وغرورها، يجعل صاحبه لا يبالي بمواقف الآخرين ولا بحقوقهم، بل إنه ليستهين بالأعراف، ويستكثر على غيره أن ينظر في مصالحه أو يتمسّك بحقوقه أو يعتزّ بهويته وقيمه، فالضعفاء في ميزان الظلم لا حق لهم إلا الخضوع والاستسلام، حين تضعف الأمم يتفجّر الحقد المكبوت، وينهض الخصوم يناوشون من كل مكان.

إن الإنسانية كلها مدعوّة إلى التأمّل في الأخطار الرهيبة التي تنتظرها، إذا تجاهلت النُّذُر المتصاعدة من الصدور الحاقدة التي تبثّ نيران العداوات والصراعات المدمّرة، وازدراء الأمم في معتقدها وفكرها وديانتها، الظلم هو وقود الصراعات، والعنف لا يولّد إلا العنف، وعقلاء البشر، وقرّاء التاريخ يدركون أن قوة الظلم ما هي إلا كضوء شهاب سرعان ما ينطفئ.

إن الأمة الحيّة ولو كانت مستضعَفة فإنها لن تقبل الظلم، بل قد تكون هذه الضغوط والمتغيرات سبباً من أسباب يقظتها وحيويتها، فلا تهون عليها عزتها وكرامتها.

الأمة الكريمة الضعيفة، وإن كانت لا تقوى على المواجهة في مرحلةٍ من المراحل لكنها لا ترضى بالدنيّة في عزّتها ومبادئها، ولن ترضى أن تنظر للآخرين باستجداء أو استخذاء.

إن من الحق والحكمة الاعتراف بأن الهزائم قد تكون لازمة من لوازم بناء الأمم من أجل القضاء على صور الاسترخاء، ومظاهر الترف والفسق، ومن أجل الدُربة على تحمل الظروف القاسية، وزوال الطبقات الهشّة من أجل الوصول إلى القواعد الصلبة.

وقد تكون الهزائم أكثر مُلازمة عندما تسود في الأمة الأمراض الاجتماعية، وتشتد المظالم، وتُهمل الحقوق، ويفسق المترفون، ويكثر الخبث، فتكون الهزيمة عقوبة، وتُسلط الأعداء بلاءً لتستيقظ الأمة، وتتوجّه نحو العلاج فيكون التمحيص، وتكون التنشئة على الجدّ والمسيرة المبصرة، وحينئذٍ يستقيم المسار بإذن الله.

اللهم..